" المكْر والكَيْد "
" المكْر والكَيْد "
ذَمُّ المكْر والكَيْد والنهي عنهما:
#### أولًا: في القرآن الكريم:
- قال تعالى: " وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ " [النَّمل: 50-51].
قال السعدي: ( " وَمَكَرُوا مَكْرًا " دبَّروا أمرهم على قتل صالح وأهله على وجه الخُفْية - حتى مِن قومهم - خوفًا مِن أوليائه، " وَمَكَرْنَا مَكْرًا " بنصر نبيِّنا صالح -عليه السَّلام- وتيسير أمره، وإهلاك قومه المكذِّبين، " وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ "، " فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ " هل حصل مقصودهم، وأدركوا - بذلك المكْر - مطلوبهم أم انتقض عليهم الأمر؟ ولهذا قال: " أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ " أهلكناهم واستأصلنا شأفتهم، فجاءتهم صيحة عذاب، فأهلكوا عن آخرهم) [تيسير الكريم الرحمن].
- وقوله عزَّ وجلَّ: " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ " [الأنعام: 123].
قال ابن عاشور: (والمراد بالمكْر هنا تَحُيُّل زعماء المشركين على النَّاس في صرفهم عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن متابعة الإسلام، قال مجاهد: كانوا جَلَسُوا على كلِّ عقبة ينفِّرون النَّاس عن اتِّباع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم... ظنًّا منهم بأنَّ صدَّ النَّاس عن متابعته يَضرُّه ويُحْزِنه، وأنَّه لا يعلم بذلك، ولعلَّ هذا العمل منهم كان لـمَّا كَثُر المسلمون في آخر مدَّة إقامتهم بمكَّة قُبَيْل الهجرة إلى المدينة، ولذلك قال الله تعالى: " وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ " فالواو للحال، أي: هم في مكرهم ذلك إنَّما يضرُّون أنفسهم، فأطلق المكر على مآله وهو الضُّر، على سبيل المجَاز المرسَل، فإنَّ غاية المكر ومآله إضرار الممكور به) [التحرير والتنوير].
#### ثانيًا: في السُّنَّة النَّبويَّة:
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أنَّ أناسًا مِن عُكل وعُرَيْنَة قَدِمُوا المدينة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتكلَّموا بالإسلام، فقالوا: يا نبيَّ الله، إنَّا كنَّا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه، فيشربوا مِن ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحَرَّة، كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذَّود، فبلغ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبعث الطَّلب في آثارهم، فأَمَر بهم فسَمَرُوا أعينهم، وقَطَعُوا أيديهم، وتُرِكُوا في ناحية الحرَّة حتى ماتوا على حالهم) [رواه البخارى ومسلم].
- وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت سعدًا رضي الله عنه قال: سمعت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يكيد أهل المدينة أحدٌ إلَّا انماع كما ينماع الملح في الماء) [رواه البخارى ومسلم].
قال المهَلَّب: (وقوله: (لا يكيد أهل المدينة أحدٌ) أي: لا يدخلها بمكيدة، ولا يمكن يطلب فيها غرَّتهم، ويفترس عورتهم،وقوله: (إلَّا انماع) أي: إلَّا ذاب كما يذوب الملح في الماء) [شرح صحيح البخارى،لابن بطال].
أقوال السَّلف والعلماء في المكْر والكَيْد:
- قال محمَّد بن كعب القرظي: ثلاث خصال مَن كُنَّ فيه كُنَّ عليه: البَغْي، والنُّكْث، والمكر، وقرأ: " وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ " [فاطر: 43] " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم " [يونس: 23]، " فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ " [الفتح: 10] [ذم البغى،لابن أبى الدنيا].
- وقال ابن قتيبة: (ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه كُنَّ عليه: البَغْي، قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم " [يونس: 23] والمكر، قال الله تعالى: " وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ " [فاطر: 43] والنُّكْث، قال عزَّ وجلَّ: " فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ " [عيون الأخبار].
- وقال ابن القيِّم: (إنَّ المؤمن المتوكِّل على الله إذا كاده الخَلْق، فإنَّ الله يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوَّة) [إعلام الموقعين].
- وقال: (في قصَّة يوسف -عليه السَّلام - تنبيه على أنَّ مَن كاد غيره كيدًا محرَّمًا فإنَّ الله سبحانه وتعالى لا بدَّ أن يكيده، وأنَّه لا بدَّ أن يكيد للمظلوم إذا صبر على كيد كائده وتلطَّف به) [إغاثة اللهفان، لابن القيم].
- وروى عمرو بن دينار أنَّه قال: (قال قيس بن سعد: لولا الإسلام لمكرت مكرًا لا تطيقه العرب) [الوافى بالوفيات، لصلاح الدين الصفدى].
#### حُكْم المكْر:
عدَّه أهل العلم - ومنهم ابن حجر الهيتمي - مِن الكبائر، وهم يعنون الضَّرب المذموم منه، وهو المكْر السَّيِّئ.
قال ابن حجر الهيتمي: (عُدَّ هذا كبيرةً، صرَّح به بعضهم، وهو ظاهرٌ مِن أحاديث الغِشِّ... إذْ كون المكْر والخَدِيعَة في النَّار ليس المراد بهما إلَّا أنَّ صاحبهما فيها، وهذا وعيد شديد) [الزواجر عن اقتراف الكبائر].
#### أقسام المكْر:
قال الرَّاغب: (المكْر: صرف الغير عمَّا يقصده بحيلة، وذلك ضربان: مَكْرٌ محمودٌ، وذلك أن يُتَحرَّى بذلك فعلٌ جميل... ومذموم، وهو أن يُتَحرَّى به فعلٌ قبيح) [المفردات فى غريب القرآن].
وقال ابن القيِّم: (المكْر ينقسم إلى محمود ومذموم، فإنَّ حقيقته إظهار أمرٍ وإخفاء خلافه؛ ليُتَوصَّل به إلى مراده.
فمِن المحمود: مَكْرُه تعالى بأهل المكر، مقابلةً لهم بفعلهم، وجزاءً لهم بجنس عملهم.
قال تعالى: " وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ " [الأنفال: 30] وقال تعالى: " وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ " [النَّمل: 50]) [إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان].
وقال الرَّاغب الأصفهاني: (المكْر والخَدِيعَة: متقاربان، وهما اسمان لكلِّ فعل يَقْصِد فاعله في باطنه خلاف ما يقتضيه ظاهره، وذلك ضربان:
1- أحدهما مذموم: وهو الأشهر عند النَّاس والأكثر، وذلك أن يقصد فاعله إنزال مكروه بالمخدوع، وهو الذي قصده النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: (المكر والخَدِيعَة في النَّار) والمعنى: أنَّهما يؤدِّيان بقاصدهما إلى النَّار.
2- والثَّاني: على عكس ذلك، وهو أن يقصد فاعلهما إلى استجرار المخدوع والممكور به إلى مصلحة لهما، كما يُفْعَل بالصَّبي إذا امتنع مِن تعلُّم خيرٍ [الذريعة إلى مكارم الشريعة،للراغب الأصفهانى].
#### أقسام الكَيْد:
وينقسم الكَيْد - أيضًا - إلى قسمين:
1- محمود: وهو ما قُصِد به الخير.
2- مذموم: وهو ما قُصِد به الشَّر.
قال ابن القيِّم: (الكَيْد ينقسم إلى نوعين، قال تعالى: " وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ " [الأعراف: 183] وقال تعالى: " كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ " [يوسف: 76] وقال تعالى: " إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا " [الطارق: 15-16]) [إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان].
وقال الرَّاغب الأصفهاني: (الكَيْد: إرَادَة متضمِّنة لاستتار ما يُرَاد عمَّن يُرَاد به، وأكثر ما يُسْتَعمَل ذلك في الشَّرِّ، ومتى قُصِد به الشَّرُّ فمذموم، ومتى قُصِد به خيرٌ فمحمود، وعلى الوجه المحمود قال - عزَّ وجلَّ -: " كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ " [يوسف: 76] [الذريعة إلى مكارم الشريعة].
#### من وسائل النَّجاة مِن كيد الكائدين:
1- الصَّبر والتَّقوى:
" إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ " [آل عمران: 120].
2-إخفاء النِّعمة التي رزقك الله بها عن أعين الحاسدين:
كما قال يعقوب ليوسف - عليهما السَّلام -: " قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ " [يوسف: 5].
3- دعاء الله عزَّ وجلَّ بصدق وإخلاص:
كما قال يوسف - عليه السَّلام -: " قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " [يوسف: 33-34].
#### غاية كيد الشَّيطان:
غاية كيد الشَّيطان الوسوسة، فإنَّ شيطان الجِنِّ إذا غُلِب وسوس، وشيطان الإنس إذا غُلِب كذب، والوسواس يعرض لكلِّ مَن توجَّه إلى الله تعالى بذكر أو غيره، لا بدَّ له مِن ذلك، فينبغي للعبد أن يَثْبُت ويصبر، ويلازم ما هو فيه مِن الذِّكر والصَّلاة، ولا يضجر، فإنَّه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشَّيطان " إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا " [النَّساء: 76] [مجموع الفتاوى،لابن تيمية].
فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال (إنَّ أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلَّم به، فقال: الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة) [صححه الألبانى فى صحيح سنن أبى داود].
مختارات