من وسائل تبسيط اللغة العربية لأبنائنا
لغة الأمة هي مصداق هويتها ونسق حياتها، ووعاء ثقافتها، ومرآة نهضتها، وحاضنة تراثها، وهي ذاكرة الأمة وتاريخها، ووجود الأمة مرتبط بوجود لغتها، والأمم التي انقرضت لغاتها زالت من الوجود، ولا بقاء لأمة يتخلى أهلها عن لغتها، واللغة هبة تميز الكائن البشري على ما عداه من الكائنات.
اللغة هي ضمير الأمة، ولا حياة لأمة تستعصي عليها لغتُها، وكما قال الشاعر:
الحي حي بحياة لسانه فإذا أبيد لسانه أبيدا
ومن المؤكد والمسلَّم به أن اللغة، وهي وعاء الفكر، تمثل مقياسًا خطيرًا من مقاييس الهوية والانتماء، وتظل بمثابة البوتقة التي تجمع تراث الأمة، وتستوعب مقومات فكرها وثقافاتها على توالى عصور التاريخ، فهي أداة التعبير ووسيلة التوصيل، وهي مادة التوثيق التي تضمن لفكر الأمة بقاءً وخلودًا.
أمة العرب أبعد اليوم ما تكون عن التصالح مع لغتها، وأبرز ما يرى ذلك في أطفال العرب، الذين لم تُعدّ لهم مناهج صالحة تجعلهم يندمجون مع لغتهم، ويتلبسون بها.
والطفل في حاجة شديدة إلى تكوين عقله وتقوية تصوره بالمطالعة، ولكنه لا يستطيع الصبر على مطالعة الكتب العلمية أو التهذيبية، فيجب أنْ يكون لديه كثيرٌ من كتب الحكايات؛ لتتربَّى عنده ملكة الإنشاء والفكر، ولكننا نخطئ كثيرًا في ذلك، فنمنع أطفالنا خصوصًا البنات من مطالعة تلك الكتب السهلة عليهم، فتكون النتيجة عدم مطالعتهم بالمرَّة لصعوبة الكتب الأخرى عليهم، وعدم ميل النفوس الصغيرة إليها، ويكون ذلك عادة لهم إذا كبروا، فلا يهمهم البحث عن نفائس العلوم في بطون الكتب والمجلات.
ولا شك أن الإنسان قابل للزيادة في العلم طول عمره، فإن تعود المطالعة كانت أعظم أستاذ ومساعد له في إحراز ما أراد، ولذلك اهتم المربون بتعويد الأطفال حب المطالعة؛ لأنها مفتاح العلوم، وإذا كان هؤلاء الغربيون يهتمون بوضع كتب فكاهية وروايات ليجذبوا الأطفال إلى مطالعتها، مع أن لغة المتكلم عندهم هي نفس لغة الكتابة، فإننا — نحن النطاقين بالضاد — أولى منهم بذلك، فالطفل يدخل في مدارسنا وهو جاهل باللغة التي يكتب بها، فلا نهتم بتسهيل ذلك عليه، بل نكثر له من القواعد المعقدة، ولا نُلفته إلى المطالعة خارج المدرسة، حتى إذا كبر عجز عن التعبير عن ضميره لقلة مادته، وجهله بمعاني اللغة العربية، وينصرف إلى مطالعة كتب الحكايات باللغة الأجنبية، فلا يلبث أنْ يجد اللغة الأجنبية أسهل عليه من اللغة العربية؛ وذلك لعدم مطالعة الكتب العربية.
إنَّ أعظم ما تُخْدَم به اللغة العربية الآن هو تأليف أو ترجمة حكايات وروايات مفيدة بإنشاء سهل جميل الأسلوب والعبارة وحفظها في مكتبات المدارس، وحث التلاميذ على مطالعتها، فقد سئمنا أنْ نرى التلميذ نابغة في النحو والصرف، ويعرف الإعلال والإبدال، ولكنه لا يستطيع حسن التعبير باللغة العربية الصحيحة لقلة مادته، وجهله بأساليبها ومعانيها، وبُعده عنها بُعدًا واسعًا.
فما بال المدارس لا تزال محجمة عن إدخال مثل هذه الكتب السهلة الممتعة في مكتباتها؛ ليطلع عليها التلاميذ كما يطلعون على أمثال ذلك في اللغات الأجنبية؟!.
يجب أنْ نحث التلاميذ على مطالعة الكتب الفصيحة بقدر ما يجب علينا إبعادهم عن قراءة الأفكار الساقطة والعبارات الركيكة، ومن الأسف أنْ مثل هذه الكتب المنحطة قد نشرت في بلدان العرب، بكثرة كاثرة حتى يكاد لا يخلو منها بلد، فلا تكاد تصادف تلميذًا صغيرًا مهتم بالقراءة إلا وفي يده كتاب من كتب الحكايات المكتوبة باللغة العامية، أي بتلك اللغة المتغيرة الساقطة التي هي مجموعة غلطات في نفس اللغة العربية وخليط من لغات أخرى متعددة، وتدلنا عبارات تلك الكتب المنحطة عن انحطاط مؤلفيها، فهي تنفث الفساد في قلوب الأطفال، وتعودهم أسلوبًا ساقطًا منحطًّا في كتاباتهم، وكان يجب على المدارس مصادرة مثل هذه الكتب، ولو صادرتها الحكومة لكان ذلك أنفع للأمة من مصادرة الصحف.
يميل التلاميذ لقراءة مثل هذه الكتب لعدم وجود كتب حكايات سهلة باللغة العربية الصحيحة، فهم لكثرة مطالعتهم لها يُقلِّدونها في إنشائها، فقد اعتادوا على أسلوبها مهما أرشدهم المعلمون إلى الأسلوب الصحيح، وحذروهم ذلك الأسلوب المنحط، فكلما بنى المعلمون الأكفاء هدمت تلك الكتب ما بنوه، وضيعت مجهوداتهم سدًى، فلو رفع هؤلاء المعلمون قضية مدينة يطلبون فيها التعويض من مؤلفي تلك الكتب الساقطة أمام قاضٍ ذكيٍّ عادل لحكم لهم بذلك؛ لما ينالهم من الضرر في مهنتهم.
واجب الكتاب والأدباء أن يجدوا في سبيل استنقاذ أطفالنا، ووضع مناهج عربية مبسطة في شكل روايات، وقصص تخدم لغة القرآن، وتسهم في نشر الوعي، وبناء جيل جديدة معتز بلغته وانتمائه.
إن الشعوب حياتها بلغاتها ومماتها بالإهمال والنسيان
إنَّ الروايات إذا كُتِبَت بقلم نابغة يحمل هم أمته، يستطيع فيها تمثيل الأخلاق والعادات، ووضع ذلك في قالب جميل وعبارات جزلة تشَوَّقَ الأطفال والشبان إلى قراءتها، وتكون لهم بمثابة " نظارة مكبرة "، ينظرون بها الفضيلة ماثلة، والرذيلة مجسمة، فينغرس في نفوسهم حب الأولى والنفور عن الثانية.
ولا يتصور أن تكون للأمة شخصية متفردة، وأبناؤها عالة على لغة الأجنبي، فاللغة جزء من تكوين الإنسان، وهو تبع للّغة التي يتكلم بها قطعا.
ولا شك أن الاهتمام باللغة القومية يظل مؤشرًا من مؤشرات الاهتمام بالقومية ذاتها، حيث تظل اللغة معبرة عن الوعي الجماعي للأمة، مرتبطة كل الارتباط بهوية أبنائها، معبرة عن وحدة صفوفهم، ووحدة أهدافهم، ووحدة فكرهم في آنٍ واحد.
مختارات