الرحلة من الذات إلى الموضوع
من المعتاد أنك إذا ذكرت لمحة من السلوك الشخصي لفيلسوف ما، أو مفكر أو عالم في أي علم، بغرض تدعيم نقض أقواله وأفكاره، أن يواجهك اعتراض: وما علاقة أفكاره وآراؤه بحياته الشخصية التي لا تهمنا؟ وقد تتهم بإرادة التشويه والإسفاف.
هذا الاعتراض لابد من إخضاعه للتحليل والتفكيك، وهو ينطوي على افتراض رئيسي بوجود انفصال موضوعي بين المفكر والفكرة، والقول والقائل، وأن شخصية المفكر، ومزاجه، وطبيعته النفسية، وتجاربه العاطفية، وسلوكه الشخصي لا تلقي بظلالها على نتائج تفكيره وبحثه، فهل هذا دقيق؟ لا يمكن الإجابة بسهولة، ولكن لنحاول.
يمكن إثبات أن الأقوال والأفكار لها صلة شخصية من نوع ما، بمن صدرت عنه، وقبل الاستطراد في تشريح طبيعة الاتصال بين الذات والموضوع، لنفرّق أولا بين أنواع العلوم، فالعلوم ذات الطابع التجريبي البحت يقلّ (ولا ينعدم) فيها ظهور العلاقة بين الفكرة والمفكر، بينما تكون العلاقة بين القول والقائل في العلوم الإنسانية أشد وضوحاً. فإذا عرفت مثلا أن اينشتاين لديه ميول جنسية قوية تجاه النساء شديدات النظافة، وأن الفيزيائي الشهير فاينمان كان مهووساً بإغواء تلميذاته، بل وحتى زوجات تلاميذه في الجامعة، فإنك لا تجد لذلك صلة بالأسس النظرية للفيزياء الحديثة التي طورها هذا وذاك. ولكن ماذا عن العلوم الانسانية؟، يقول ك.ولسون:”إذا أردت أن تعرف شيئاً مهماً عن أفكاري يتوجب عليّ أن أخبرك شيئاً عن حياتي”. وهذا منه إدراك واعتراف حقيقي بالصلة بين أفكار الانسان وحياته الشخصية. لنأخذ حفنة من الشواهد، ومن خلالها نتبين بعض تعقيدات العلاقة بين الذات والموضوع.
ابن عربي الطائي فيلسوف التصوف والحلولي المعروف، تناول الأنثى في أطروحته الحلولية، وجعل شهود الحق فيها أتم وأكمل، بل جعل محبتها والاتصال بها طريقا إلى الفناء في الله -بحسب اصطلاحهم-، ورأى أن فرض الغسل بعد الوقاع هو لتعم الجسد الطهارة كما عمه الفناء…الخ، ثم إننا نعرف أن ابن عربي وقع في غرام نظام بنت زاهر الأصفهاني، وفتن بها لما وفد على مكة، بل كتب فيها ديواناً غزلياً مشهوراً وسماه”ترجمان الأشواق”، وقال في مقدمته عن نظام:”فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أكنّى، وكل دار أندبها فدارها أعنى”، والسؤال هنا: هل ترى صلة واضحة بين غرام ابن عربي بنظام وتجربته العاطفية وفلسفته عن الانثى؟ بالنسبة لي: الصلة واضحة. وربما لو لم يقع في مثل هذا التعشق، لما ذهب إلى بعض ما ذكره، ولكن التجربة الحارة أنشأت في نفسه تلك المعاني.
لنقف مع مثال آخر، مع فيلسوف الوضعية الأشهر أوغست كونت، والذي طرح نظريته المعروفة عن تاريخ البشرية، وقال أن البشرية مرت بالمرحلة اللاهوتية، ثم بالمرحلة الميتافيزيقية، ثم المرحلة العلمية/الوضعية، وهي آخر مسيرة التطور. في مرحلة متقدمة من حياته وقع في غرام كلوتيلد دو فو، وكانت تصغره ب17عاما، فانقلبت حياته، ورأى بعد هذه التجربة أن الأولوية العليا والاجتماعية للحب الكوني، وأنها تتقدم على القوة بل والعقل، وقال لدو فو أنه ينوي تأليف كتاب في ذلك. هنا الصلة أوضح من البرهنة عليها.
شاهد آخر: ألفرد آدلر، محلل نفسي شهير، ولد طفلا ضعيفا، كسيحا، وأصيب في طفولته بعدة أمراض، ودهس مرتين، وشارف على الموت عدة مرات. لاحقا درس الطب، وأسس نظريته النفسية الخاصة، ورأى أن النواة المركزية للشخصية هي الكفاح في سبيل التفوق، وإليه يعود الفضل في التأسيس السيكولوجي لما يعرف بـ”عقدة أو مركب النقص”. هل ترى علاقة ما بين نظريته وما عاناه في حياته الخاصة؟ نعم في نظري.
شاهد رابع: كتب بول ريكور الفيلسوف الفرنسي المعروف كتابه الأخير بعنوان:”الذاكرة، التاريخ، النسيان”، وتحدث في هذا الكتاب كثيرا عن النسيان والغفران والذاكرة، كان حينها يعيش وحيدا في بيته القريب من باريس، ويقول لمترجم كتبه للعربية جورج زيناتي:”كنا ثمانية [يقصد أسرته]، وأصبحت وحيداً”، وكان لايزال يذكر بمرارة حادثة انتحار ابنه، والتي تركت ندوبا بارزة في روحه، كما أشار لذلك في سيرته القصيرة المترجمة بعنوان:”بعد طول تأمل”. هل يمكنك هنا أن تفصل بين اهتمام ريكور بالذاكرة والنسيان وسياق حياته الشخصية؟ لا.
لا أود الإفاضة فالشواهد كثيرة جداً، لكن لك أن تتأمل في علاقة مواقف المعري السوداوية من الحياة ورهافة حسه المفرط وإصابته بالعمى، وكذلك تأمل في نزعات الحدة والاعتداد بالرأي والتعجرف أحيانا لدى ابن حزم وعلاقتها بنشأته الأميرية، وطبقته البرجوازية -إن صح التعبير-، وانظر هل تستطيع الفصل بين اهتمام م.فوكو بتاريخ الجنسانية وولعه بنقد السلطوية وميوله الجنسية الشاذة؟، وانظر في جوانب من أطروحة ابن خلدون من مثل مركزية العصبية القبلية أو الدينية في الاجتماع السياسي، ثم اقرأ في سيرته الشخصية، وكثرة ما شارك/شاهد من الثورات والانتفاضات والانقلابات في البلاد المغاربية…الخ. وسترى الصلات تتجلى. قد تنازع في دقة الشواهد السابقة، أو بعضها، ولكن المراد هو القدر المشترك في معظم الشواهد السابقة، ومثيلاتها التي لا تنتهي.
حسناً، الناس يتباينون في أحوالهم، ففيهم صاحب النزعة الروحانية أو المادية، وفيهم النزق والهادئ، ومنهم الشغوف بالاثارة والميّال للسكينة، والحاد الطبع، والهين اللين، وهكذا في سائر الطبائع، وكل هذه النزعات قد تنعكس -في ظروف معينة- وبشكل ما، على أفكارهم، ورؤاهم عن العالم.
وهنا يتبادر سؤال مهم، هل هذه العلاقة بين الذات/الموضوع تضعف من قيمة أفكار العلماء وآراء المفكرين والرموز، بل وأقوال الفقهاء وفتاوى المفتين؟
لا، ليس بالضرورة، لأن الإنسان أولاً لا يمكنه الانعتاق التام من التجربة الشخصية، كما أنه لا يمكنه تجاهل النتائج التي يحصدها من وراء تجربته في الحياة. المهم أن لا تتحول أفكاره لتبرير حياته الشخصية، أو أن يتم تصعيد التجربة الشخصية لتكون قانوناً كونياً، وأن لا تكون التجربة حاكمة على الواقع، بل ينطلق من التجربة ليضعها في محك الاختبار العقلي والتاريخي المقارن، ويؤسس لها، ويبرهن عليها، من خارج إطار التجربة الخاصة.
أما بالنسبة للرأي الفقهي فيكتسب بعض الخصوصية، لكونه ينتج ضمن تكامل نظام دلالي متقن لآليات النظر الفقهي، ويستند لمدونة نصية، ووحي مستقل ومتعالي على الظروف الذاتية، وهذا يقلّص من تدخلات النوازع الشخصية، ولا يمنعها. كما أن في الشريعة من السعة بحيث تتيح هامشاً لتلك الطبائع، كما في تنوع أبواب التعبد، وتراتب الفضائل، فالشريعة تستوعب عمر بشدته، وأبو بكر بسهولته، فالشرع ليس خيطاً دقيقاً، بل كنهر متسع، وأطرافه منه. والنوازع ليست شراً بالضرورة، بشرط أن لا تخرج عن حد الشريعة، ولا يكلف الإنسان باستئصال طبيعته، ولكن يهذبها.
حسناً، ماذا نستفيد من معرفة هذه الصلة بين الذات والموضوع؟ الفائدة ليست دائماً متحققة، لعدم وجودها، وهذا كثير الوقوع، ولغموض هذه العلاقة من جهة ثانية، وصعوبة الجزم بصيغة الاتصال بينهما، ولتعقيد الذات المفكرة المنتجة للموضوع من جهة ثالثة.
ومع ذلك فكثيراً ما يتضح الموضوع ونتجلى غوامضه بمعرفة الذات المنتجة له، كما نستفيد بتثبيت الطابع التاريخاني للموضوع (أي: جعل الفكرة أو النظرية نتيجة لظروف وسياق خاص وأسباب ثقافية وسياسية واقتصادية معينة)، وتأكيد خصوصيتها وامتناعها على التعميم، فيساعد فهم العلاقة أو إدّعاء فهمها في تقويض دعوى موضوعيتها النسبية أو حيادها. وذلك يدعم التخفيف من وهجها، وسطوتها، ومنع رفعها إلى عتبات القداسة.
مختارات