" تيسير سبل الكسب الحلال أمام المسلم : حرف ومهن "
" تيسير سبل الكسب الحلال أمام المسلم: حرف ومهن "
وطرق الكسب المشروعة لا تكاد تحصى كما أسلفنا، فالمهن كثيرة ومتعددة ومتجددة، كالطب والهندسة والصيدلة والطباعة والمساحة، والسباكة، والحدادة، وأعمال البناء والكهرباء، وإصلاح السيارات والأجهزة النافعة والقيادة والنظافة وغير ذلك.
" الوظائف العامة "
أ- إتقان العمل الوظيفي كسب حلال:
يطلب الإسلام من المسلم أن يؤدي كل عمل يناط به - دينيًّا أو دنيويًّا - بإخلاص وإتقان وإحسان على الوجه الأكمل، ومن ذلك المهام الوظيفية، فهي تدخل في الكسب الحلال، والإخلال بواجباتها يدخل في نطاق الحرام.
فالمحافظة على ساعات العمل كاملة واستنفادها في أدائه، وبذل الجهد في هذا العمل، وعدم استغلاله في منافع شخصية أو مكاسب خارجة عن نطاق الراتب الوظيفي، كل هذا وغيره يعد إتقانًا للعمل وإحسانًا فيه.
وحقيقة هذا الإحسان كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (من حديث الإسلام والإيمان والإحسان، الإمام مسلم) وأداء الواجب الوظيفي المشروع (احتراز عن الوظيفة غير المشروعة كالعمل في ملهى أو مصرف ربوي) لون من ألوان العبادة، ولقد أثنى الله تعالى على من يحسنون العمل للدين والدنيا، وبين أنهم مجزيون عليه الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة.
فقال: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا " [الكهف: 30].
وقد أمرنا تعالى بهذا الإحسان والإتقان، فقال: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ " [النحل:90].
وأخبر سبحانه وتعالى أنه يشهد كل عمل نعمله ولا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء فقال: " وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " [يونس: 61] (وفي الآية دليل على الإحسان ومنه إتقان العمل الوظيفي).
" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " [المجادلة: 7].
" إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ " [آل عمران: 5].
" الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ " [الشعراء: 218-219].
" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ " [ق:16].
" وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ " [الحديد: 4].
هذه الآيات وأمثالها توجب على المسلم أن يكون أمينًا على عمله مخلصاً فيه، متقناً له، لأنه يؤمن ويعتقد أنه بمرأى من الله تعالى: " لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " [الأنعام: 103].
فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى السنة النبوية فإننا نجد الكثير، ومن ذلك:
1- ما رواه شداد بن أوس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» (مسلم).
2-وما رواه البيهقي في الشعب عن كليب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يحب من العامل إذا عمل أن يحسن» (حسنه المحدث الألباني).
3-وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَه» ( صحيح الجامع).
ومن هذا الإحسان الذي كتبه الله تعالى على كل شيء، والذي يحبه تعالى ويأمر به: الإحسان في أداء المهام الوظيفية، بأدائها على خير وجه وعدم الإتجار بها أو التقصير فيها أو استغلالها في الحصول على كسب غير مشروع من خلالها.
ب- خيانة الأمانة في المجال الوظيفي كسب حرام:
للأمانة في الإسلام مدلول واسع، فهي ترمز إلى معانٍ شتى، تهدف جميعها إلى شعور المرء بتبعته، وتحمله مسؤولية كل أمر يناط به، ليكون ذا ضمير يقظ، تصان به حقوق الله وحقوق الناس، وتحرس به الأعمال من دواعي التفريط والإهمال (انظر في عموم الأمانة وشمولها لجميع حقوق الله وحقوق العباد الحافظ ابن كثير تفسير القرآن العظيم، الآية رقم 58 من سورة النساء).
والذي يعنينا من موضوع الأمانة هو حفظ الحقوق والواجبات الوظيفية وإن استطاع الموظف أن يهضمها، أو تهيأت له ظروف العدوان عليها عن طريق الاختلاس أو الرشوة، ومن ذلك الائتمان على أداء المهام الوظيفية بحفظ ما اؤتمن عليه وأدائه كاملًا مقابل ما يتقاضاه من راتب دون التطلع إلى مقابل آخر أو مكافأة إضافية، وهذا هو مقتضى القيام بواجب الأمانة الوظيفية:
عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول» (أخرجه أبو داود).
وقد مدح الله تعالى من يؤدي العمل المنوط به بقوة وأمانة، فقال: " إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ " [القصص: 26].
وأداء المهام الوظيفية على أكمل وجه يدخل ضمن حدود الأمانة التي حملها الإنسان - على ظلمه وجهله وعجزه وضعفه - بعد أن ناءت السماوات والأرض والجبال عن حملها وأشفقن منها (انظر معاني الأمانة الواردة في الآية عند ابن كثير في التفسير ج3 ص522-524).
والموظف مؤتمن من قبل الدولة على وظيفته، ومطلوب منه أن يؤدي واجباته في دقة وأمانة كما أمره ربه. قال تعالى: " فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ " [البقرة: 283].
فإذا توافرت فيهم هذه الصفة فهم من أهل الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: " وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ " [المؤمنون: 8 والمعارج: 23].
والقيام بواجب الأمانة في جميع المجالات، ومنها المجال الوظيفي، من أسباب دخول الجنة؛ عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة، اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم» (رواه أحمد، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي).
فإذا خان المسلم الأمانة الموكولة إليه، فأخل بواجباته الوظيفية فقد ارتكب ما يقدح في أمانته، وما يباعده عن الجنة، ويتحقق بهذا إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن مجيء الوقت الذي تقبض فيه الأمانة من القلب، ويبقى أثرها.
عن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت» (من حديث طويل أخرجه البخاري ومسلم والترمذي).
أي النقطة في الشيء من غير لونه.
وكما أمرنا الله تعالى بأداء الأمانة فقد نهانا عن الخيانة في شتى صورها، ومنها خيانة المهام الوظيفية.
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " [الأنفال: 27].
وأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يحب الخائنين، فقال: " إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ " [الأنفال:58].
وإذا خان المسلم واجباته الوظيفية فهو غير أهل لأن يتولى أمرًا من أمور الدولة، لأنه قد ضيع الأمانة، وإضاعتها من علامات الساعة.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: «إذا وُسِد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (أخرجه البخاري).
على أن المهام الوظيفية - كثرت أم قلت - أمانة عظيمة، وعبء ثقيل، يسبب الخزي والندامة يوم القيامة لمن لم يحسن القيام بواجباتها، ويؤدي ما عليه فيها نحو الله والعباد.
عن أبي ذر رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» (مسلم).
وخيانة المهام الوظيفية، فيه غدر، وغلول، وكسب حرام، والغادر ينصب له لواء يوم القيامة ضمن أهل الغدر والخيانة ليعرف به من الملأ.
عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل غادر لواء يوم القيامة، ينصب يوم القيامة يعرف به» (متفق عليه).
وكلما عظمت المهام الوظيفية كلما عظم شأن الأمانة فيها.
ج- المسؤولية الوظيفية والكسب الحلال:
ولابد للمسلم أن يدرك إدراكاً جازماً أنه مسؤول أمام ربه مسؤولية تامة عن أداء ما كلف به من الأعمال الوظيفية. قال تعالى: " فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " [الحجر: 92-93].
وقال: " وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولونَ " [الصافات: 24].
والله سبحانه سيطلعنا يوم القيامة على جوانب التقصير ويحاسبنا عليه.
قال تعالى: " وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " [التوبة: 105].
والوظيفة أمانة ومسؤولية، والله تعالى سائل كل راع عما استرعاه، حفظ أم ضيع.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلكم راع فمسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (أخرجه الشيخان).
فإذا أدى المسلم مسؤوليات وواجبات وظيفته على الوجه الأكمل كان أجره منها كسباً حلالاً وإلا فقد دخل في نطاق الحرام.
مختارات