اسم الله الأعلى 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم ، إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
من أسماء الله الحسنى : ( الأعلى ) :
أيها الإخوة الكرام ، مع اسم جديد من أسماء الله الحسنى، وهو اسم ( الأعلى ).
1 ـ ورودُ اسم ( الأعلى ) في القرآن والسنة :
أيها الإخوة ، ورد هذا الاسم في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الصحيحة ، قال تعالى : " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " [الأعلى:1] .
الفرقُ بين المطلَق والنسبيّ :
أريد أن أوضح لكم الفرق بين المطلق والنسبي :
قد نرى قاضياً أصدر ألف حكم ، خمسة أحكام ليست عادلة ، لكن بقية الأحكام عادلة ، هو عندنا قاض عادل ، لكن عدله نسبي ، لكن إذا قلت : الله عز وجل عدلٌ ، فعدله مطلق ، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن يظلِمَ في ملكه مخلوقا ، كمال الله مطلق ، لكن المشكلة أحياناً أن الإنسان يحاول أن يبحث بعقله عن عدل الله ، لا يمكن أن يدرك عدل الله بعقله إلا بحالة مستحيلة ، أن يكون له علم كعلم الله ، لذلك نحن جميعاً في حياتنا آلاف القصص نعرف الفصل الأخير منها ، هذه القصص التي نعرف الفصل الأخير منها ليست صالحة للنشر ، لكن بحكم علاقتنا الحميمة أحيانا نطلع علي قصة من أول فصل إلى آخره تتضح عدالة الله المطلقة ، أنت حينما تؤمن أن أسماء الله حسنى وصفاته فضلى ، أيْ أن عدله مطلق ، رحمته مطلقة ، حكمته مطلقة .
2 ـ من لوازم ( الأعلى ) أن كل شيء وقع أراده الله ، وكل شيء أراده الله وقع لحكمة :
ولابد من توضيح الحقيقة بهذه العبارة ، كل شيء وقع أراده الله وكل شيء أراده الله وقع وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق ، إذا قلت : سبحان ربي الأعلى ، إذا قرأت قوله تعالى : " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " [الأعلى:1] .
كل أسمائه كاملة كمالاً مطلقاً ، أما نحن بني البشر فيمكن أن نصف إنسانا بالعدل ، وفي بعض أحكامهم حكم ليس كما ينبغي ، يمكن أن نصف إنسانا بالرحمة ، وفي بعض تصرفاته تصرف ليس كما ينبغي ، لكن الإله العظيم إذا وصفته بأنه عادل أو رحيم أو حكيم فأسماءه حسنى ، بمعنى مطلقة .
3 ـ من لوازم ( الأعلى ) أن الله لا يغفل عن أعمال العباد :
لكن مثلا : الله عز وجل قال : " وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ " [إبراهيم:42] .
أنت متى تنهى ؟ لو قلت لك : إياك أن تصل إلي الشمس ، هذا كلام ليس له معنى إطلاقاً ، لأنك لن تستطيع أن تصل إلي الشمس ، لا يكون النهي نهيا حقيقيا إلا إذا كان بالإمكان أن يقع المنهي عنه ، فقد أقول لك : لا تتأخر ، يمكن أن تتأخر فأنهاك عن التأخر ، لا تكذب ، يمكن أن يكذب الإنسان فينهى الأب ابنه عن الكذب ، فالنهي يعني أن المنهي عنه يمكن أن يقع ، هذه الحقيقة الأولى .
إذا قال الله عز وجل : " وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ " [إبراهيم:42] معنى ذلك أنه قد يبدو لبعض البشر أو لمعظم البشر اليوم ، اليوم بذات أن الله غافل عما يعمل الظالمون ، فلحكمة بالغة الإله العظيم له امتحان صعب ، ونحن واقعون فيه ، هذا الامتحان الصعب بأنْ يقوّي أعداءه ، إلى أن يفعلوا ما يريدون فيما يبدو لقاصري النظر ، إلى أن يقول ضعيف الإيمان : أين الله ؟ وقد قيل : أين الله .
تجد بلادا إسلامية مضطهدة ، مسلوبة الإرادة ، أمرها ليس بيدها ، ليست كلمتها هي العليا ، تعوم علي ثروات هائلة ، لها موقع استراتيجي رائع ، ومع ذلك حرب عالمية ثالثة معلنة علي هذا الدين في كل أنحاء الأرض ، فالإنسان في ساعة ضعف قد يتوهم أن الله غافل ، فيأتي الجواب : " وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ " [إبراهيم:42] .
4 ـ من لوازم ( الأعلى ) أنه منزَّه عن ظلم العباد :
لذلك أنا أنصح الإخوة الكرام ألا تتورط برواية قصة لا تعرف فصولها كلها ، إن كنت تعرف الفصول كلها من أول فصل إلى آخر فصل فيجب أن يقشعر جلدك لعدل الله عز وجل ، ولكن نحن نرى الظاهر ، نرى إنسانا مضطهَدا ، نرى إنسانا رزقه قليل ، والله عز وجل يقول : " مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ " [النساء:147] .
مستحيل وألف ألف مستحيل أن يُظلَم الإنسان بلا ذنب منه :
" وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ " [الشورى:30] .
" ما من عثرة ، ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم " [أخرجه ابن عساكر عن البراء] وحسن الظن بالله ثمنه الجنة ، وضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية .
فيا أيها الإخوة ، حينما تقول : سبح اسم ربك الأعلى معنى سبح يعني نزِّهه ، معنى سبح مجِّد ، فيجب أن تنفي عن الله عز وجل كل نقص متوهم ، لذلك قالوا : الله واحد أحد ، واحد ليس له شريك ، وأحد ليس له مثيل ، فكلمة أعلى كلّ شيء أعلى في حكمته ، كل شيء وقع أراده الله ، وكل شيء أراده الله وقع ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، معنى بالحكمة المطلقة أن الذي وقع لو لم يقع لكان الله ملوماً : " وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " [القصص:47] .
هذه المصائب التي تترى على المقصرين ، على المذنبين ، على الشاردين ، على الغافلين ، لو أن الله عز وجل لم يضيق عليهم ولم يعالجهم لقالوا يوم القيامة : " وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " [القصص:47] .
الرسول هنا المصيبة : " وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " [القصص:47] .
أيْ مصيبة : " فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى " [طه:134] .
الدنيا دار ابتلاء وامتحان والآخرة دار الجزاء والخلود :
لذلك أيها الإخوة ، حينما تحسن الظن بالله ، وحينما تسبح الله ، وحينما تمجد الله ، وحينما تعلم علم اليقين أن أسماء الله حسنى ، أي كاملة كمالا مطلقا ترتاح نفسك ، وهذا هو الإيمان الصحيح ، أما أن تقول : لا إله إلا الله ، ولك اعتراضات لا تعد ولا تحصى علي تصرفات الله عز وجل ، فليس هذا من الإيمان ، والعوام لهم كلمات هي الكفر بعينه ، يقول لك مثلا : الله يعطي الحلوى لمن ليس له أسنان ، هذا الكلام ليس له معنى إطلاقاً ، لأن الدنيا دار ابتلاء .
أيها الإخوة ، ورد في بعض الآثار أن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي .
أيها الإخوة الكرام ، حياتنا الدنيا إذا قيست بالآخرة صفر ، أوضح لكم ذلك :
مثلا : ضع الرقم (1) في الأرض ، وأصفارا إلى الشمس ، وكل ميليمتر صفر ، ما هذا الرقم ، هل يمكن لعقل أن يستوعب هذا الرقم ؟ واحد في الأرض ومئة وستة وخمسة مليون كيلو متر من الأصفار ، وكل ميليمتر صفر ، هذا الرقم ضعه صورة لكسر ، وضع مخرجه لا نهاية ، القيمة صفر ، هذا من بديهيات الرياضيات ، أيّ رقم مهما كان كبيراً إذا نسب إلى اللانهاية فهو صفر ، الآخرة لا نهاية .
طبعا الله عز وجل وزع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء ، قال تعالى : " انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا " [الإسراء:21] .
قد تجد امرأةً تأتي من أقصى الدنيا كي تخدم في بيت لتأخذ أجرا يسيرا جداً كي تطعم أطفالها ، من دون اليوم الآخر ينشأ عندك مليون سؤال ، مليون مشكلة ، لكن اليوم الآخر يومٌ أبديّ إلي ما شاء الله ، لذلك الإنسان قد يخسر الحياة الدنيا ، قد تكون حياة الإنسان متعبة ، خشنة، دخله قليل ، لكنه مستقيم ، والذي طغى وبغى ونسي المبتدا والمنتهى علي الشبكية يعيش في بحبوحة كبيرة جداً ، لكن العبرة في الدار الآخرة ، لذلك سيدنا علي رضي الله عنه يقول : " الغنى والفقر بعد العرض على الله " .
عدلُ الله مطلقٌ لا يشوبه ظلمٌ :
النقطة الدقيقة في بداية هذا الموضوع الدقيق أن أفعال البشر نسبية ، وكمالهم نسبي ، والإنسان في الأعم الأغلب حكيم ، في الأعم الأغلب رحيم ، في الأعم الأغلب عادل ، لكن كمال الله مطلق ، لا يمكن أن يظلم عصفورا في ملك الله من آدم إلي يوم القيامة ، هذا الإيمان ، لأن الله عز وجل قال : " لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ " [غافر:17] .
" وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا " [الإسراء:71] في نواة التمرة رأس مؤنّف كالإبرة تماماً ، هذا اسمه نقير ، وبين فلقتي النواة خيط، هذا اسمه الفتيل ، وفي النواة غلالة رقيقة قشرة شفافة هذه هي القطمير .
" وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا " [النساء:124] .
ولا قطميرا : " فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ " [الأنبياء:47] هذا اليقين بكمال الله يريح النفس ، والإيمان شيء ثمين جداً ، والمؤمن متوازن .
مثلاً : الله عز وجل قال : " أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ " [الشورى:53] .
" أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ " هناك سؤال كبير : بيد مَن كانت الأمورُ حتى آلت إليه ، الأمر بيد الله في الدنيا والآخرة ، والآية متعلقة بالآخرة ، لكن يبدو مِن صياغتها أن الأمر في الدنيا ليس بيد الله ، ماذا قال علماء التفسير ؟ قالوا : هؤلاء الذين شردوا عن الله ، هؤلاء الغافلون ، هؤلاء ضعاف الإيمان يرون في الدنيا آلهة غير الله ، يرون الأقوياء آلهة ، يرون الطغاة آلهة ، لكن المؤمن الحقيقي لا يرى في الدنيا مع الله أحداً ، لا يرى فعّالاً إلا الله ، لا يرى قهاراً إلا الله ، لا يرى ناصراً إلا الله ، لا يرى معطياً إلا الله ، لا يرى رافعاً إلا الله ، ولا خافضاً إلا الله ، ولا معزاً إلا الله ، هذا هو التوحيد ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد .
فلذلك الأعلى من أسماء الله الحسنى ، فهو واحد أحد ، واحد لا شريك له ، أحد ليس كمثله شيء .
5 ـ من لوازم ( الأعلى ) كمالُ الخَلقِ والتصرُّفِ :
الله عز وجل قال : " فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ " [المؤمنون:14] سمح لذاته العلية أن توازن مع مخلوقاته ، وقد وصف الله بعض مخلوقاته مجازاً أنها خالقة ، لكن الإنسان إذا صنع شيئاً يصنع شيئاً من كل شيء، بينما خالق البشر إذا خلق شيئاً يخلق كل شيء من لا شيء ، وإذا صنع الإنسان شيئاً يصنعه من كل شيء ، وعلى مثال سابق ، بينما خالق البشر يصنع كل شيء من لا شيء ومن دون مثال سابق ، فالله عز وجل سمح أن توازن ذاته العلية مع عباده كي تعرف الفرق .
أحيانا يصنعون كُليةً صناعية حجمها كحجم هذه الطاولة ، يجب أن تستلقي إلي جانبها ثماني ساعات في الأسبوع ثلاث مرات ، وازن بين هذه الكلية الصناعية وبين الكلية الطبيعية ، هذا العضو الذي لا صوت له يعمل بانتظام ليلاً نهاراً ، وأنت مرتاح ، وأنت نائم .
وازن بين آلة التصوير وبين هذه العين ، آلة التصوير بالمليمتر مربع فيها أكثر من عشرة آلاف مستقبل ضوئي ، أما العين ففي المليمتر مربع من الشبكية مئة مليون مستقبل ضوئي ، العين البشرية تفرق بين ثمانية ملايين لون ، القرنية شفافة شفافية مطلقة ، مع أن الغذاء يتم في كل أنسجة الجسم عن طريق الأوعية ، إلا في القرنية فعن طريق الحلول : " صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ " [المؤمنون:88] .
نقطة دقيقة : كمال الخلق يدل على كمال التصرف ، في الخلق إعجاز ، في خلق السماوات والأرض ، في خلق الإنسان ، في خلق الحيوان ، في خلق الأطيار ، في خلق الأسماك ، النباتات شيء معجز ، أيعقل أن يكون هذا الإعجاز في خلقه لا يقابله كمال في تصرفاته ؟ لذلك قالوا : هناك آيات كونية ، وهناك آيات تكوينية ، وهناك آيات قرآنية ، الآية العلامة الدالة علي عظمة الله ، فالآيات الكونية خَلقه ، والآيات التكوينية أفعاله ، والآيات القرآنية كلامه ، لكن الأولى أن تبدأ بآياته الكونية ، لأنها واضحة لا لبس فيها ، جلية حاسمة ناطقة بكماله ، أن تبدأ بآياته الكونية ، وأن تثنّي بآياته القرآنية ، وأن تؤخر التفكر في أفعاله بعد أن تتفكر في خلقه ، وبعد أن تتدبر كلامه ، خلقه وكلامه يلقيان ضوءًا علي أفعاله .
للمرة الأخيرة : لا يمكن أن ندرك عدل الله بعقولنا ، لأن عقلنا قاصر ، تفكروا في مخلوقات الله ، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا .
دائرة المحسوسات والمعقولات والإخباريات :
دائرة المحسوسات : العقل البشري قاصر ، وكنت أقول دائما : هناك دائرة اسمها دائرة المحسوسات ، أداة اليقين فيها الحواس الخمس ، ومع تقدم العلم واستطالاتها كالمراصد والمجاهر ومكبرات الصوت إلى آخره ، الدائرة الأولي دائرة المحسوسات وهي شيء ظهرت عينه وآثاره أداة اليقين به الحواس الخمس واستطالاتها .
دائرة المعقولات : أما الدائرة الثانية فهي دائرة المعقولات ، هذه الدائرة شيء غابت عينه ، وبقيت آثاره ، أداه اليقين في هذه الدائرة الثانية العقل ، العقل مرتبط بالواقع ، شيء غابت عنك عينه ، طريق ترابي ، رأيت آثار عجلات ، تقول : لقد مرت سيارة على هذا الطريق يقيناً ، ومن مسافة ما بين العجلتين تقدر حجم السيارة ، ومن عرض العجلة تقدر مستواها ، إذاً : أنت بآثار العجلات أيقنت أن هناك سيارة مرت ، فالماء يدل علي الغدير ، والأقدام تدل علي المسير ، هذا اليقين الاستدلالي يقين عقلي ، لكن في اليقين العقلي ذات الشيء غابت ، وبقيت آثاره ، لكن من دون آثار العقل لا عمل إطلاقاً .
أيها الإخوة ، الله عز وجل لا تدركه الأبصار ، ولكن تصل إليه العقول ، لا أقول : تدركه ، بل تصل إليه العقول ، كما لو أنك تركب مركبة يمكن أن تقلّك إلى البحر ، لكن لن تستطيع بهذه المركبة أن تخوض أمواج البحر ، هذا اليقين الثاني ، العقل مرتبط بالواقع ، في الواقع قرص مدمج فيه سبعة آلاف كتاب ، لو سألت إنسانا مات قبل خمسين عاما : هل تصدق أن في قرص سبعة آلاف كتاب ؟ مكتبة بأكملها بأربعة جدران ممتلئة بالكتب من الأرض إلي السقف في قرص صغير ، وبنصوص مضبوطة بالشكل ، وفيها بحث ، وقد نبحث في كل هذه الكتب في ثلاث عشرة ثانية ، شيء لا يصدق ، لكن الآن هذا شيء واقع ، العقل مرتبط بالواقع ، أما لو سألت إنسانا : مات قبل خمسين عاما فإنه يتهم من يقول هذا الكلام بالجنون .
الدائرة الثانية : شيء غابت عينه ، وبقيت آثاره ، أداة اليقين به العقل ، الكون كله آثر من آثار الله عز وجل ، الكون كله ينطق بوجود الله عز وجل ووحدانيته وكماله ، الكون كله ينطق بأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى ، هذا شيء واضح .
دائرة الإخباريات :
أما الدائرة الثالثة فهنا المشكلة ، الدائرة الثالثة شيء غابت عينه ، وغابت آثاره ، لا أثر أبداً ليوم القيامة ، لو جبت الأرض كلها هل ترى يوم القيامة ؟ هل ترى آثاره ؟ الجن ، الملائكة ، وعندك آلاف الموضوعات أخبرنا الله بها ، أداة اليقين بهذه الدائرة الثالثة الخبر الصادق ، لذلك حينما لا تخلط بين الدائرة الأولى والثانية والثالثة فهذه القضية حسية ، هذه القضية عقلية ، هذه القضية إخبارية ، ترتاح وتنتظم الأمور ، لذلك قضية اليوم الآخر دليلها إخبار الله لنا ، الدنيا محسوسة ، ترى المرأة الجميلة علي شبكية العين ، وترى القصر الرائع علي شبكية العين ، وترى الطعام الطيب على شبكية العين ، وترى المركبة الفارهة على شبكية العين ، ولكن الآخرة والجنة كلمات في القرآن الكريم : " وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى " [الضحى:4] .
الإيمان بالغيب شيء عظيم :
لذلك الإٍيمان بالغيب شيء عظيم جداً :
"الم(1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ" [البقرة:1-3] البطولة أن تؤمن بالغيب .
أنت متجه إلي حمص ، لك مبلغ ضخم في هذه المدينة ، وخرجت من دمشق ، فإذا لوحة كتب عليها في ظاهر المدينة : الطريق إلى حمص مغلقة بسبب تراكم الثلوج في مدينة النبك ، ترجع، لكن ما الذي دعاك إلى أن ترجع ؟ هذا النص ، خمس كلمات غيرت اتجاه المركبة ، لكن لو أن دابة تمشي على هذا الطريق أين تقف ؟ في حمص ، ما الذي حكم هذه الدابة ؟ حكمها الواقع ، ما الذي حكم الإنسان ؟ حكمه النص ، هذا الإيمان بالغيب ، الله أخبرك بجنة ونار وحساب : " فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " [الحجر:92-93] .
خـاتمــة :
هناك حساب دقيق ، وتسوية حسابات بين البشر ، لذلك ما من ركنين من أركان الإيمان تلازما كركن الإيمان بالله واليوم الآخر .
إذًا : " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " [الأعلى:1] كماله مطلق ، وكمال البشر نسبي ، هو واحد أحد ، واحد لا شريك له ، وأحد لا مثيل له .
مختارات
-
" معاناة الآباء في تربية الأبناء "
-
" الانطلاقة الرابعة والعشرون "
-
القرآن في مواجهة الصراع
-
اطرق الباب
-
" النيـة "
-
سير السلف في اجتهادهم في العبادة بين اﻹفراط والتفريط
-
" ما يترتب على الامتثال من خير وعلى الإهمال من شر "
-
القاعدة الثانية: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ...)
-
شرح دعاء " اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني"
-
أنواع الكسوف الشمسي