" من أشراط السَّاعة الكبرى : الدُّخان "
" من أشراط السَّاعة الكبرى: الدُّخان "
ظهور الدُّخان في آخر الزمان من علامات السَّاعة الكبرى التي دل عليها الكتاب والسنة.
* أدلة ظهوره:
أ- الأدلَّة من القرآن الكريم:
قال الله تعالى: " فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) " [الدخان: 10، 11].
والمعنى: انتظر يا محمد بهؤلاء الكفار يوم تأتي السماء بدخان مبين واضحٍ يغشى الناس ويعمُّهم، وعند ذلك يٌقال لهم: هذا عذابٌ أليمٌ؛ تقريعًا لهم وتوبيخًا، أو يقول بعضهم لبعض ذلك (انظر: تفسير القرطبي، وتفسير ابن كثير).
وفي المراد بهذا الدُّخان؟ وهل وقع؟ أو هو من الآيات المرتقبة؟ قولان للعلماء:
الأول: أن هذا الدُّخان هو ما أصاب قريشًا من الشدة والجوع عندما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يستجيبوا له، فأصبحوا يرون في السماء كهيئة الدُّخان.
وإلى هذا القول ذهب عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، وتبعة جماعة من السلف (انظر: تفسير الطبري).
قال رضى الله عنه: " خمس قد مضين: اللزام (هو ما جاء في قوله تعالى: " فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا " [الفرقان: 77] أي: يكون عذابًا لازمًا يهلكهم نتيجة تكذيبهم، وهو ما وقع لكفار قريش في بدر من القتل والأسر.انظر: " تفسير ابن كثير " وشرح النووي لمسلم) والروم، والبطشة، والقمر، والدُّخان " (صحيح البخاري).
ولما حدَّث رجل من كندة عن الدُّخان، وقال: إنه يجيء دخانُ يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم؛ غضب ابن مسعود رضى الله عنه، وقال: " من علم فليقل، ومن لم يعلم؛ فليقل: الله أعلم؛ فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؛ فإن الله قال لنبيه: " قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) " [ص: 86] وإن قريشًا أبطؤوا عن الإسلام، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف "، فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدُّخان (صحيح البخاري).
وهذا القول رجَّحه ابن جرير الطبري، ثم قال: " لأن الله جلَّ ثناؤه توعد بالدُّخان مشركي قريش، وأن قوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) " [الدخان: 10] في سياق خطاب الله كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم؛ بقوله: " إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) " [الدخان: 8، 9] ثم أتبع ذلك قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام: " فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) " أمرًا منه له بالصبر... إلى أن يأتِيَهم بأسه، وتهديدًا للمشركين، فهو بأن يكون إذ كان وعيدًا لهم قد أحلَّهُ بهم، أشبه من أن يكون أخره عنهم لغيرهم (تفسير الطبري).
الثاني: أن هذا الدُّخان من الآيات المنتظرة، التي لم تجئ بعد، وسيقع قرب قيام السَّاعة.
وإلى هذا القول ذهب ابن عباس وبعض الصحابة والتابعين؛ فقد روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي مليكة قال: " غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم، فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلتُ: لم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدُّخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت " (تفسير الطبري، وتفسير ابن كثير).
قال ابن كثير: " وهذا إسنادُ صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين أجمعين، مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرها... مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدُّخان من الآيات المنتظرة، مع أنه ظاهر القرآن؛ قال الله تعالى: " فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) " أي: بين واضح يراه كل أحد، على أن ما فسر به ابن مسعود رضى الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد.
وهكذا قوله: " يَغْشَى النَّاسَ " أي: يتغشَّاهم ويعمُّهم، ولو كان أمرًا خياليًا يخصُّ أهل مكة المشركين؛ لما قيل فيه: " يَغْشَى النَّاسَ " (تفسير ابن كثير).
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صيَّاد: " إني خبأت لك خبئًا " قال: هو الدُّخ، فقال له: " اخسأ؛ فلن تعدو قدرك " وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) " (صحيح البخاري وصحيح مسلم).
وفي هذا دليل على أن الدُّخان من المنتظر المرتقب، فإن ابن صيَّاد كان من يهود المدينة، ولم تقع هذه القصة إلا بعد الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة.
وأيضًا؛ فإن الأحاديث الصحيحة ذكرت أن الدُّخان من أشراط السَّاعة الكبرى كما سيأتي.
وأما ما فسر به ابن مسعود رضى الله عنه ؛ فإن ذلك من كلامه، والمرفوع مقدم على كل موقوف (انظر: النهاية/ الفتن والملاحم).
ولا يمتنع إذا ظهرت هذه العلامة أن يقولوا: " رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) " [الدخان: 12]، فيكشف عنهم، ثم يعودون، وهذا قرب القيامة.
على أن بعض العلماء ذهب إلى الجمع بين هذه الآثار (انظر: التذكرة) بأنهما دخانات ظهرت إحداهما وبقيت الأخرى، وهي التي ستقع في آخر الزمان، فأما التي ظهرت؛ فهي ما كانت تراه قريشٌ كهيئة الدُّخان، وهذا الدُّخان غير الدُّخان الحقيقي، الذي يكون عند ظهور الآيات التي هي من أشراط السَّاعة.
قال القرطبي: " قال مجاهدٌ: كان ابن مسعود يقول: هما دخانات قد مضى أحدهما، والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض، ولا يجد المؤمن منه إلا كالزكمة، وأما الكافر؛ فثقب مسامعه " (لتذكرة).
وقال ابن جرير: " وبعد؛ فإنه غير منكر أن يكون أحلَّ بالكفار الذين توعَّدهم بهذا الوعيد ما توعَّدهم، ويكون مُحِلاً فيما يستأنف بعد بآخرين دخانًا على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا كذلك؛ لأن الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تظاهرت بأن ذلك كائن، فإنه قد كان ما روى عنه عبد الله بن مسعود، فكلا الخبرين اللذين رويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح " (تفسير الطبري).
ب- الأدلَّة من السنة المطهرة:
مضى ذكر بعض الأحاديث الدالَّة على ظهور الدُّخان في آخر الزمان، وسأذكر هنا مزيدًا من الأحاديث الدالَّة على ذلك:
1- روى مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بادروا بالأعمال ستًا: الدَّجَّال، والدُّخان " (صحيح مسلم).
2- وجاء في حديث حذيفة في ذكر أشراط السَّاعة الكبرى: " الدُّخان " (صحيح مسلم).
3- وروى ابن جرير والطبراني عن أبي مالك الأشعري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن ربكم أنذركم ثلاثًا: الدُّخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه " (تفسير الطبري،و " تفسير ابن كثير " قال ابن كثير: " إسناده جيد ". وذكر ابن حجر رواية الطبري عن أبي مالك وابن عمر، ثم قال: " وإسنادهما ضعيف جدًا، لكن تضافر هذه الأحاديث يدل على أن لذلك أصلًا ". فتح الباري).
مختارات