" الترغيب في طلب الحلال "
" الترغيب في طلب الحلال "
أولًا: من القرآن الكريم:
كي يجنب الإسلام أتباعه من مخاطر الحرام وعواقبه التي تؤدي إلى المهالك، شرع لهم من طرق الكسب الحلال ما يقيهم من عذاب الله في الآخرة، ويحفظ عليهم دينهم، وحياتهم من الفساد، وذلك ببذل الجهد في العمل، والتكسب من الطرق المشروعة، والأخذ بالأساليب الموصلة إليها.
بل وحث الإسلام على الأخذ بها ورغب فيها، وجعلها ضرباً من العبادة التي يثاب المرء عليها.
1- فتارة يقدمها على الجهاد في سبيل الله، فيقول تعالى: " وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " [المزمل: 20].
2- وتارة يأمر بها عقب الفراغ من العبادة، فيقول تعالى: " فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ " [الجمعة: 10].
3- ومثله قوله تعالى: " فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَب " [الشرح:7].
4- وتارة يتحدث عن أسباب الرزق ولا يمنع من ممارستها حتى في أثناء أداء فريضة العمر، فيقول جل شأنه في سياق الحديث عن مناسك الحج: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ " [البقرة:198].
5- وتارة يصف عباده الصادقين المخلصين بمزاولة الكسب الحلال، فيقول: " رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ " [النور: 37].
6- وعن البيع والشراء يقول جل شأنه: " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا " [البقرة: 275].
7- وفي معرض النهي عن أكل أموال الناس بالباطل يقي الله سبحانه المسلم من الكسب غير المشروع بمشروعية التجارة فيقول: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ " [النساء: 29].
هذا: ولم أعمد إلى تقصي آيات القرآن الكريم التي وردت في هذا المقام، وإنما أردت الإشارة إليها فحسب، وكذلك الشأن في الأحاديث والآثار الآتية.
ثانيًا: من السنة النبوية:
ليس الإسلام دين بطالة أو تواكل، أو سؤال وكسل وخمول، وإنما هو دين يحفز أتباعه على العمل ويحث عليه، ويمقت الاعتماد على الآخرين، فهو يشخص الداء ويضع الدواء، ويتبين مدى حرص الإسلام على الكسب المشروع من الأحاديث التالية:
1- عن أنس رضى الله عنه أن رجلاً من الأنصار، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: «أما في بيتك شيء؟» قال: بلى: حِلْسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وَقَعْبٌ نشرب فيه من الماء، قال ائتني بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «من يشتري هذين؟» فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يزيد على درهم. مرتين، أو ثلاثاً» قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه: وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدُّوماً فأتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عوداً بيده، ثم قال: «اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما»، ففعل، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً، وببعضها طعاماً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث: لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع (رواه أبو داود والبيهقي بطوله، واللفظ لأبي داود، وأخرج الترمذي والنسائي منه قصة بيع القدح فقط. وقال الترمذي: حديث حسن، نقلاً عن المنذري في الترغيب والترهيب وقال الأرناؤوط: رواه أحمد وابن ماجه)».
ففي الحديث توجيه وحث على العمل، وترك السؤال، وتأنيب على البطالة والاعتماد على الآخرين.
2- وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خيرٌ من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه» (محمد فؤاد عبد الباقي: اللؤلؤ والمرجان. وراجع طرق الحديث ورواياته في جامع الأصول. والمنذري في الترغيب والترهيب ).
فالعمل مهما كان ؛ أفضل من سؤال الناس، لأن فيه حفظاً لكرامة المسلم، واستغناءً عنهم.
3- وعن رافع بن خديج، من طريق، وللطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، من طريق آخر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور» ( سلسلة الأحاديث الصحيحة).
ففيه حث على العمل، والبيع المشروع، وأنه أطيب أنواع الكسب.
ويعتبر الإسلام السعي للكسب من طريق حلال ضرباً من الجهاد في سبيل الله.
4- ففي الحديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «..أما إنه إن كان يسعى على والديه أو أحدهما فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه فهو في سبيل الله» (رواه البيهقي).
وعمل الرجل بيده أفضل طريق لطلب الكسب الحلال ووقاية له من الحرام، كما يشير إليه الحديث الآتي:
5- أخرج البخاري وأحمد عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» (نقله المنذري عن البخاري في الترغيب والترهيب وهو في الصحيح بشرح فتح الباري).
وأكل الحلال الطيب سبب من أسباب دخول الجنة.
6- عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل طيبًا وعمل في سنة، وأمن الناس بوائقه، دخل الجنة، قالوا يا رسول الله: إن هذا في أمتك كثير، قال: وسيكون في قرون بعدي» (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، سلسلة الأحاديث الصحيحة).
ثالثًا: من الآثار:
1-ومن أقوال عمر رضى الله عنه، في الحث على طلب الرزق، وقاية المسلم من الكسب الحرام: «لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة» (الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين).
2- وكان رضى الله عنه يقول: «إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا: لا سقط من عيني» (علي المتقي، كنز العمال).
3- وكان يقول أيضاً: «مكسبة فيها بعض الدناءة خير من مسألة الناس» (علي المتقي، كنز العمال).
4- والقعود عن طلب الرزق، ولو كان باسم العبادة، لا يقرُّه الإسلام ولا غيره: روي أن عيسى عليه السلام رأى رجلاً فقال: «ما تصنع؟ قال: أتعبد، قال: من يعولك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبدُ منك»(علي المتقي، كنز العمال).
5- وقيل لأحمد بن حنبل: ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي، فقال أحمد: هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وجُعل رزقي تحت ظل رمحي».
وقال حين ذكر الطير: «تغدو خماصًا وتروح بطانًا..»(صحيح الجامع الصغير).
وجاء في الأثر أنه قيل: من المؤمن؟ فقيل: من إذا أمسى نظر من أين فرصة (أبو سعيد الخراز، الطريق إلى الله).
ففي هذا الأثر وجوب تحري الحلال ومحاسبة النفس على مصدر الرزق.
وقال أبو سليمان الداراني: «ليس العبادة عندنا أن تَصُفَّ قدميك وغيرك يتعب لك، ولكن ابدأ برغيفك فأحرزه ثم تعبد» (ابن قدامة المقدسي، مختصر منهاج القاصدين، والإمام الغزالي، الإحياء).
ولا يعني الاعتناء بطلب الرزق أن يكون ذلك على حساب العبادة، فالمسلم يؤدي فرضه، ويسعى لرزق ربه.
فهذه آيات وأحاديث، وآثار، وأخبار، كلها تحث على العمل المشروع، وترغب فيه، وتبين فضله، وقاية للمسلم من الكسب غير المشروع كالرشوة وغيرها.
وأخيراً: فإن قضية الرزق الذي يأتي للإنسان عن طريق العمل المشروع كما أرشد إليه الإسلام، ذات وجهين، كسائر ما يجنيه الإنسان بعمله في الحياة.
الوجه الأول: بذل السبب، وممارسة العمل والسعي والبحث عن الرزق.
الوجه الثاني: هو الفضل الرباني في تقدير هذا الرزق، وتيسير أسبابه، والتوفيق في العمل، ودفع الموانع، وتحقيق النتائج.
وكلا الوجهين في نصوص القرآن والسنة حينما تتحدث عن الكسب فتقرن السعي الإنساني في طلب الرزق بابتغاء فضل الله تعالى.
مختارات