أزمة غياب العقلانية بين الباحثين الغربيين
بسم الله الرحمن الرحيم
من الظواهر الأليمة والمنتشرة بشكل واسع بين الباحثين الغربيين هي أزمة التفكير النصوصي الجامد وغياب العقلانية المفتوحة، وهذا ماسبب احتباس وتخلف العلوم الغربية، وضعف هيمنتها على العالم..
من المضحك بين الباحثين الغربيين أنهم في سياق البرهنة والاثبات يدورون في حلقة نصوصية متقوقعة.. ولايفكرون بعقول مفتوحة، غير مرتبطة وخاضعة لـ " نصوص ".
خذ مثلاً هذه المشاهد التي تفسر لنا الضعف العلمي في العلوم الغربية:
تأتي للقانوني الغربي (قاضي، محامي، شارح، أكاديمي) وتقول له من غير المعقول أن يكون " العقد " الفلاني ممنوع، أو أن يكون " التصرف " الفلاني ممنوع، فيحتج عليك بنصوص القانون..
فتقول له: ولكن هذا النص القانوني لم يوافق عقلي؟!
فيتفرس في وجهك من جديد وكأنه يتساءل هل أنت معتوه أم لا؟
ويبدي استغرابه من رفضك للقانون، حتى ولو لم يوافق عقلك !
وتأتي للمؤرخ الغربي وتقول له من غير المعقول أن يكون الملك " هنري الثامن " تزوج ست زوجات، وقام بإعدام بعضهن!! هذا يتناقض مع منطق الأمور!
فيقول لك: ولكن هذه " نصوص " التاريخ والتي سجلها شهود كثيرون! فتحاول أن تقنعه أن الأمر غير معقول، فيحتج عليك بنصوص التاريخ!!
وتأتي للاقتصادي الغربي وتقول له من غير المعقول بتاتاً أن يكون ماركس ينكر أهمية مفهوم الملكية الفردية في تنمية الاقتصاد وتحفيز الانتاج، ماركس عقلية ضخمة فكيف يمكن أن يقول كلاماً ساذجاً كهذا؟
فيستغرب تساؤلك وإنكارك العقلي، ويحتج عليك بنصوص ماركس، ويرى أن هذه الحجة كافية جدا للبرهنة!!
فتقول له: يا عزيزي دعنا من نصوص ماركس وفكر بعقلانية مفتوحة، فيدركه الوجوم ويستغرب كيف تفكر في فلسفة ماركس بعيداً عن نصوص ماركس ذاته؟!
كيف يمكن أن تنسب إلى ماركس أي فكرة من دون الالتزام بنصوص ماركس ذاته؟!
وتأتي للسياسي والدبلوماسي الغربي فلاتكاد تفتح معه موضوعاً، إلا وتذرع بنصوص الاتفاقيات الدولية، وأن هذا نص المادة كذا في اتفاقية كذا، ويدخلون في حيص بيص في تفسير نصوص الاتفاقيات.. فيأخذ مني الاستغراب كل مأخذ.. وأقول لهم: يا أيها المتقوقعون.. دعونا من النصوص وفكروا في الالتزامات والحقوق بعقلانية، إلى متى هذا التخلف؟!
ومع ذلك.. يستمرون في تعيين مراكزهم التفاوضية على أساس تفسير نصوص الاتفاقيات!!
بل تجد المؤسسات الغربية تجعل من وظائف المحاكم العليا فيها أن تكون المرجعية النهائية في حسم النزاع حول تفسير نصوص القانون!!
فبالله عليك.. انظر كيف يضيع القضاة أوقاتهم في تفسير نصوص القانون.. بدلاً من أن يفكروا من خلال " العقل " وحضارة " العقل " ومدنية " العقل " بعيداً عن أغلال النصوص!!
المهم.. أنني تركت هذه الحقول النصوصية الجمودية وقلت في نفسي: لابد أن الفلسفة هي المكان الذي سأتخلص فيه من سلطة النص بتاتاً، فالفلاسفة كما يقولون هم الممثل النموذجي للعقل..
ولما بدأت أستطلع نتاج الفلاسفة الغربيين وجدتهم في معارك طاحنة لا أول لها ولا آخر في تفسير نصوص الفلاسفة الذين سبقوهم، وكل يطرح تفسيراً لفلسفة فلان، ويتبارون في هذه التفسيرات أيها الأدق والأعمق في استيعاب فلسفة الفيلسوف الفلاني..
ولاتكاد تجد فيلسوفاً معاصراً إلا وله العديد من الأعمال التي يسمونها " قراءة في فلسفة فلان " يحاول فيها استكشاف فلسفة أحد الفلاسفة المشهورين من خلال نصوصه ورسائله..
فيالله العجب.. كيف أضاع هؤلاء الغربيون أوقاتهم في تفسير النصوص، والاحتكام للنصوص في نسبة أي أمر لصاحبه..
ونحن في عالمنا العربي –ولله الحمد- رزقنا الله مفكرين أفذاذ يفكرون في المسائل الشرعية دون الارتهان لألفاظ النصوص ودون الاحتباس في حروف النص.. فينسبون للشريعة أفكاراً ومفاهيم من وحي " العقل المطلق " أو " الذوق الرفيع ".. فاستطاعوا تحريرنا من سلطة النص لندخل مملكة الذوق..
وهذا هو " الإبداع العلمي " الذي فات على الباحثين الغربيين المساكين!
ولذلك تطور الفكر العربي المعاصر، وأخفقت العلوم الغربية..!
حين نريد أن ننسب للشريعة حكماً فهل يجب أن نرتهن للنصوص حتى تكون نسبتنا علمية؟ أم يجوز لنا أن ننسب للشريعة مااستحسناه بذوقنا؟
بطبيعة الحال.. لاحاجة للنصوص حين نريد أن ننسب للشريعة شئ.. حتى لانكون نصوصيين متقوقعين متشرنقين.
والمشكلة أن منهج " الاحتكام للنص " في الشرعيات هو منهج أسسه القرآن..
ولذلك لما جاء اليهود إلى النبي وحاوروه في حكم بعض الأطعمة، ونسبوا لشريعة موسى ماليس منها، فأرشد الله نبيه إلى أن يجعل البرهان هو " الاحتكام للنص " فقال سبحانه لنبيه:
(قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) سورة آل عمران
ولما تحاور مشركوا قريش مع النبي فنسبوا لله الولد –تعالى الله عن ذلك- فأرشد الله نبيه إلى أن يكون مسار البرهان هو " الاحتكام للنص " فطالبهم بنص يثبت ذلك، فقال الله سبحانه:
(فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) سورة الصافات
العقل حجة فطرية شرعية، ولكن نسبة الأحكام للشريعة دون الاحتكام للنص، هذا إجراء ضد العقل، وضد المنهج العلمي!
مختارات