" المحافظة على الوقت "
" المحافظة على الوقت "
الأيام أجزاء من العمر ومراحل من الطريق، تفنى يوماً بعد يوم، ومضيها استنفاد للأعمار واستكمال للآثار وقرب من الآجال، وغلق لخزائن الأعمال، والشاب الحاذق يغتنم زهرة شبابه في حفظ القرآن والمتون وحضور دروس العلماء وقراءة الكتب والعبادة عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» (رواه ابن ماجه) وما نبغ من نبغ من العلماء إلا بمحافظتهم على أعمارهم بحفظ زمانهم، وصحبة صالحة أعانتهم على طاعة ربهم.
" فضل العلم "
العلم أفضل مكتسب، وأشرف منتسب، وأنفس ذخيرة تقتنى، وأطيب ثمرة تجنى، وما اكتسب مكتسب مثل علم يهدي صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردى، يقول سفيان بن عيينة: " من طلب العلم فقد بايع الله ".
وهو ميراث النبوة كما قال تعالى: " وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ " [النمل: 16] ومن أورثه الله علم الكتاب والسنة فقد اصطفاه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» (رواه البخاري).
طلب العلم والاستزادة منه شرف لا يضاهى، وفضل لا يحد، ثمراته معجلة، وقطوفه دانية، طالبه منظوم في سلك العظماء " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " [المجادلة: 11].
ولا أنفع بإذن الله للعبد من التحصن بعلم الشريعة.
سلوك طريقه توفيق للخلود في الجنان، الخلق عنه راضون، ولصنيعه مستغفرون، والملائكة لمجالسة أهله راغبون.
العقلاء على تعظيم العلم والحث على تحصيله، وقد رفع الله بالعلم أقواماً فجعلهم في الخير قادة، فكم من وضيع رفعه العلم إلى مصاف الشرفاء، وكم من حقير عند الناس نظمه العلم في سلك العظماء، تحب الملائكة مجالسة أهله، وبأجنحتها تحفهم، ومن في السموات ومن في الأرض مستغفر لهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاءً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» (رواه أبو داود والترمذي).
* فوائد العلم:
العلوم النافعة تصلح العقائد، وتزكي النفوس، وتهذب الأخلاق، وتكون بها الأعمال الصالحة مثمرة الخيرات، والعلم هو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، ومنار سبيل الجنة، وهو عبادة جليلة من أجل العبادات يقول بشر الحافي: " لا أعلم على وجه الأرض عملاً أفضل من طلب العلم " من غرس العلم اجتنى النباهة، ومن غرس الوقار اجتنى المهابة.
قال ابن حزم (مداواة النفوس من رسائل ابن حزم): " لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به إلا أنه يقطع المشتغل به الوساوس المضنية، ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم، وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس لكان ذلك أعظم داع إليه، فكيف وله من الفضائل ما يطول ذكره ".
* آداب طالب العلم:
إذا جلست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وليكن سؤالك تفقهاً لا تعنتاً. قال لقمان: " يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل المطر ".
وعليك بتبجيل العلماء وأهل الفضل والإيمان وإذا تعلم الإنسان وحصل قدراً من العلم، فليعلم أنه قليل بجانب ما جهل، فلا يدخله العجب، والعلم لا ينال إلا بالتواضع وإلقاء السمع، فاحترم معلمك وجل قدره بالتأدب معه في الحديث والاستماع والهيئة. وسوء الأدب معه مروق من صفات المروءات والأعراف وزيغ عن سير الأسلاف يقول الربيع: " والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له ".
واشكر معلمك على إرشاده وإخلاصه لحالك، فإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس، ومن مودة المتعلم بمعلمه الاعتذار له ونسب العتب للنفس، وأحسن إليه في الخطاب وتلطف في السؤال والجواب، واحذر المباهاة والمماراة، واصغ إلى حديث معلمك ولا تنثن عن الاستفهام فيما أشكل عليك من علوم الشريعة فالسؤال عن الدين شرف، والإعراض عن السؤال والبقاء على الجهل مهانة، تقول عائشة رضي الله عنها: " رحم الله نساء الأنصار لم يكن الحياء يمنعهن أن يتفقهن في الدين ".
* الأقران:
الخصال الصالحة من البر لا تحيا إلا بالموافقين في الطباع، ومن أخص الصفات في الصاحب أن يكون ذا فضل في الرأي، وثقة في المودة، وأمانة في السر، ووفاء بالإخاء. ولا تلزم سوى الصالحين فنعم العون هم على أمور الدنيا والدين.
ومن سمات المسلم أن لا يحسد أحداً من أقرانه على ما منحه الله من نعم من حفظ أو فهم أو إدراك أو بدو علامات نفعه للمسلمين، ويحفظه في غيبته فلا يؤذيه، ولا يهتك عرضه بالنميمة والبهتان.
وقد كان السلف يعظم أحدهم قرينه ويبجله مع سلامة قلبه له والثناء عليه في غيبته، ولقد كان ابن كثير وابن القيم كلاهما أقران وهما من تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية، وانظر إلى تعظيم ابن كثير لقرينه ابن القيم وهو يترجم له، يقول عنه (البداية والنهاية): " كان حسن القراءة والخلق وكثير التودد لا يحسد أحدا، وكنت من أصحب الناس له وأحب الناس إليه ". اهـ.
فبسلامة الصدر والمحبة في الله نفع أمثال هؤلاء المسلمين. فصاحب المجدين المتيقظين للزمان، وجانب المجالسة الخاوية، واقرأ سير الأفذاذ واستزد من المعرفة بعلوم الشريعة، واغتنم حياتك النفسية واحتفظ بأوقاتك العزيزة، وحث رفقاءك على تحصيل العلم، وانصح لهم في الدين، ولا تحسد ذا نعمة على نعمته بالحفظ والفهم، وسل المنعم التوفيق دوماً، فالعون من الوهاب لا بالركون إلى الأسباب.
* عثرات طلب العلم:
العوائق والآفات عثرات أمام مواصلة سير الطلب، فالحفظ والمدارسة لا تحمدان بحضرة الشواغل والصوارف.
وفي الملهيات الحضارية المحذورة، والمحطات الفضائية، إشغال للأفكار وعيش في الأوهام، وهدر للأوقات، وفي مجانبتها صيانة للدين وصفاء الأذهان وحفظ الأزمان ومسابقة الأقران، فنزه سمعك وبصرك عما يلوث فكرك ويسيء إلى سلوكك، ويفسد أخلاقياتك، وآفة العلم الإعجاب، وحليته الحلم والتواضع، والسعيد من عرف الطريق إلى ربه وسلكه قاصداً الوصول إليه، والمحروم من عرف الطريق ثم أعرض عنه.
* هل في طلب العلم مشقة؟
طلب العلم شاق، ولكن له لذة ومتعة، والعلم لا ينال إلا على جسر من التعب والمشقة، ومن لم يتحمل ذل العلم ساعة يتجرع كأس الجهل أبدا.
والعلم والعمل لا مناص من الصبر عليهما، والصابر موعود بالجنان: " سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ " [الرعد: 24] ولا ينال العلم إلا بالصبر على المكاره، وبذل النفوس في طلبه والتفاني فيه، قال ابن الجوزي (صيد الخاطر ): " ولقد كنت في حلاوة طلب العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل، لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمان الصبى آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت اللقمة شربت عليها وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم ".
وقال ابن كثير عن نفسه وهو يؤلف كتاب جامع المسانيد: " لا زلت أكتب فيه في الليل والسراج ينونص (ينونص: أي يرتفع ضوؤه وينخفض) حتى ذهب بصري معه " (المصعد الأحمد في تم مسند الإمام أحمد لمحمد بن الجزري).
ويقول أبو حاتم الرازي: " أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ (الفرسخ: 5.5 كيلومتر تقريباً أي أنه قطع 5.500 كيلومتر على قدميه في تلك الرحلة في طلب العلم ثم بعد ذلك توقف عن حساب ما قطعه من المسافات) ثم تركت العدد بعد ذلك، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشياً، ثم إلى الرملة ماشياً، ثم إلى دمشق، ثم إلى أنطاكية، ثم إلى طرسوس، ثم رجعت إلى حمص، ثم منها إلى الرقة، ثم ركبت إلى العراق، كل هذا وأنا ابن عشرين سنة " (طبقات الشافعية الكبرى).
وبالنظر إلى عواقب الأمر يهون الصبر عن كل ما تشتهي وتكره.
ومن أنفق عصر الشباب في العلم، فإنه في زمن الشيخوخة يحمد ما جنى من غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم، قيل للإمام أحمد: " متى الراحة؟ قال: عند وضع أول قدم في الجنة " والله معك على قدر صدق الطلب وقوة اللجأ وخلع الحول والقوة.
* الغربة في طلب العلم:
البعد عن الأهل والأوطان يظهر مناصع الرجال وكريم الخلال، وفي الغربة دربة على مشقة الحياة وضيق الابتلاء، وهو مدرسة للشموخ في العلم، ودرس في أن الحياة قد لا يدوم فيها الرخاء والترف، وفي الغربة انطلاقة لطالب العلم في عدم الاعتماد على الأهل، وأن الحياة لا تدوم على حال.
وإذا صدق الغريب مع الله شرح الله صدره في غربته، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان مدخله إلى المدينة مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضاة الله فاتصل به التأييد والظفر، وأدرك خيري الدنيا والآخرة بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب، فإنه لم يكن بالله ولا لله، بل كان محادَّةًلله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار، وما خرج أحد من بيته إلى بلد آخر إلا يكون بصدق أو كذب فمخرج كل واحد ومدخله لا يعدو الصدق أو الكذب.
والله عز وجل إذا أراد رفعة عبد كسره أولاً، فإذا لجأ إلى الله وطلب ما عنده وتقرب إليه بالطاعات، رفعه الله بعد ذلك بقدر انكساره لله تعالى. فلا تحزن في الغربة ولا تضجر من كرباتها، فقد لاقى العلماء منها المشقة الضنك، فلم يزدهم ذلك إلا صموداً في طلب العلم حتى حفظ هذا الدين على أعناق أولئك العظام، فسر على ما سار عليه العلماء فأنت في الغربة تخطو خطواتهم، وكن متعلقاً بالله عز وجل في غربتك، واحفظه بالطاعة ليحفظك ربك ويحفظ أهلك في ديارهم وتأنس في التغرب.
مختارات