الأديان الجديدة
منذ أن خرج الانسان القديم عن سنن الوحي فعبد الاصنام ومجسمات الصالحين وسائر المبصرات العظيمة، وحتى التاريخ المعاصر، حيث توهم الإنسان الحديث أنه فارق الدين بصورة نهائية، وهو في حقيقة الأمر لم يفارق الدين كبنية ذهنية، ورؤية كلية، وإطار عمل، فالبنية التصورية عن العالم، والأشياء، والآليات الداخلية لاشتغال الأنظمة العقائدية وعموم الآيديولوجيات الأرضية، تحمل جذور بنيوية واحدة برغم كل التناقضات الظاهرية، ففي السياسة مثلاً أشار كارل شميت إلى أن (كل المفاهيم البارزة في النظرية الحديثة للدولة هي مفاهيم لاهوتية معلمنة)، فأضحت “سيادة الشعب” مكان سيادة الله، و”الدستور” مكان الكتاب المقدس، وأمسى مصلحة الوطن العليا مقدسةً، والمقتول في سبيله “شهيداً”، بل حتى على المستوى الرمزي والطقوسي، تبدو الأناشيد الوطنية في مقابل التلاوات والمأثورات الدينية، والخشوع أمام العلم هو شكل من أشكال الصلوات المعلمنة…الخ.
وفي الأخلاق استبدل كانط -مثلاً- “العقل” مكان الإيمان، و”الإرادة البشرية” مكان الإرادة الإلهية، و”الخير الأسمى” مكان النعيم، و”مملكة الغايات” مكان الجنة، و”احترام القانون” مكان محبة الإله…الخ. يقول لوك ڤيري:”يمكن تعريف الفلسفة الغربية الحديثة بكونها محاولة لإعادة ترجمة مفاهيم الدين المسيحي الكبرى إلى خطاب إنساني”. فالإنسان منذ أن كفر بالله والوحي وهو يتأرجح بين ثنائية تأليه الإنساني/أنسنة الإلهي. ثنائية (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله)/(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ). هذه الوحدة العميقة بين كل هذه التنويعات، والتشابه في وسط لجج التباينات تمنحني شعوراً عميقاً باليقين، وبوحدة الخالق، وتجذر الفطرة الإلهية، وبمحدودية الانسان، الانسان المتغطرس الذي لم يستطع أن يخترق البنية الدينية، لأنه كائن ناقص جوهرياً، فهو محكوم ومقهور بالقدر الكوني في تكوينه العضوي والنفسي لا يستطيع أن ينعتق منه.
مختارات