الاستقصاء
الاستقصاء في تطلّب الكمال في كل شيء، في التعبد، في الحقوق، في الصداقة، في الحب، في العلم، في المهارات، في التربية، في العدل، في الجمال، في العمل، في القول،…الخ، هذه بليّة جميلة، ومؤذية، تبتلى بها بعض النفوس العليّة، وذوي الهمم الشريفة، من أصحاب الأمزجة الحادة، والأذهان النافذة، وممن هم دون ذلك. وأصل الاستقصاء فضيلة، فلا يرضى بالفتات، وظواهر الأشياء، وأقل الممكن، إلا الضعفة، والنفوس الصغيرة. وصاحب الطبع المستقصي يريد أن يعرف كل شيء مما يدخل تحت القدرة البشرية، ويطمح لتصنيف كتب عظيمة، وأبحاث غير تقليدية، كما يسعى لتكوين صداقة استثنائية، من النوع الذي لا يوجد إلا في الكتب، ويرسم خططاً لأعمال هائلة، وإذا أحبّ شيئاً، كتاباً، أو عالماً، أو فكرةً، أو عملاً، أو فتاةً، فإنه يمضي بهذا الحب إلى نهايات الطريق البعيدة. لا يعيش إلا بعاطفة متفجّرة، دفّاقة، وثّابة، تجاه كل ما يميل إليه، فهو مدفوع من داخله برغبة محمومة مشتعلة لبلوغ النهايات من كل شيء. وحتى لو كان صاحب هذا الطبع منحلاً رقيق الديانة، فهو لا يرضى إلا بأرقى ألوان الشرور، ولا يكتفي بأوائل خطوات الفساد، بل يخوض طريق الفجور إلى نهايته الممكنة، فالاستقصاء شيء كامن في بعض الطباع، يكون في الخير وفي الشر.
ولكن هذا الاستقصاء وإن كان يدفع للإتقان والرفعة إلا أنه كثيراً ما يقعد صاحبه، ويرهقه، ويحبطه، ويجعله عرضة مستمرة لفساد المزاج، وتكدر الخاطر، وحدّة الطبع، وجفاء الخُلق، كما يصيّره نقّاداً، يرى العيوب في كل صغيرة وكبيرة، بل حاذقاً في اكتشاف الثغرات، والنقائص الخفيّة، في كل ما يراه مما لا يتفق مع تخيلاته عن الكمال والإتقان والاكتمال. كما يرافق هذه النزعة -في بعض الأحيان- سرعة تسلل الملل لنفس المستقصي، لأنه قد يتيسر له بلوغ بعض الكمالات، بعد بذل الجهد، ومطاولة الزمن، فإذا وصل لبعض الكمال المرجو، سرعان ما يملّه، ويتركه إلى ما ورائه، ويظل يلهث في صحراء مقفرة. فإن استطاع صاحب هذا الطبع أن يروّض نوازعه ودوافعه، وأن يحسن التفاوض معها، فإنها تكون وقوداً له، وعاصفة تطير به في المراتب العالية، في العلم، والعمل. وإن فشل في ترويضها وعقلنتها، كانت له ناراً يحترق بها.
مختارات