" حاجة الدعاة إلى الاستغفار "
" حاجة الدعاة إلى الاستغفار "
إن الدعاة إلى دين الله في أداء مهماتهم الصعبة، في حاجة إلى عون الله وتوفيقه كي تتحقق لهم النتائج المرجوة وهي هداية الناس وبلوغ هذا الدين مشارق الأرض ومغاربها، فمهمة الدعاة هي مهمة أنبياء الله ورسله عليهم السلام، وقد طلب كل من هؤلاء الأنبياء والرسل عليهم السَّلام من ربه العون والتوفيق وكل ما يمهد لهم الطريق لأداء مهمتهم تجاه أقوامهم حتى يتحقق لهم النصر، فلما كانت مهمة الدعاة إلى الله هي نفس مهمة الأنبياء والرسل عليهم السَّلام كان لابد لهم من الاجتهاد في طلب ما يعينهم على أداء الواجب المناط بأعناقهم، وقد فعل ذلك قبلهم من هم خير منهم وأقرب إلى البارئ جلَّ وعلا.
يقول ابن رجب رحمه الله: (وأما الاستغفار من الذنوب، فهو طلب المغفرة، والعبد أحوج شيء إليه؛ لأنه يخطئ بالليل والنهار، وقد تكرر في القرآن ذكر التوبة والاستغفار، والأمر بهما، والحث عليهما، لحديث أنس بن مالك رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل بني آدم خطاء. وخير الخطائين التوابون» (أخرجه الترمذي، وابن ماجه،، وحسنه الألباني، صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته) (جامع العلوم والحكم).
فالاستغفار وسيلة من وسائل وطريقة من الطرق التي بها يتوفر عون الله للداعية ويحالفه التوفيق في أعماله، فيحتاج إلى التوفيق من الله ليهتدي هو بنفسه لما يرضي الله جلَّ وعلا في القول والعمل، كما يحتاج إلى الإعانة من الله تعالى لكي تحصل لمدعويه هداية التوفيق التي لا يملكها أحد كائنا من كان إلا الله جلَّ شأنه.
والمرء المسلم في أثناء استغفاره ربه يعترف بذنوبه ويظهر عجزه وتقصيره ويعلن لربه جلَّ وعلا بأنه لا يملك تدبير شيء من دينه ودنياه، فكل هذا التذلل والانكسار والخضوع يجلَّب عون الله لعبده ؛ لأنه حقيقة التعبد لله جلَّ وعلا.
ولهذا الأمر ولغيره من الأسباب الأخرى أوردها لحاجة الداعية إليها:
1 - إن العاصي يقع بسبب معصيته في قبضة الشيطان وأسره، والاستغفار بمثابة سبيل من سبل الخلاص من قبضة الشيطان، فالداعية الكريم الذي ينير الطريق للناس ويرشدهم أولى الناس بمعرفة وسائل وطرق الخلاص من قبضة الشيطان وأسره، فعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إبليس: «إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال الله:فبعزتي وجلَّالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني» (أخرجه أحمد في مسنده،والحاكم في المستدرك،وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في التلخيص، وقال في الموسوعة الحديثية:حديث حسن).
2 - إن الداعية هو الذي يعلم الناس منهج النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ليقتدوا به صلى الله عليه وسلم في عباداتهم ومعاملاتهم، وقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم الإكثار من الاستغفار في المجالس، فحري بالداعية الكريم أن يكون أول من يحتذي بهذا الرسول ويعود نفسه منهجه القويم لكي يتمكن من تعليم غيره ويكون قدوة حسنة للمدعوين فحاجته إلى الاستغفار إذن حاجه ماسة.
3 - إن الداعية أحوج الناس إلى معرفة الله، ومعرفة الله جلَّ وعلا لن تأتي إلا بالعلم والإيمان، وقد تقرر لدى العلماء العارفين بأن المعاصي من ضررها وقبحها أنها تحرم المرء من العلم، إذ إن العلم نور، فتحجبه عن معرفة الله تعالى، ويفوت عليه سعادة الدنيا والآخرة، فيجدر بالداعية إذن أن يلازم الاستغفار ليغفر الله له ذنوبه حتى يعرف ربه حق المعرفة بالعلم النافع والإيمان القوي.
4 - كم من قول أو فعل يصدر من الداعية إلى الله أثناء ممارسة العمل الدعوي قد يكون من الأخطاء، فقد يحكم بحرمة شيء ما للمدعو ويكون حكمه في الصحيح حلالاً وقد يحصل العكس، كما يمكن أن يسبقه لسانه فيتلفظ بشيء يحرم عليه التلفظ به، فكل هذا يتطلب منه بل ويوجب عليه أن يداوم على الاستغفار.
فعن أبي هريرة رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة، ينزل بها في النار، أبعد ما بين المشرق والمغرب» (أخرجه البخاري ومسلم).
وعن أبي هريرة رضى الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد يتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم» (أخرجه البخاري).
قال النووي رحمه الله: (قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجلَّ يتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوى بها في النار» معناه: لا تدبرها ويفكر في قبحها ولا يخاف ما يترتب عليها، وهذا كالكلمة عند السلطان وغيره من الولاة، كالكلمة تقذف، أو معناه كالكلمة التي يترتب عليها إضرار مسلم ونحو ذلك، وهذا كله حث على حفظ اللسان... وينبغي لمن أراد النطق بكلمة أو كلام أن يتدبر في نفسه قبل نطقه، فإن ظهرت مصلحته تكلم وإلا أمسك) (شرح صحيح الإمام مسلم، النووي).
والمقصود أنه ينبغي للداعية الإكثار من الاستغفار ليغفر الله له زلاته ويعفو عن ما قد ينطق به لسانه من الشر فيحسب عليه وهو لا يلقى له بالاً.
5 - إن الاستغفار يعلم الداعية الصبر مع المدعوين والرحمة بهم والشفقة عليهم، فإنه إذا لزم الاستغفار موقنا بأن الله يغفر له ذنوبه ويتوب عليه يدرك أثناء ذلك رحمة الله وشفقته على المذنبين ؛ إذ أساءوا إليه بإتيان ما نهاهم عنه أو ترك ما أمرهم به أو تجاوز حدوده ومع ذلك كله فتح لهم مجال الاستغفار والتوبة لكي يعفو عنهم ويوفقهم لفعل الخير فالداعية تمس حاجته إلى الاستغفار ليتعلم هذه الدروس ويعتبر بهذه العبر.
قال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ " [البروج: 10].
قال الحسن البصري معلقاً على هذه الآية الكريمة: (انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة) (تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، سامي بن محمد السلامة).
6 - إن أقصى غاية يسعى إليها العبد في هذه الحياة هي دخوله الجنة ونجاته من النار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حولها ندندن» (أخرجه أبو داود،وابن ماجه،وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته) وسؤال الله مغفرة الذنوب ليغفر له سبيل للوصول إلى تلك الغاية المذكورة، فالداعية إلى دين الله من أرغب الناس في دخول جنة ربه وأحرصهم على غيره للفوز بها، فهو إذن محتاج إلى الاستغفار.
قال تعالى في إخبار عباده بأن كل ما يحصل لهم من المصائب فإنه بأفعالهم: " وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ " [الشورى 30].
قال الحافظ بن كثير رحمه الله في تفسير الآية: (أي: مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هو عن سيئات تقدمت لكم، ويعفو عن كثير من السيئات، فلا يجازيكم عليها بل ويعفو عنها) (تفسير القرآن العظيم، ابن كثير).
وقال العلامة عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي رحمه الله: (وما أصابكم من غم وألم ومكروه فبجناية كسبتموها عقوبة عليكم، ويعفو عن كثير من الذنوب، فلا يعاقب عليه، أو عن كثير من الناس فلا يعاجلَّهم بالعقوبة.
وقال ابن عطاء: من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه وأن ما عفا عنه مولاه أكثر كان قليل النظر في إحسان ربه إليه.
وقال محمد بن حامد: العبد ملازم للجنايات في كل أوان، وجناياته في طاعته أكثر من جناياته في معاصيه،لأن جناية المعصية من وجه، وجناية الطاعة من وجه، والله يطهر عبده من جناياته بأنواع من المصائب ليخفف عنه أثقاله في القيامة، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة) (تفسير النسفي المسمى: " مدارك التنزيل وحقائق التأويل "، النسفي).
والمقصود هنا أن المعاصي سبب لجميع البلايا والمصائب ؛ ولذا قال بعض السلف: ما نزلت بلية إلا بذنب، وما رفعت إلا بتوبة.
فإذا أدرك الداعية هذه الحقيقة أكثر من الاستغفار ليعفو الله عن سيئاته ويفوز بسعادة الدارين.
مختارات