" الغَضَــب "
" الغَضَــب "
#### النهي عن الغَضَب في السنة النبوية:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني قال: (لا تغضب، فردد مرارًا، قال: لا تغضب) [رواه البخارى].
قال الخطابي: (معنى قوله: (لا تغضب) اجتنب أسباب الغَضَب، ولا تتعرَّض لما يجلبه) [فتح البارى،لابن حجر].
وقال ابن التين: (جمع صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تغضب) خير الدنيا والآخرة؛ لأنَّ الغَضَب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه، فينتقص ذلك من الدين) [فتح البارى،لابن حجر].
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشَّديد بالصُّرَعة، إنَّما الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغَضَب) [رواه البخارى ومسلم].
قال ابن بطال: (أراد عليه السلام أن الذي يقوى على ملك نفسه عند الغضب ويردها عنه هو القوى الشديد والنهاية في الشدة لغلبته هواه المردي الذي زينه له الشيطان المغوي، فدل هذا أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو؛ لأن النبي عليه السلام جعل للذي يمكل نفسه عند الغضب من القوة والشدة ماليس للذي يغلب الناس ويصرعهم) [شرح صحيح البخارى،لابن بطال].
#### أقوال السلف والعلماء في الغَضَب:
- قال عمرُ بنُ عبد العزيز: (قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى، والغَضَب، والطمع) [شرح صحيح البخارى،لابن بطال].
- وقال الحسن: (أربعٌ، من كُنَّ فيه عصمه الله من الشيطان، وحرَّمه على النار: مَنْ ملك نفسَه عندَ الرغبة، والرهبة، والشهوةِ، والغَضَب) [شرح صحيح البخارى،لابن بطال].
- (وحكي أن الفضيل بن عياض كان إذا قيل له: إنَّ فلانًا يقع في عرضك، يقول: والله لأغيظنَّ مَن أمره، يعني: إبليس، ثم يقول: اللهم إن كان صادقًا فاغفر لي، وإن كان كاذبًا فاغفر له.
- وقال جعفر بنُ محمد: الغَضَبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ) [جامع العلوم والحكم،لابن رجب].
- وقال عبد الملك بن مروان: (إذا لم يغضب الرجل لم يحلم؛ لأن الحليم لا يعرف إلا عند الغَضَب) [روضة العقلاء،لابن حبان البستى].
- وقيل لابنِ المبارك: (اجْمَعْ لنا حُسنَ الخلق في كلمة، قال: تركُ الغَضَب) جامع العلوم والحكم،لابن رجب].
- وقال الحسن: (المؤْمن حَليم لا يَجهل وإن جُهل عليه، وتلا قولَ الله عزَّ وجلَّ: " وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا " [الفرقان: 63]) [العقد الفريد،لابن عبد ربه].
#### من آثار الغَضَب:
لا شكَّ أنَّ الغَضَب له آثار سيئة على نفس الغاضب، في مظهره، وفي لسانه؛ بأن ينطق كل قبيح، وله آثاره السيئة على المجتمع الذي من حوله:
(ومن آثار هذا الغَضَب في الظاهر، تغير اللون، وشدَّة رعدة الأطراف، وخروج الأفعال عن الانتظام، واضطراب الحركة والكلام، حتى يظهر الزَّبد على الأشداق، وتشتد حمرة الأحداق، وتنقلب المناخر، وتستحيل الخلقة، ولو يرى الغَضَبان في حال غضبه صورة نفسه، لسكن غضبه حياءً من قبح صورته، لاستحالة خلقته، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره، فإنَّ الظَّاهر عنوان الباطن، إذ قبح ذاك إنما نشأ عن قبح هذا، فتغيُّر الظاهر ثمرة تغير الباطن، هذا أثره في الجسد.
وأما أثره في اللسان؛ فانطلاقه بالقبائح، كالشتم، والفحش، وغيرهما، مما يستحي منه ذَوُو العقول مطلقًا، وقائله عند فتور غضبه على أنَّه لا ينتظم كلامه، بل يتخبَّط نظمه، ويضطرب لفظه.
وأما أثره في الأعضاء، فالضرب فما فوقه إلى القتل عند التمكن، فإن عجز عن التشفي رجع غضبه عليه، فمزَّق ثوبه، وضرب نفسه وغيره، حتى الحيوان والجماد - بالكسر - وغيره، وعدَا عدو الواله السكران، والمجنون الحيران، وربما سقط وعجز عن الحركة، واعتراه مثل الغشية، لشدة استيلاء الغَضَب عليه.
وأما أثره في القلب، فالحقد على المغضوب عليه، وحسده، وإظهار الشماتة بمساءته، والحزن بسروره، والعزم على إفشاء سره، وهتك ستره، والاستهزاء به، وغير ذلك من القبائح) [الزواجرعن اقتراف الكبائر].
#### أقسام الغَضَب:
ينقسم الغَضَب إلى قسمين: غضب مذموم، وغضب ممدوح.
1- الغَضَب المذموم:
وهو الذي نُهي عنه وذُمَّ في الأحاديث التي وردت وهو خلق سيئ؛ (لأنه يخرج العقل والدين من سياستهما، فلا يبقى للإنسان مع ذلك نظرٌ، ولا فكرٌ، ولا اختيار) [مختصر منهاج القاصدين،لابن قدامة].
2- الغَضَب المحمود:
وهو أن يكون لله عزَّ وجلَّ عند ما تنتهك حرماته، والغَضَب على أعدائه؛ من الكفَّار، والمنافقين، والطَّغاة، والمتجبِّرين، وقد ذكر القرآن ذلك للرُّسل الكرام في مواضع عديدة، ووردت أحاديث كثيرة تدل على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يغضب لله عزَّ وجلَّ، قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ " [التوبة:73].
قال الكلاباذي في قوله تعالى حكاية عن موسى: " مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي " [طه: 92 -93] قال: (فكانت تلك الحدَّة منه، والغَضَب فيه صفة مدح له، لأنَّها كانت لله وفي الله، كما كانت رأفة النَّبي صلى الله عليه وسلم ورحمته في الله ولله، ثم كان يغضب حتى يحمرَّ وجهه، وتذَرَّ عروقه لله وفي الله، وبذلك وصف الله تعالى المؤمنين بقوله ": أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ " [الفتح:29] وقال تعالى: " أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ " [المائدة: 54]) [معانى الأخبار].
#### من أسباب الغَضَب:
من أسباب الغَضَب: (العُجب، والافتخار، والمراء، واللجاج، والمزاح، والتيه، والضيم، والاستهزاء، وطلب ما فيه التنافس، والتحاسد، وشهوة الانتقام) (والمضادة، والغدر، وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهذه أخلاق رديئة مذمومة شرعًا) [مختصر منهاج القاصدين،لابن قدامة].
(ومن أشد البواعث على الغَضَب عند أكثر الجهال؛ تسميتهم الغَضَب شجاعةً، ورجوليةً، وعزة نفس، وكبر همَّة، وتلقيبه بالألقاب المحمودة، غباوةً وجهلًا، حتى تميل النفس إليه وتستحسنه، وقد يتأكد ذلك بحكاية شدَّة الغَضَب عن الأكابر في معرض المدح بالشَّجَاعَة، والنفوس مائلة إلى التشبه بالأكابر، فيهيج الغَضَب إلى القلب بسببه، وتسمية هذا عزة نفس، وشجاعة، جهلٌ، بل هو مرض قلب، ونقصان عقل، وهو لضعف النفس، ونقصانها) [إحياء علوم الدين،للغزالى].
من الأسباب المعينة على ترك الغضب:
1- الالتزام بوصية النَّبي صلى الله عليه وسلم في عدم الغضب.
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله، دلَّني على عمل يدخلني الجنَّة، قال: لا تغضب) [صححه لغيره الألبانى فى صحيح الترغيب].
2-ضبط النَّفس عن الاندفاع بعوامل الغَضَب.
- (أن يذكر الله عزَّ وجلَّ فيدعوه ذلك إلى الخوف منه، ويبعثه الخوف منه على الطاعة له، فيرجع إلى أدبه ويأخذ بندبه:
قال الله تعالى: " وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ " [الكهف: 24] قال عكرمة: يعني إذا غضبت، وقال سبحانه: " وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200]، ومعنى قوله ينزغنك أي: يغضبنك " فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " [فصلت: 36] يعني أنَّه سميع بجهل من جهل، عليمٌ بما يُذهب عنك الغَضَب...
3- أن يتذكر ما يؤول إليه الغَضَب من الندم ومذمة الانتقام.
4- (أن يحذر نفسه عاقبة العداوة، والانتقام، وتشمير العدو في هدم أعراضه، والشماتة بمصائبه، فإن الإنسان لا يخلو عن المصائب، فيخوِّف نفسه ذلك في الدنيا إن لم يخف في الآخرة.
5- أن يتفكَّر في قبح صورته عند الغَضَب.
6- أن يتفكَّر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام، مثل أن يكون سبب غضبه أن يقول له الشيطان: إن هذا يحمل منك على العجز، والذلة والمهانة، وصغر النفس، وتصير حقيرًا في أعين الناس، فليقل لنفسه: تأنفين من الاحتمال الآن، ولا تأنفين من خزي يوم القيامة والافتضاح إذا أخذ هذا بيدك وانتقم منك ! وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس، ولا تحذرين من أن تصغري عند الله تعالى وعند الملائكة والنبيين !
#### نماذج من غضب النَّبي صلى الله عليه وسلم عندما تنتهك حرمات الله:
النَّبي صلى الله عليه وسلم ما كان يغضب لنفسه، وما كان ينتصر لها، بل كان غضبه لله وحينما تنتهك حرماته.
وإليكم نماذج من غضب النَّبي صلى الله عليه وسلم عندما تنتهك حرمات الله.
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفي البيت قرام فيه صور، فتلوَّن وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، وقالت قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: من أشد النَّاس عذابًا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور) [رواه البخارى ومسلم].
- وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: (أتى رجل النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا، قال: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قطُّ أشد غضبًا في موعظة منه يومئذ، قال: فقال يا أيُّها الناس، إنَّ منكم منفِّرين، فأيُّكم ما صلى بالنَّاس فليتجوز فإنَّ فيهم المريض، والكبير، وذا الحاجة) [رواه البخارى ومسلم].
- وعن عبد الله، رضي الله عنه قال: (بينا النَّبي صلى الله عليه وسلم يصلي رأى في قبلة المسجد نخامة، فحكها بيده، فتغيَّظ ثم قال: إنَّ أحدكم إذا كان في الصلاة فإنَّ الله حيال وجهه، فلا يتنخمنَّ حيال وجهه في الصلاة) [رواه البخارى].
- وعن عائشة رضي الله عنها (أنَّها قالت: رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر، فتنزَّه عنه ناس من النَّاس، فبلغ ذلك النَّبي صلى الله عليه وسلم، فغضب حتَّى بان الغَضَب في وجهه، ثمَّ قال: ما بال أقوام يرغبون عمَّا رخِّص لي فيه، فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدَّهم له خشيةً) [رواه مسلم].
#### نماذج من أحوال الصحابة عند الغَضَب:
عمر رضي الله عنه:
روي أن رجلًا قال لعمر: (إنَّك لا تقضي بالعدل، ولا تعطي الحق، فغضب واحمرَّ وجهه، قيل له: يا أمير المؤمنين، ألم تسمع أنَّ الله يقول: " خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ " [الأعراف: 199] وهذا جاهل، فقال: صدقت، فكأنما كان نارًا فأطفئت) [رواه البخارى].
معاوية رضي الله عنه:
(خطب معاوية يومًا، فقال له رجل: كذبت، فنزل مغضبًا فدخل منزله، ثم خرج عليهم تقطر لحيته ماءً، فصعد المنبر فقال: أيها الناس، إن الغَضَب من الشيطان، وإن الشيطان من النَّار، فإذا غضب أحدكم فليطفئه بالماء، ثم أخذ في الموضع الذي بلغه من خطبته) [رواه تبن قتيبة فى عيون الأخبار].
أبو الدَّرداء رضي الله عنه:
أسمعَ رجلٌ أبا الدرداءَ رضي الله عنه كلامًا، فقال: يا هذا، لا تغرقن في سبِّنا، ودع للصلح موضعًا، فإنَّا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه [أدب الدنيا والدين،للماوردى].
نماذج من حال السلف عند الغَضَب:
علي بن الحسين:
حُكيَ أنَّ جارية كانت تصبُّ الماء لعلي بن الحسين، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجَّه، أي: جرحه، فرفع رأسه إليها، فقالت له: إنَّ الله يقول: " وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ " فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: " وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ " قال لها: قد عفوت عنك، قالت: " وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " [آل عمران: 134] قال: اذهبي فأنت حرَّة لوجه الله.
عمر بن عبد العزيز:
(أسمعه رجل كلامًا، فقال له: أردتَ أن يستفزني الشيطان بعزِّ السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدًا، انصرف رحمك الله) [عيون الأخبار،لابن قتيبة].
دخل عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة، فمرَّ برجل نائم فعثر به، فرفع رأسه وقال: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا، فهمَّ به الحرس، فقال عمر: مه، إنما سألني أمجنون؟ فقلت: لا [الطبقات الكبرى،لابن سعد].
المهدي:
(قيل: غضب المهدي على رجل، فدعا بالسياط، فلمَّا رأى شبيب شدَّة غضبه، وإطراق الناس، فلم يتكلموا بشيء، قال: يا أمير المؤمنين، لا تغضبنَّ لله بأشد مما غضب لنفسه،فقال: خلُّوا سبيله) [مختصر منهاج القاصدين،لابن قدامة].
مختارات