تدبر سورة آل عمران (2)
وهل هناك تجارة بالدين؟
نعم.. بلا شك هناك تجارة بالدين..!
هذا ليس أمرًا حديثًا وليس قاصِرًا على دينٍ بعينه ولقد ذكره ربنا في كتابه ولا ينكر وجود تلك المتاجرة إلا جاهل أو جاحد..
يقول الله جل وعلا في سورة آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران من الآية:77]..
إنها حالة تجارة واضحة واستفادة من الدين وعهده وأيمانه مقابل ثمن قليل رصدها كتاب الله وجعل عليها وعيدًا في الآخرة..
{أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77]..
أيضًا في نفس السورة قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]..
تأمَّل..
{اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}..
هذه حالةٌ أخرى اختار أصحابها أن يُتاجِروا بما معهم من كتاب مقابل الثمن القليل..
وهو وإن ظهر للناس أنه لا يُعد ولا يُحصى فإن يظل قليلًا إذا قورن بما عند الله ينتظرهم إن لم يُفرِّطوا فيما معهم من الخير..
ولقد اقترن بتلك المتاجرة إلقاء لما معهم من العلم خلف الظهور وكتمان العلم وترك البيان {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}..
إذن فتلك التجارة الخاسرة آخِرًا وإن ربحت ثمنًا قليلًا عاجلًا موجودة ومرصودة ولا يمكن إنكارها..
ولا شك أنه دائمًا يوجد وسيوجد من يتخذ الدين مهنة والقربات مصدرًا للمنفعة والاستغلال..
وفي الحديث الصحيح: «بَشِّرْ هذه الأُمةَ بِالسَّناءِ والدِّينِ والرِّفعةِ والنَّصرِ والتَّمكينِ في الأرضِ فمَنْ عَمِلَ مِنهمْ عَمَلَ الآخرةِ للدُّنْيا لَمْ يَكُنْ له في الآخرةِ من نَصيبٍ» (صحيح الجامع).
لكن هل هذا هو الأصل؟
هل مطلوب منا أن نسيء الظن في كل من عمل عملًا ظاهره الصلاح ونقول: أنه إنما يُتاجِر به وأن له أغراضًا خبيثةً من ورائه أو يبتغي به أهدافًا عاجلة ومآرب دنيوية قاصرة؟!
الحقيقة أن هذا من أبشع الظلم وأشنعه ويعد من الرجم بالغيب إن أطلق هكذا بغير دليل ثابت وقرائن واضحة
والله جل وعلا يقول في آل عمران أيضًا: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:199]..
هذا هو العدل الرباني والقسطاس القرآني المستقيم..
كما أن هناك من هم بالدين مُتاجِرين فهناك من لا يقبل ذلك ولا يشتري بآيات الله ثمنًا قليلًا..
هم أيضًا يُتاجِرون لكن تجارتهم مختلفة تمامًا..
إنها تجارة مع الله..
تجارةً لن تبور..
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]..
هؤلاء موجودون وكذلك الآخرون المنتفعون المستغلون..
لا يُنفى وجود هؤلاء ولا يُساء الظن دومًا بأولئك..
فقط يتبيَّن المرء ويحذر من تجارة الدين والمتاجرين بالدين ولا يستاقَ في الوقت نفسه خلف تلك الفوبيا..
فوبيا التجارة بالدين!
***************
وفي إطار التحذير من الافتتان في الدين والوقوع في الشبهات - بيَّن اللهُ في سورة آل عمرانالوسائل المثلى للنجاة من تلك الفتن وسُبل الثبات على العقيدة السليمة.
• فالقرآن والسنة أهم أسلحة المسلم أمام هذه الحرب الفكرية: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران من الآية:101].
• وتقوى الله حق التقوى هي جهاز المناعة للمسلم، وببركة هذه التقوى يقيه الله شرّ الفتن ويحجبها عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
• والاعتصام بالله ولزوم الجماعة المسلمة والأخوة الإيمانية من الوسائل الناجعة التي تُعين على الثبات في وجه أمواج الإضلال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران من الآية:103].
وقوله: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران من الآية:101].
وقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عظيم} [آل عمران:105].
• والدعوة إلى الخير ووجود الدعاة والمصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من أهم خطوط الدفاع أمام حرب الشبهات التي دار حولها ذلك الجزء من سورة آل عمران، ويظهر ذلك في قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
*******************
وبعد المصائب أو الهزائم يتفاوت رد الفعل على قدر الدين وصلابته في نفوس الناس..
فتجد رد فعل أهل التقوى والإيمان يختلف عن رد فعل رقيقي الديانة مِمَّن لا يحمِلون رسالة ولا ينشغلون بهموم أُمَّتِهم..
وإن كثيرًا من الناس قد يُصيبهم شكٌ بعد المصائب الكبرى والهزائم الثقيلة ويكون أول ما يتبادر إلى أذهانهم سؤال رئيسي: ماذا حدث ولماذا؟
أما أهل التقوى والدين وحملة رسالته مِمِّن يحملون هَمَّه على عواتقهم فتُصيبهم مشاعر مختلفة وتطرأ عليهم ردود فعل مغايرة..
تجد شعورًا بالحزن والأسى النابع عن هموم الأمة التي تنوءُ بها عواتقهم وتجيش بها صدورهم..
وشعور بالرغبة في التغيير ومعرفة الخلل لإصلاحه..
فنجد في آل عمران تلك الآية الجامعة التي تخاطب تلك الانعكاسات الناتجة عن المصيبة التي نزلت بالمسلمين يوم أُحد..
{هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138].
فتأمَّل هنا:
1- البيان: وهو هنا للناس بعمومهم ويشمل ذلك الجميع ممن لم يفهموا ما حدث ويحتاجون لوضوحٍ في الرؤية ومعرفة الحكمة كي لا يُفتنوا عن دينهم.
بينما خُصَّ المتقون بأمرين مختلفين وهما:
2- الهدى: أي التوجيه والإرشاد لهؤلاء الإيجابيين الذين يريدون الإصلاح والتغيير.
3- الموعظة: وفيها الرفق والمواساة لأولئك المحزونين الذين تتفطَّر قلوبهم كمِدًا لِما لحق بأُمّتهم.
لاحظ مرةً أخرى أن النوعين الأخيرين جعلهما الله للصنف الذي ميَّزه عن عموم الناس بلفظ " المتقين ".
وتنتظم جُلّ الآيات التي تتعلَّق بغزوة أُحد في السورة تحت نوع من هذه الثلاثة:
- إما بيانٌ للناس..
- وإما هدىً..
- وإما موعظةٌ للمتقين.
مختارات