ما زلت أراك تتبسّم أمام المنزل..
هذا يسألني هل ستحج هذه السنة..؟
وهذا يسألني من أين ستشترون أضحيتكم..؟
وآخر يقول هذا العيد سيوافق الجمعة.. هل يكفي العيد عن الجمعة أم لا؟
وآخرون يتحدثون عن سفرهم في هذه الإجازة.. ويواعدونك بعد العيد.. كل شيء صار يقال عنه هذه الأيام " بعد العيد ".. كأنما " بعد العيد " هذا زمن سحري سيحل كل الأزمات.. يبدو أن الإحالة البيروقراطية دوماً إلى " مابعد الإجازة " جزء من مكونات الزمن الوظيفي..
دخلت العشر.. وأقبلت المناسك والأضاحي والإجازة.. وانهمك الناس.. ولكل وجهة هو موليها..
ولكن أبا عبد الله.. هناك.. لا يستطيع أن يحج.. ولا يستطيع أن يلبس رداء الإحرام ويلبي على سفوح الهدا.. ويوزع الكتيبات تحت جسر الجمرات كما اعتاد..
أبو عبد الله الذي اعتاد أن يذهب ويشتري أضحيته بنفسه.. ويأتي بها لمنزله وعبد الملك الصغير يشاهد.. وأبوه يشجعه على أن يشاركهم ويعيش هذه الشعيرة معهم..
يعاركهم الضأن بثغائه.. وعبد الملك الصغير يتراجع قليلاً متهيباً.. والشيخ يضحك.. عبد الملك وش فيك؟ لا تخاف.. تعال أمسك الضحية معنا.. هذي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم..
لله أنت يا شيخ يوسف.. كان يقول لي وهو بين القضبان قبيل رمضان الفائت: يا أبا عمر اشتر صاع، وافتح خيشة الأرز أمام أطفالك، واجعل كل واحد منهم يخرج زكاة الفطر بنفسه.. لازم أهلك يعيشون الشعيرة..
خرجت من بين جدران السجن الشاهقة.. أقول لنفسي لا تلتفت.. كن عفوياً وأنت تقود سيارتك خارجاً.. حتى لا يتهمونك.. كنت أشعر أن كل شريط على الذراع.. وكل نجمة على الكتف.. تنظر إلي.. ثم اكتشفت لاحقاً أنهم أصلاً يسكبون فناجين الشاي.. وينتظرون المفطح.. وعيونهم مسمّرة في شاعر المليون وأخفاف أم رقيبة.. وما دروا عني شيئاً.. وحدها الأوهام كانت تراقبني جيداً وتحرس السجن.. ولطالما كانت الأوهام خير جنود المستبدين..
تجاوزت جدران السجن وبدأت أتنفس بشكل طبيعي.. وشعرت أن ذلك الذي يراقبني أغمض عينيه ورجع.. من هو؟ لا أدري.. لكن مؤكد أن بين تلك الحواجز الخرسانية شخص ما يرمقني مستغرباً.. وهل فيني ما يثير الاستغراب؟ لا أدري..
توجهت إلى محلات القهوة.. محلات كل شيء عشرة ريال.. ذهبت لكل محل محتمل:
-عندكم صاع؟
-لا والله ما عندنا
-يا خي فيه واحد يقول أن فيه صاع يباع، وين ألقاه بالله عليك؟
-ما أدري والله..
وهكذا.. أجول بسيارتي وأنا أتذكره وهو يقول (لازم أبنائك يعيشون الشعيرة)..
ها هي ليلة عيد الفطر تتفجر مفرقعاتها النارية وأنا لم أجد الصاع..
خطرت في بالي فكرة.. أن أسأل حمد ابن الشيخ.. فأستعير الصاع منهم.. لكن من غير اللائق أن أطلب طلباً مباشراً.. فلأجعلها في صيغة تساؤل وهو الذي سيعرض ما لديه.. كتبت رسالة جوال:
(حمد لا هنت.. هل تعرف أين يباع الصاع؟)
تأخر الجواب.. يبدو أن حمد متردد.. وقطع حبال الخيال نغمة رسالة.. إنه حمد يقول:
(والله يا بوعمر ما أدري وين يباع.. لكن عندنا " مُدّ " للوالد أجيبه لك؟)
لم أستطع الرد.. فضلت الصمت فقط.. إنه مُدّ الشيخ.. وهو يحب أن يعيش أبناءه الشعيرة.. لا بأس.. لن أطلبه.. سأسكت فقط.. وحده الصمت أفضل جواب في لحظات الهيبة..
هل رأيت سجيناً يرسف في القيود هو أنشط من الأحرار في الاحتساب والدعوة والعلم؟ أما أنا فقد شاهدته بأم عيني..
في كل مرة ندخل عليه يخرج من جيبه قصاصات من الصحف فيها بعض المنكرات.. ومعها خطابات مناصحة رفيقة ودودة للجهة التي وقع فيها المنكر..
بل وبضع مقالات صحفية متميزة كتب عليها عبارات الشكر.. وأن الكاتب يجب أن يشجع.. بل وجدته مرةً قد كتب خطاباً لأحد طلبة العلم في القصيم يشكره على كتابٍ قرأه له عن (علل أحاديث العبادات) يقرأ في علم العلل في السجن ويراسل المؤلفين!
ومن أكثر عباراته التي ترى في وجهه التفاعل حينها إذا أخذ يتحدث عن عيش هموم الأمة في دينها ومعاشها.. وأحوال الفقراء والمساكين والمحاويج والأرامل.. ومخالطة الناس والسعي في حاجاتهم..
إذا أخذ يتحدث الشيخ عن هذه المعاني فكأن عينيه لسانان ناطقان.. يهز يديه.. تسخن عباراته.. وكأن مساكين المسلمين وأيتامهم فوق ظهره وهو يتحدث.. وخصوصاً إذا بدأ يتلو آيات إطعام الطعام (ولا يحض على طعام المسكين) (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا) ونحوها..
في كل مرة ندخل عليه يحرجني بالسؤال عن ملف الشيخ خالد الراشد.. والعلامة الإمام سليمان العلوان.. ومتطوعي مؤسسة الحرمين.. الموقوفين المغمورين الذين لا مراجع لهم.. ماذا فعلتم لهم؟ كلموا فلان؟ لازم تعاد محاكمة الشيخ خالد الراشد.. زوروا المسؤول الفلاني..
هل رأيت سجيناً ينسى ملفه.. ويفتح ملفات الغرف المجاورة له؟ أما أنا فقد رأيت..
كلمته مرةً وأنا خارج المملكة للدراسة.. وكانت أيام المجزرة الكاوستية.. حدثته عن أن بعض طلبة العلم لزم الصمت خوفاً من مشنقة " بناءً على طلبه " التي صممت لترويع وردع المحتسبين.. فقال لي كلمةً حفرت في قلبي.. وما زلت أتذكرها وتعرض لي دوماً.. قال لي:
(حفظ الله يستجلب بالقيام بأمره، لا بالتقصير فيه).
كلمة مؤمن تكسر حاجز الصوت.. وتدخل القلوب بلا استئذان..
الناس من حولك تحتفظ لهم دوماً بصورة معينة تتذكرهم من خلالها.. وهذه الصورة تهجم عليك هكذا لا تختارها..
أما أنا فأتذكر الشيخ يوسف دوماً في مشهد أمام منزل بيتي.. ذلك أنه كثيراً ما يتصل ويقول لي: هناك مسؤول معين سنذهب ونناصحه حول منكر ما، وش رايك تخاوينا؟ وما هي إلا دقائق ويكون بسيارته أمام الباب.. فإذا خرجت له متأخراً كان يتبسّم ويرمي بعض العبارات الطريفة معرّضاً.. (لا عادي خذ راحتك) !
هذه الصورة للشيخ وهو أمام المنزل بسيارته.. يتبسّم معرّضاً بتأخري عليه.. هي الصورة التي تقفز لذهني كلما حضر ذكر الشيخ..
ماذا تظن الشيخ يوسف في هذه اللحظة يصنع؟ نائم؟ يقرأ؟ يصلي؟ يتأمل؟
أما أنا فأجزم أنه الآن يكبّر.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.. والله أكبر.. الله أكبر.. ولله الحمد..
فتضج العنابر بتكبيره.. حتى ترتج سِعْدٌ تكبيراً..
يا رب.. في هذه العشر المباركة.. فرج كربة الشيخ.. يا رب..
يا رب أسألك أن نرى مشلح الشيخ يوسف في مصلى العيد..
مختارات