" العلاقة بين التوبة والاستغفار "
" العلاقة بين التوبة والاستغفار "
إن لفظ التوبة يقرن دائماً بالاستغفار، والاستغفار كذلك دائمًا يقرن بالتوبة، ولبيان العلاقة بين التوبة والاستغفار، فلا بد من بيان المراد بالتوبة.
قال الراغب الأصفهاني: (التوبُ: تَرْكُ الذّنْبِ على أَجْمَلِ الْوُجُوهِ، وهو أَبْلَغُ وُجُوهِ الاعْتِذَارِ، فَإنّ الإعْتِذَارَ على ثَلاثَةِ أَوْجهٍ: إمَّا أَنْ يَقُولَ المُعْتَذِرُ لم أَفْعَلْ، أو يقولَ: فعلتُ لأَجلَّ كذا، أو فَعَلْتُ وأسأت وقد أَقْلَعْتُ ولا رابع لذلك، وهذا الرابع هُوَ التوْبَةُ) (انظر: المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق محمد سيد كيلاني ص 83، (مادة: توب)).
التوبة: هي الإقلاع عن عمل ذنب، والعزم على أن لا يعود إليه (التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور).
وقيل: هي ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يُتدارك من الأعمال بالإعادة (المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني).
قال ابن القيم رحمه الله: (هي الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب وترك ما يكره) (مدراج السالكين).
وقيل: هي الرجوع إلى الله بحل عقدة الإصرار عن القلب ثم القيام بكل حقوق الرب (التعريفات، الجرجاني، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة).
والتوبة النصوح قد اختلفت عبارات السلف في بيانها، فمن ذلك (مدارج السالكين): قول عمر بن الخطاب وأبي بن كعب رضى الله عنهما : (التوبة النصوح: أن يتوب من الذنب ثم لا يعود إليه، كما لا يعود اللبن إلى الضَّرع).
وقول الحسن البصري رحمه الله: (هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعًا على أن لا يعود فيه).
وقول الكلبي رحمه الله: (أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن).
وقول سعيد بن المسيب رحمه الله: (توبة نصوحًا تنصحون بها أنفسكم) جعلها بمعنى ناصحة للتائب.
فالتوبة النصوح من الذنب هي توثيق العزم على أن لا يعود لمثله (التعريفات الجرجاني، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة).
وعلى هذا فالتوبة والاستغفار لفظان يشتركان في المعنى فيعطي واحد منهما معنى الآخر وذلك عند افتراقهما، أما عند الاقتران فإن لكل واحد منهما معنى خاص.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (والاستغفار يتضمن التوبة، والتوبة تتضمن الاستغفار، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق.
وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله. فها هنا ذنبان: ذنب قد مضى فالاستغفار منه طلب وقاية شره، وذنب يخاف وقوعه، فالتوبة العزم على أن لا يفعله، والرجوع إلى الله يتناول النوعين: رجوع إليه ليقيه شر ما مضى، ورجوع إليه ليقيه شر ما يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله.
فها هنا أمران لا بد منهما: مفارقة شيء، والرجوع إلى غيره، فخصت " التوبة " بالرجوع، و " الاستغفار " بالمفارقة، وعند إفراد أحدهما يتناول الأمرين، ولهذا جاء – والله أعلم – الأمر بهما مرتبا بقوله: " وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ " [هود: 3]فإنه الرجوع إلى الطريق الحق بعد مفارقه الباطل.
وأيضاً فالاستغفار من باب إزاله الضرر، والتوبة طلب جلَّب المنفعة، فالمغفرة أن يقيه شر الذنب، والتوبة أن يحصل له بعد هذا الوقاية ما يحبه، وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده) (مدراج السالكين).
وأفضل الاستغفار ما اقترن به ترك الإصرار، وهو حينئذ توبة نصوح (جامع العلوم والحكم، ابن رجب).
وأما الإصرار وهو الاستقرار على المخالفة، والعزم على المعاودة، وذلك ذنب آخر، لعله أعظم من الذنب الأول بكثير، وهذا من عقوبة الذنب أنه يوجد ذنبًا أكبر منه، ثم الثاني كذلك، ثم الثالث كذلك، حتى يستحكم الهلاك (مدارج السالكين).
مختارات