" المسألة الثالثة : ما الذي يوزن بهذا الميزان ؟ "
" المسألة الثالثة: ما الذي يوزن بهذا الميزان؟ "
جاءت عدة أحاديث تشير إلى أنه يوزن بهذا الميزان ثلاثة أمور: العبد وعمله وصحائف أعماله.
[أولاً] وزن العبد:
يوزن العبد ليظهر قدر ما فيه من إيمان بالله عز وجل، فعن زر بن حبيش رضى الله عنه عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه كان يجتني سواكًا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مم تضحكون»؟ قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: «والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد» (رواه الإمام أحمد واللفظ له –الفتح الرباني –، وابن حبان، والحاكم، والبخاري في الأدب المفرد، والطبراني في الكبير، وأبو يعلي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
وروى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرؤوا: " فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا " [الكهف:105] (رواه الإمام البخاري ومسلم واللفظ له).
[ثانيًا]وزن العمل:
جاءت عدة أحاديث تشير إلى أن الأعمال ستجسم أمام صاحبها يوم القيامة وأنها ستوزن، بل جاءت أحاديث تشير إلى أن الأعمال ستجسم أمام صاحبها منذ دخوله قبره، ومن ذلك:
(1) ما رواه البراء بن عازب رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يخص مرحلة خروج روح العبد الصالح والتي جاء فيها قوله صلى الله عليه وسلم«... نادى مناد من السماء: أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح...» (رواه الإمام أحمد واللفظ له –الفتح الرباني-، وأبو داود، والحاكم، وابن خزيمة، وصححه الألباني في صحيح الجامع).
(2) وما رواه أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولوا مدبرين، فإن كان مؤمنًا كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلاة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه، فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قبلي مدخل...الحديث» (رواه ابن حبان، والحاكم، والطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
أما أهم الأحاديث التي تشير إلى أن الأعمال ستجسم أمام صاحبها يوم القيامة ثم توزن فهي:
((1) ما رواه أبو الدرداء رضى الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة» (رواه الإمام أحمد–الفتح الرباني-، والترمذي واللفظ له، وأبو داود، وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع).
(2) وما رواه أبو مالك الأشعري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها» (رواه الإمام أحمد –الفتح الرباني-، ومسلم واللفظ له، والترمذي، وابن ماجة، والدارمي، وابن حبان).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فقوله «والحمد لله تملأ الميزان» فيه دلالة على أن العمل نفسه وإن كان عرضًا قد قام بالفاعل يحيله الله يوم القيامة فيجعله ذاتًا وتوضع في الميزان أ.هـ (كتاب الفتن والملاحم – وهو النهاية – لابن كثير).
(3) وما رواه أبو هريرة رضى الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» (رواه الإمام أحمد –الفتح الرباني- والبخاري وللفظ له، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي).
يرى ابن حجر رحمه الله تعالى أن قوله صلى الله عليه وسلم «وروثه وبوله في ميزانه»: يريد ثواب ذلك لا أن الأرواث بعينها توزن (فتح الباري) بينما يرى السندي رحمه الله تعالى خلاف ذلك وأن ذلك يدل على أنه كما توزن الأعمال كذلك الأجرام المتعلقة بها (شرح سنن النسائي للسندي).
(4) وما رواه أبو أمامة الباهلي رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان - أو كأنهما غيايتان - أو كأنهما فرقان من طير صواف - تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة» (رواه الإمام أحمد –الفتح الرباني-، ومسلم، وابن حبان والبيهقي، والطبراني في الكبير) قال الملا علي قارئ في معنى البطلة: أي أصحاب البطالة والكسالة لطولها، وقيل: أي السحرة لأن ما يأتون به باطل، سماه باسم فعلهم الباطل (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا على القارئ).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: والمراد أن ثواب تلاوتهما يصير يوم القيامة كذالك أ.هـ (كتاب الفتن والملاحم – وهو النهاية – لابن كثير).
(5) وما رواه عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: ذكر لي أن الأعمال تباهي فتقول الصدقة: أنا أفضلكم (رواه ابن خزيمة، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
(6) وما رواه أبو ذر رضى الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ينجي العبد من النار؟ قال: «الإيمان بالله» قلت: يا نبي الله مع الإيمان عمل؟ قال: «أن ترضخ – أي تعطي – مما خولك الله، وترضخ مما رزقك الله»، قلت: يا نبي الله فإن كان فقيرا لا يجد ما يرضخ؟ قال: «يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر» قلت: إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ قال: «فليعن الأخرق» - وهو الذي لا صنعة له – قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان لا يحسن أن يصنع؟ قال: «فليعن مظلومًا» قلت: يا نبي الله أرأيت إن كان ضعيفًا لا يستطيع أن يعين مظلومًا؟ قال: «ما تريد أن تترك لصاحبك من خير؟ ليمسك أذاه عن الناس» قلت: يا رسول الله أرأيت إن فعل هذا يدخله الجنة؟ قال: «ما من عبد مؤمن يصيب خصلة من هذه الخصال، إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة» (رواه ابن حبان، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
فإذا كانت الأعمال تتكلم يوم القيامة وتتباهى في ما بينها، وتأخذ بيد صاحبها لتدخله الجنة، فلا وجه للغرابة إذا جسمت ووزنت في الميزان.
[ثالثا]وزن صحائف الأعمال:
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً – أي كتابًا – كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة؛ فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة؛ فلا يثقل مع اسم الله تعالى شيء» (رواه الإمام أحمد – الفتح الرباني – والترمذي واللفظ له وابن ماجة والحاكم وابن حبان وصححه الألباني في صحيح الجامع).
مختارات