التسلط التربوي.. قبضة حديدية وآثار مدمرة
من علامات الفشل التربوي أن نتوارث طرق وأساليب آبائنا في تربيتنا لنطبقها نحن في تربيتنا لأبنائنا؛ ذلك أن لكل جيل ظروفه ومستجدات زمانه وطرق التأثير عليه والمؤثرة بالتالي على العملية التربوية، وطرق حياة تختلف كثيرا أو قليلا عن الجيل الذي سبقه.. فتربية جيل جديد بأساليب عتيقة لا يمكن أن تأتي إلا بجيل مشوه تربويا..
ولابد أن أشير وأؤكد أنني أتحدث عن طرق وأساليب التربية، ولا أتكلم عن مبادئ تربوية وأصول.. فالمبادئ والأصول لا تتغير بتغير الوقت واختلاف الأحوال.. فالصدق يبقى أصلا تربويا في كل زمان وإنما الذي يختلف هو أسلوب تعليم الناشئ كيف يكون صادقا، وقل مثل هذا في بقية الأصول التربوية. فليس الخلاف على المبادئ وإنما الأساليب المتبعة في ترسيخ تلك المبادئ وكيفية التعامل مع أولادنا لنصل بهم إلى القناعات اللازمة للمبادئ التربوية.
ومن هنا أقول: إن أسوأ ما يمكن أن يتوارثه آباء اليوم من آباء الأمس هو التسلط التربوي والذي قد يكون ممتزجا بالقسوة في غالب الأحيان أو بالشدة الخارجة عن حيز الاعتدال.
والتسلط التربوي هو إحكام قبضة الأب على أولاده بحيث لا يمكنهم الخروج عن مراداته ولا عن رؤيته هو لواقعهم ومستقبلهم. وهذا التسلط كما يكون في البيت يكون في المدرسة والجامعة وهو من أشكال التسلط التي تسود المجتمعات المتخلفة اجتماعيا وثقافيا.
وهذا التسلط له أسبابه:
فقد يكون وراثيا بمعنى أن الأب رباه أبوه بهذه الطريقة فأخذها منه وورثها عنه وجعل يطبقها على أولاده.
وقد يكون سبب التسلط رغبة الأب في تحقيق حلم فشل هو في تحقيقه بنفسه فهو يريد أن يحقق حلمه في أبنائه، كأب كان يتمنى أن يكون طبيبا جراحا أو مهندسا مثلا، ولكنه لسبب ما ضاع حلمه فلم يستطع تحقيقه.. فيسعى لإرغام أبنائه أو بعضهم على أن يدرسوا ليكونوا أطباء ليحققوا له ما عجز هو عن تحقيقه بنفسه.
وهذا جانب كونه فشلا تربويا فهو أيضا أنانية مطلقة أن يُرغَم الابن على فعل ما لا يحبه أو يشتهيه من أجل إرضاء شهوة في نفس أبيه.
وسبب آخر لهذا التسلط هو أن الأب يريد أن يبقى حاكم البيت الأوحد فلا ينازعه أحد في أي أمر، ولا ينبغي أن يخرج أحد عن طوعه أو أن خالف أمره في صغير أو كبير، وينسى في ظل هذا التخوف من ذهاب سلطانه أو خشيته أن ينازعه ذلك أحد أبنائه، أن الأولاد يكبرون وتتكون لهم شخصيات تحاول أن تكون مستقلة، ولها رأيها فإذا رآى الأب ذلك من أبنائه أو أحدهم ثار وقام حماية لحقوقه وخوفا من انتزاع سلطاته التي يظن خطأ أنه نوزع فيها.
قبضة حديدية وآثار مدمرة
إن بعض الآباء يحكم قبضته على أولاده ولا يريد لهم أبدا أن يتحرروا من تلك القبضة مهما بلغت سنهم أو طال عمرهم، وكلما كبر الأولاد وبدت عليهم ملامح المراهقة والرجولة ـ ومعها استقلالية الرأي ـ زادت قوة قبضة الأب ـ ربما خوفا عليهم من التفلت أو لما سبق ذكره من أسباب.. غير أن ازدياد هذه القبضة ليس له إلا إحدى نتيجتين:
الأولى: أن ينجح هو في تشديد قبضته فينكسر الولد تحت وطأة هذه الشدة، فيفقد الولد شخصيته، وتكون النتيجة نتاجا (ولد أو بنت) بلا رأي ولا قيمة ولا شخصية، لا يصلح أن يتخذ قرارا، ولا أن يبدي رأيا، ولا يحس لنفسه بقيمة، فهو كعدمه لا يصلح لينفع مجتمعه وأمته، أو حتى أن ينفع نفسه هو، هذا إذا نجى من الأمراض النفسية كالانطوائية والإحساس بالدونية، أو العدائية الشديدة أو غيرها.
الثانية: أن يقاوم الابن تلك القبضة حتى يزيحها تماما ويخرج عن السيطرة بامتياز، وليفقدها الأب إلى الأبد، ولا يبقى أمام الأب إلا أن يقبل بالواقع ويعيش هو وابنه كل في حاله، وتكون حياة أشبه بالعزلة الحقيقية أو الشعورية.. وإما أن يتشبث الأب بسلطته المنزلية فلا يقبل بوجود شخص متمرد فربما طرده من البيت ليفقده إلى الأبد.
المربي الذكي
إن المربي الذكي ليس هو الذي يُخضع من يربيه لرغباته أو يصل به إلى الطاعة العمياء لأوامره، وإنما المربي الناجح هو الذي يخفف قبضته على من يربيه كلما كبرت سنه ونضج عقله، حتى ترتفع تلك القبضة كليا مع تمام النضج العقلي للمربَّى، وإنما يبقى جانب التوجيه والإرشاد والتنبيه على الأخطاء وبيان وجهات النظر من خلال الحوار المستمر لا من خلال الأوامر والنواهي.
مختارات