" العمل في حياة الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين "
" العمل في حياة الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين "
وإذا تتبعنا حياة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، نجدها مليئة بالعبر العظيمة في مجال الأخذ بالأسباب، والسعي على المعاش، وهم المصطفون الأخيار، المبلغون عن الله رسالته، والأمناء على وحيه، والذين قال تعالى فيهم: " أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ " [الأنعام: 89].
وقال عنهم أيضًا: " أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ " [الأنعام:90].
ومع ذلك فقد كانوا مثلًا أعلى على مر العصور وقدوة حسنة لأممهم في كل شيء، ومن ذلك التكسب من الطرق المشروعة.
أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن زكريا عليه السلام كان نجارًا» (مسلم).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان آدم عليه السلام حراثًا، ونوح نجارًا، وإدريس خياطًا، وإبراهيم ولوط زارعين، وصالح تاجرًا، وداود زرّادًا، وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله عليهم وسلم رعاة» (ابن قدامة المقدسي، مختصر منهاج القاصدين ومع اختلاف في اللفظ نسبه الحافظ ابن حجر إلى الحاكم في المستدرك، انظر: فتح الباري).
ويستفاد من الحديث والأثر وغيرهما أن رسل الله جميعاً كانوا يزاولون الأعمال بأيديهم، ويسعون على معاشهم وتحصيل قوتهم وقوت من يعولون.
وإليك هذا المختصر فيما يتعلق ببعض رسل الله تعالى وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام:
آدم عليه السلام: فقد كان آدم أبو البشر حراثًا وزراعًا، وكان صانعاً يصنع آلات الزراعة بيده وبمساعدة زوجته له، وكان بنَّاء، قيل: إنه أول من بنى الكعبة الشريفة بيده.
إدريس عليه السلام: وكان إدريس أول من خاط الملابس بعد أن كانوا يلبسون الجلود...
نوح عليه السلام: وكان نوح يرعى الغنم لقومه، وكان نجارًا، صنع سفينة النجاة بيده من الخشب والمسامير، وكان هذا سببًا لسخرية بعض الجهلاء منه: " وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ " [هود: 38].
يوسف عليه السلام: وكان يوسف وزيرًا على خزائن مصر " قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ " [يوسف: 55] وكان من قبل خادمًا في بيت عزيز مصر.
صالح وشعيب عليهما السلام: واشتغل صالح وشعيب بالتجارة.
موسى عليه السلام: وكان موسى راعياً لغنم شيخ مدين ثماني أو عشر سنوات على أن يزوجه ابنته التي شهدت له بالقوة والأمانة والعفة التي شاهدتها منه " إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ " [القصص: 26].
وقد حمد موسى ربه الذي ساق إليه هذا العمل " رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ " [القصص: 24] وكان موسى كاتباً يكتب التوراة بيده.
داود عليه السلام: وكان داود زرّاداً يصنع الدروع، وقد ألان الله له الحديد، فاحترف مهنة الحدادة التي يمتهنها بعض الناس اليوم، " وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ " [الأنبياء:80].
سليمان عليه السلام: وكان سليمان يصنع المكاتل من الخوص، وقد طوع الله له النحاس ليصنع التماثيل الجائزة في شريعته، ويصنع المحاريب، وأحواض المياه، والقدور الروابي. قال تعالى: " وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ " [سبأ: 12].
وقال: " يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ " [سبأ: 13].
زكريا وعيسى عليهما السلام: وكان زكريا وعيسى نجارين، وكان عيسى يأكل من غزل أمه الصدِّيقة (مريم).
محمد صلى الله عليه وسلم: حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رعى الغنم في صباه على قراريط لأهل مكة (راجع صحيح البخاري بشرح فتح الباري ) والقيراط نصف عشر الدينار.
واشتغل صلى الله عليه وسلم بالتجارة في شبابه مع ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها (راجع ابن هشام: أبي محمد عبد الملك، سيرة النبي صلى الله عليه وسلم).
وكان صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة ويشد الحجر الأسود بنفسه في بناء الكعبة الشريفة ( راجع ابن هشام: أبي محمد عبد الملك، سيرة النبي صلى الله عليه وسلم) وكان صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يتميز على أصحابه، ففي بناء المسجد النبوي كان ينقل الحجارة بنفسه، ويشجع أصحابه على العمل.
تقول أم سلمة رضي الله عنها: «فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته بيده».
ورأى الصحابة المشاركة الفعلية والروح العالية فنشطوا في البناء وجدوا في العمل وهم ينشدون:
«لئن قعدنا والرسول يعمل لذاك منا العمل المضلل» (راجع ابن هشام وانظر الحافظ ابن حجر في فتح الباري).
وكانت الصخرات القوية التي يعجز عنها القوم تتفتت، تحت ضربات النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق (راجع ابن هشام: أبي محمد عبد الملك، سيرة النبي صلى الله عليه وسلم).
وكان صلى الله عليه وسلم أقرب الناس إلى العدو إذا حمى الوطيس، واشتد البأس في الحروب، وبهذا ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في وجوب العمل، وعدم التمييز عن الرعية.
وهكذا هؤلاء وغيرهم من رسل الله وأنبيائه، ممن اختار الله سبحانه واصطفى، لم يقعدوا عن طلب الرزق، ولم يرزقوا دون كد وتعب، وأخذ بالأسباب، بما لهم من منزلة عند الله تعالى، أو من حق القيادة والريادة لأممهم، وإنما عملوا بأيديهم، وسعوا في تحصيل عيشهم، ليستن بهم غيرهم ويحذوا حذوهم، فيطلبون الدنيا من حلها، وقاية لهم من الحرام، والكسب غير المشروع، وليس هناك استثناء في هذا المقام، حتى خاتم الرسل وصفوة خلقه صلى الله عليه وسلم.
مختارات