15. زيد الخير
زيد الخير
"لله درك يا زيد … أي رجل أنت؟! "
[محمد رسول الله]
الناس معادن؛ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام.
فإليك (١) صورتين لصحابي جليل خطت أولاهما يد الجاهلية، وأبدعت أخراهما أنامل الإسلام.
ذلك الصحابي هو "زيد الخيل" (٢) كما كان يدعوه الناس في جاهليته … و "زيد الخير" كما دعاه الرسول الكريم ﷺ بعد إسلامه.
أما الصورة الأولى فترويها كتب الأدب فتقول:
حكى الشيباني عن شيخ من بني "عامر" قال: أصابتنا سنة مجدبة (٣) هلك فيها الزرع والضرع، فخرج رجل منا بعياله إلى "الحيرة" (٤)، وتركهم فيها، وقال لهم: انتظروني هنا حتى أعود إليكم.
ثم أقسم ألا يرجع إليهم إلا إذا كسب لهم مالا، أو يموت.
ثم تزود زادا ومشى يومه كله حتى إذا أقبل الليل وجد أمامه خباء (٥)، وبالقرب من الخباء مهر مقيد؛ فقال:
هذا أول الغنيمة، وتوجه إليه وجعل يحل قيده، فما إن هم بركوبه حتى سمع صوتا يناديه: خل (٦) عنه واغنم نفسك، فتركه ومضى.
ثم مشى سبعة أيام حتى بلغ مكانا فيه مراح للإبل، وبجانبه خباء عظيم فيه قبة من أدم (٧) تشير إلى الثراء والنعمة، فقال الرجل في نفسه:
لا بد لهذا المراح من إبل، ولا بد لهذا الخباء من أهل.
ثم نظر في الخباء - وكانت الشمس تدنو من المغيب - فوجد شيخا فانيا في وسطه، فجلس خلفه، وهو لا يشعر به.
وما هو إلا قليل حتى غابت الشمس، وأقبل فارس لم ير قط فارس أعظم منه ولا أجسم (٨)، قد امتطى صهوة (٩) جواد عال، وحوله عبدان يمشيان عن يمينه وشماله، ومعه نحو مائة من الإبل، أمامها فحل كبير، فبرك الفحل، فبركت حوله النوق … وهنا قال الفارس لأحد عبديه:
احلب هذه - وأشار إلى ناقة سمينة - واسق الشيخ؛ فحلب منها حتى ملأ الإناء، ووضعه بين يدي الشيخ وتنحى عنه، فجرع الشيخ منه جرعة أو جرعتين وتركه … قال الرجل:
فدببت نحوه متخفيا، وأخذت الإناء، وشربت كل ما فيه، فرجع العبد وأخذ الإناء، وقال:
يا مولاي، لقد شربه كله، ففرح الفارس وقال:
احلب هذه - وأشار إلى ناقة أخرى - وضع الإناء بين يدي الشيخ، ففعل العبد ما أمر به، فجرع منه الشيخ جرعة واحدة وتركه، فأخذته، وشربت نصفه، وكرهت أن آتي عليه كله حتى لا أثير الشك في نفس الفارس.
ثم أمر الفارس عبده الثاني بأن يذبح شاة، فذبحها فقام إليها الفارس
وشوى للشيخ منها، وأطعمه بيديه حتى إذا شبع جعل يأكل هو وعبداه.
وما هو إلا قليل حتى أخذ الجميع مضاجعهم، وناموا نوما عميقا له غطيط (١٠).
عند ذلك توجهت إلى الفحل فحللت عقاله وركبته، فاندفع، وتبعته الإبل، ومشيت ليلتي.
فلما أسفر النهار نظرت في كل جهة فلم أر أحدا يتبعني، فاندفعت في السير حتى تعالى النهار.
ثم التفت التفاتة فإذا أنا بشيء كأنه نسر أو طائر كبير، فما زال يدنو مني حتى تبينته فإذا هو فارس على فرس، ثم ما زال يقبل علي حتى عرفت أنه صاحبي جاء ينشد (١١) إبله.
عند ذلك عقلت الفحل (١٢)، وأخرجت سهما من كنانتي (١٣) ووضعته في قوسي، وجعلت الإبل خلفي، فوقف الفارس بعيدا، وقال لي: احلل عقال الفحل … فقلت: كلا …
لقد تركت ورائي نسوة جائعات "بالحيرة" وأقسمت ألا أرجع إليهن إلا ومعي مال أو أموت.
قال: إنك ميت … احلل عقال الفحل - لا أبا لك (١٤) -.
فقلت: لن أحله …
فقال: ويحك (١٥)، إنك لمغرور …
ثم قال: دل زمام (١٦) الفحل - وكانت فيه ثلاث عقد - ثم سألني في أي عقدة منها أريد أن يضع لي السهم، فأشرت إلى الوسطى فرمى السهم فأدخله فيها حتى لكأنما وضعه بيده، ثم أصاب الثانية والثالثة …
عند ذلك، أعدت سهمي إلى الكنانة ووقفت مستسلما، فدنا مني وأخذ سيفي وقوسي، وقال: اركب خلفي، فركبت خلفه، فقال:
كيف تظن أني فاعل بك؟.
فقلت: أسوأ الظن.
قال: ولم؟!.
قلت: لما فعلته بك، وما أنزلت بك من عناء وقد أظفرك الله بي.
فقال: أوتظن أني أفعل بك سوءا وقد شاركت مهلهلا" [يعني أباه] في شرابه وطعامه، ونادمته تلك الليلة؟!!
فلما سمعت اسم "مهلهل" قلت: أزيد الخيل أنت؟.
قال: نعم.
فقلت: كن خير آسر.
فقال: لا بأس عليك، ومضى بي إلى موضعه وقال:
والله لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك، ولكنها لأخت من أخواتي، فأقم عندنا أياما فإني على وشك (١٧) غارة قد أغنم منها.
وما هي إلا أيام ثلاثة حتى أغار على بني "نمير" فغنم قريبا من مائة ناقة
فأعطاني إياها كلها، وبعث معي رجالا من عنده يحمونني حتى وصلت "الحيرة".
* * *
تلك كانت صورة زيد الخيل في الجاهلية، أما صورته في الإسلام فتجلوها كتب السير فتقول:
لما بلغت أخبار النبي سمع زيد الخيل، ووقف على شيء مما يدعو إليه، أعد راحلته، ودعا السادة الكبراء من قومه إلى زيارة "يثرب" (١٨) ولقاء النبي، فركب معه وفد كبير من "طيئ"، فيهم زر بن سدوس، ومالك بن جبير، وعامر بن جوين، وغيرهم وغيرهم، فلما بلغوا المدينة توجهوا إلى المسجد النبوي الشريف، وأناخوا ركائبهم ببابه.
وصادف عند دخولهم أن كان الرسول صلوات الله عليه يخطب المسلمين من فوق المنبر، فراعهم كلامه، وأدهشهم تعلق المسلمين به، وإنصاتهم له، وتأثرهم بما يقول:
ولما أبصرهم الرسول قال يخاطب المسلمين:
(إني خير لكم من العزى (١٩) ومن كل ما تعبدون …
إني خير لكم من الجمل الأسود الذي تعبدونه من دون الله).
* * *
لقد وقع كلام الرسول صلوات الله عليه في نفس زيد الخيل ومن معه
موقعين مختلفين؛ فبعض استجاب للحق وأقبل عليه، وبعض تولى عنه، واستكبر عليه …
فريق في الجنة وفريق في السعير.
أما "زر بن سدوس" فما كاد يرى رسول الله صلوات الله عليه في موقفه الرائع تحفه القلوب المؤمنة، وتحوطه العيون الحانية حتى دب الحسد في قلبه وملأ الخوف فؤاده، ثم قال لمن معه:
إني لأرى رجلا ليملكن رقاب العرب، والله لا أجعلنه يملك رقبتي أبدا … ثم توجه إلى بلاد الشام، وحلق رأسه (٢٠) وتنصر.
وأما زيد والآخرون فقد كان لهم شأن آخر: فما إن انتهى الرسول صلوات الله عليه من خطبته، حتى وقف زيد الخيل بين جموع المسلمين - وكان من أجمل الرجال جمالا، وأتمهم خلقة وأطولهم قامة - حتى إنه كان يركب الفرس فتخط رجلاه على الأرض كما لو كان راكبا حمارا …
وقف بقامته الممشوقة، وأطلق صوته الجهير (٢١) وقال:
يا محمد، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فأقبل عليه الرسول الكريم ﷺ وقال له: (من أنت؟).
قال: أنا زيد الخيل بن مهلهل.
فقال له الرسول صلوات الله عليه:
(بل أنت زيد الخير، لا زيد الخيل …
الحمد لله الذي جاء بك من سهلك وجبلك، ورقق قلبك للإسلام).
فعرف بعد ذلك بزيد الخير …
ثم مضى به الرسول إلى منزله، ومعه عمر بن الخطاب ولفيف (٢٢) من الصحابة، فلما بلغوا البيت طرح الرسول صلوات الله عليه لزيد متكأ، فعظم عليه أن يتكئ في حضرة الرسول ﷺ ورد المتكأ، وما زال يعيده الرسول ﷺ له وهو يرده ثلاثا.
ولما استقر بهم المجلس قال الرسول ﷺ لزيد الخير:
(يا زيد، ما وصف لي رجل قط ثم رأيته إلا كان دون ما وصف به إلا أنت) … ثم قال له: كيف أصبحت يا زيد)؟.
قال زيد: أصبحت أحب الخير وأهله، ومن يعمل به …
فإن عملت به أيقنت بثوابه، وإن فاتني منه شيء حننت إليه.
فقال: (هذه علامة الله فيمن يريد … ).
فقال زيد: الحمد لله الذي جعلني على ما يريد الله ورسوله …
ثم التفت إلى النبي ﷺ وقال له:
أعطني يا رسول الله ثلاثمائة فارس، وأنا كفيل لك بأن أغير بهم على بلاد "الروم" وأنال منهم.
فأكبر الرسول الكريم ﷺ همته هذه، وقال له:
(لله درك (٢٣) يا زيد … أي رجل أنت؟!).
ثم أسلم مع زيد جميع من صحبه من قومه.
ولما هم زيد بالرجوع هو ومن معه إلى ديارهم في "نجد"، ودعه النبي صلوات الله عليه وقال:
(أي رجل هذا؟! …
كم سيكون له من الشأن لو سلم من وباء المدينة!!).
وكانت المدينة المنورة آنذاك موبوءة بالحمى، فما إن بارحها زيد الخير، حتى أصابته، فقال لمن معه:
جنبوني بلاد "قيس"، فقد كانت بيننا حماسات (٢٤) من حماقات الجاهلية، ولا والله لا أقاتل مسلما حتى ألقى الله ﷿.
* * *
تابع زيد الخير سيره نحو ديار أهله في "نجد"؛ على الرغم من أن وطأة الحمى كانت تشتد عليه ساعة بعد أخرى؛ فقد كان يتمنى أن يلقى قومه، وأن يكتب الله لهم الإسلام على يديه.
وطفق يسابق المنية والمنية تسابقه؛ لكنها ما لبثت أن سبقته، فلفظ أنفاسه الأخيرة في بعض طريقه، ولم يكن بين إسلامه وموته متسع لأن يقع في ذنب (*).
_________
(١) إليك: خذ.
(٢) سمي كذلك لكثرة خيله.
(٣) مجدبة: لا مطر فيها ولا نبات.
(٤) الحيرة: مدينة في العراق بين النجف والكوفة.
(٥) الخباء: الخيمة.
(٦) خل عنه: اتركه.
(٧) الأدم: الجلد.
(٨) أجسم: أعظم جسما.
(٩) صهوة الجواد: موضع ركوب الفارس على ظهره.
(١٠) الغطيط: صوت النائم وشخيره.
(١١) ينشد إبله: يبحث عنها ويطلبها.
(١٢) عقلت الفحل: ربطت الجمل.
(١٣) الكنانة: الجعبة التي توضع فيها السهام.
(١٤) لا أبا لك: كلمة تقال في الشتم وفي المدح، والمراد بها هنا الشتم.
(١٥) ويحك: الويح الهلاك.
(١٦) الزمام: الرسن.
(١٧) على وشك: على قرب.
(١٨) يثرب: المدينة المنورة.
(١٩) العزى: صنم كبير من أصنام العرب في الجاهلية … انظر هدم الأصنام في كتاب "حدث في رمضان" للمؤلف.
(٢٠) حلق رأسه: أي فعل كما يفعل الرهبان حيث يحلقون رؤوسهم.
(٢١) الجهير: القوي الواضح.
(٢٢) لفيف: جمع.
(٢٣) لله درك: كلمة تقال للإعجاب، ومعناها: ما أكثر خيرك.
(٢٤) حماسات الجاهلية: ما كان يحدث بينهم من حروب.
مختارات