التفحيط .. الهواية القاتلة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
فلا شك أن السيارة نعمة من نعم الله.. فكم قضت من حاجة.. وكم أسعفت من مريض.. وكم أغاثت من ملهوف.. ناهيك عن الطاعات والقربات من سير إلى المساجد.. أو حج وعمرة.. أو بر والدين.. أو صلة رحم.. أو عيادة مريض، أو ذهاب إلى عمل.. (وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم).. وغيره كثير.
فهي إذا نعمة عظيمة تستوجب شكرَ المنعم سبحانه، وتسخيرَها فيما يحبه ويرضاه.
لكننا في هذا الزمان رأينا كيف يحوّل بعض الناس هذه النعمة إلى نقمة!! ورأينا الشباب وهم يغامرون بالأرواح، ويضحون بالأبرياء، ويبددون للأموال، ويهددون سلامة المجتمع ومن فيه. من خلال ما يسمونه بهواية التفحيط.
وإذا تحدثنا عن ظاهرة التفحيط والتهور بالسيارة.. فإننا نتحدث عن ظاهرة مرعبة.. لكنها عند بعض شبابنا مجرد لعبة.
شباب متهور قد فتن بهذه الهواية القاتلة، يقومون بحركات قاتلة، ويتفننون في أنواع الحركات المميتة: من تربيع وتخميس، وسلسلة واستفهام، بل وحركة الموت التي يأتي فيها المتحدي من جهته بأقصى سرعة، ثم يقابل المتحدي الآخر وجهاً لوجه، والجبان هو من ينحرف عن الآخر!! وقد يكون كل منهما شجاعاً فتقع الكارثة.. والتي تنتهي غالبا بالبعض إلى القبر والبعض الآخر إلى الإنعاش.
لقد أصبح لهذه الظاهرة مواقف وأوقات تزداد فيها: كأيام المباريات، والتجمعات، وأوقات الامتحانات، حيث ينتشر الطلاب بعد الامتحان ما بين مفحط ومتفرج. ولقد فتن كثير من شبابنا بهذه الظاهرة وصار لها مشجعوها ومؤيدوها.
آثار وأضرار خطيرة
للتفحيط والتهور آثارٌ وأضرارٌ خطيرة على الشاب والأسرة والمجتمع، فمن هذه الأضرار:
أولا: قتل النفس: الموت وكفى به ضرراً. فالمفحط وهو يقوم بهذه اللعبة، يغامر بروحِه التي يحيا بها، وحواسِّه التي يشعر بها، وأطرافِه التي يتحرك بها. فكم من شاب أزهقت روحه، أو تفجرت جروحه، أو فقد عضوا من جسده.. إنها مسرحية الانتحار، فكيف يرضى العاقل أن يقتل نفسه أو يَشُلَّ جسده؟!!
زيارة قصيرة إلى قسم الحوادث بأي مستشفى سيهولك ما ترى من ضحايا هذه الهواية المميتة، قضوا على الأسرة أزمنة ليست بالقصيرة، ما بين فاقد للوعي أو مصاب بشلل نصفي أو رباعي، أو تحت التأهيل لعمر طويل. ندعو كل شاب لزيارتهم والوقوف على أحوالهم لعله يتعظ ويرتدع، فليس من رأى كمن سمع.
ثانيا: التعدي على الآخرين: بإتلاف أرواحهم، وتحطيم أبدانهم، وترويعهم في طرقاتهم. فكم من رجال ونساء، وأطفال أبرياء تحولوا إلى أشلاء بسبب تهور هؤلاء اللاعبين اللاهين.
في إحدى مستشفيات الخليجية امرأة عمرها يقارب الثلاثين عاماً، لا تشعر بمن حولها، لم يبق لها من الحياة إلا النفس والأكل عبر أنبوبٍ في أنفها، وفتحةٍ في حلقها.. هي على هذه الحالة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، بعد أن سحقتها سيارة أحد المفحطين بعد خروجها من المدرسة وعمرها آنذاك ثلاثة عشر عاماً.
ثالثا: الخسائر المادية في الممتلكات العامة والخاصة بسبب الحوادث.
رابعا: التفحيط مفتاح لجرائم متعددة: من سرقات، وجرائم أخلاقية.. ومسكرات ومخدرات. فما إن يدخل الشاب هذا العالم حتى يتعرف على مجموعة من المنحرفين الذين يفتـحون له أبـواب الشرور، فأغلبهم شباب فارغ عاطل لا يجد ما يشغله عن هذا البلاء، وهم في الغالب ليسوا من الشباب المنضبط أو المستقيم، أو المراقب من قبل ذويه.
خامسا: معاناة أسرة المفحط، فقد تسبب كثير منهم في معاناة أهلهم وأسرتهم وذويهم.. إما بسبب كونه مطلوباً للجهات الأمنية، أو بسبب مراقبة المنزل، أو بسبب الحوادث المترتبة على قيامه بالتفحيط، أو بسبب السمعة السيئة التي تلحق الأسرة بفعله.
سادسا: اختناق السير وتعطيل الحركة المرورية.. ووجود التجمعات الشبابية التي تكون سبباً في الفوضى، والتعدي على الناس والممتلكات.
حرام حرام:
وأما من الناحية الشرعية وموقف الدين من هذه الهواية القاتلة والفعلة الشنيعة.. فلا يشك من كان له أدنى رائحة من العلم الشرعي أن التفحيط محرم في الشريعة الإسلامية.. وأن مرتكبه متوعد بالعقوبة جزاء تعريض نفسه وإخوانه المسلمين للأذى في أرواحهم وأبدانهم وممتلكاتهم وقد قال تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وأثماً مبيناً).. وفي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال:[إن الله كـره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضـاعة المال، وكثرة السؤال].
وقد أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية بحرمة التفحيط، نظراً لما يترتب على ارتكابه من قتلٍ للأنفس، وإتلافٍ للأموال، وإزعاجٍ للآخرين، وتعطيلٍ لحركة السير.
الأسباب:
وإذا نظرنا إلى الأسباب والدوافع التي تقف وراء التفحيط والتهور في قيادة السيارة، نجد أن أبرز هذه الأسباب ما يلي:
ضعف الإيمان.. وحب الظهور والشهرة.. والفراغ القاتل.. وتقليد ومحاكاة رفقة السوء.. وضعف رقابة الأسرة، وغفلة كثير من الآباء عن أبنائهم، أو شراء السيارة للصغار منهم. وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون).
وهناك أيضا التربية الخاطئة، وقصور الدور التربوي في المحاضن التربوية كالمدارس والمساجد، أضف إلى ذلك عدم وجود العقوبة الرادعة، والمتابعة من بعض الدول لمنع ذلك والقضاء عليه.
ومن أعظم الأسباب ما تبثه وسائل الإعلام من أفلام ولقطات بطريقة تمجد أصحابها وتجعل ذلك نوعا من البطولة، فتثير حفيظة الشباب وتحبب إليهم هذه الفعلة، ويبدؤوا في تقليدها ونشرها.
الحلول:
وبعد هذا الاستعراض لأسباب هذه الظاهرة وخطورتها لنا أن نتساءل، ما هي أهم الحلول ـ ولو على الأقل في نظرنا ـ للتصدي لظاهرة التفحيط والتهور في قيادة السيارة؟
أولاً: لابد من رفع الوعي بين الشباب.. والتذكير بأضرار هذه الظاهرة، ونشر هذه الثقافة بين الصغار والكبار، وطائفة المراهقين والشباب خاصة، والمجتمع عامة حتى تكون ثقافة فاشية في المجتمع والمربين والمؤثرين.
ثانياً: التخويف من العقاب والعواقب:
فالتفحيط مغامرة بروح المفحط وأرواح الآخرين، والله تعالى نهى عن قتل النفس مهما كانت أو التعرض لذلك أو التسبب فيه فقال: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً).
أفيسرك أن تلقى الله وقد قتلت نفسك بهذا الفعل أو قتلت غيرك؟ والله تعالى يقول: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيرا}، والقتل هنا وإن لم يكن متعمدا إلا أنه صار من العلم الضروري أن حوادثه كثيرة وأرقامها مخيفة، وأعداد القتلى في تزايد، وهو تعريض للنفس للقتل وكذلك المشاهدين، والمسافرين والمارة كذلك.
والمصيبة أن بعض الشباب يموتون في بعض حوادث التفحيط على ترك الصلاة.. يموتون على المعصية.. يموتون على الأغاني المحرمة. نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
ثالثاً: على الآباء دور كبير في التصدي لهذه الظاهرة، في حسنِ تربيتهم، ومراقبتِهم سلوك أبنائهم، وعدمِ تمكين الصغار منهم من قيادة السيارة.
رابعاً: ولمدارسنا دور كبير في التصدي لهذه الظاهرة؛ برفع الوعي بين أبنائنا، ومتابعة وتقويم السلوكيات التي تصدر ممن يقومون بهذه الظاهرة، والتعاون مع الجهات المختصة للقضاء عليها.
خامساً: على الجهات الأمنية دور كبير في التصدي لهذه الظاهرة.. وذلك بإصدار القوانين الرادعة والمتابعات الدائمة لأماكن هذه التجمعات، وعدم التساهل في تطبيق العقوبات.
سادساً: لابد من احتواء أوقات الشباب.. وامتصاص طاقاتهم في النشاطات النافعة، أو البرامج الترفيهية البريئة.. عبر توفير فرص عمل مناسبة للقضاء على البطالة، ومحاولة شغل الأوقات في المراكز والمخيمات والملاعب، وتجهيز أماكن مناسبة لممارسة تلك الهواية تتوفر فيها شروط أمن وسلامة، ويفرغ الشاب فيها طاقته، ويشبع رغبته.
سابعا: رفع همم الشباب من خلال نشر الوعي الديني والأخلاقي والارتقاء بهم عن السفاسف، وتحميلهم المسؤولية عبر منافذ التربية ووسائل الإعلام التي يقع على عاتقها دور كبير في محاربة هذه الظاهرة، وتوجيه الشباب إلى ما فيه نفع دينهم وأنفسهم وأوطانهم.
نسأل الله أن يلهمنا وأبناءنا وشبابنا الهدى والرشاد.
مختارات