" العثرة العاشرة "
" العثرة العاشرة "
تثاقلت بوالدي الأيام.. وبدأ المرض يوهن جسمه النحيل.. حتى ساقه إلى الموت..
منذ أن توفي وقوافل المعزين تتقاطر.. هناك من نعرفه والكثير لا نعرفهم.. هذه هي صورة المجتمع المسلم.. مجتمع تواد ورحمة.. ومن أحوج من المصاب إلى لمسة حانية وتعزية صادقة؟! تطيب بها نفسه ويهدأ لها خاطره.
في تلك الأيام التي امتلأت بالأحزان وفاضت بالدموع ونحن أطفال صغار حولها.. كانت والدتي تخفي الدمعة خشية أن نراها على الرغم من محبتها وعاطفتها نحو والدي إلا أنها آثرت أن لا تعين الحزن على البقاء والدمعة على السقوط.
هاتفنا أخي المسافر للدراسة.. وأطال الحديث مع والدتي وأصر على أن يأتي وقال لها: ليس عندكم أحد.. وأخي الآخر صغير السن..
ولكن صوت والدتي تحول إلى قوة صوت رجل قارب الأربعين من عمره مكتمل الصحة والنشاط لا أثر للحزن فيه.. وليس هناك مكان لدمعة في عينه.. يجب أن تبقى وتتم تعليمك.. يجب أن تنهي دراستك..
وعندما سمع أخي تلك القوة تدفعه إلى ساحات العلم قال لها: سآتي هذه الأيام فقط.
قالت: هذه الأيام انتهت لا تأتي !!
بعد أن انقطع صوت أخي.. خطت والدتي إلى غرفتها خطوات أضعفتها السنين وأرهقتها المصيبة..
هناك.. تحولت تلك القوة إلى ضعف.. وذلك البأس إلى دموع..
أسمع نشيجها خلف الباب يصل إلى مسامعي كصوت إنسان مخنوق.. وهي تحاول أن لا يرتفع البكاء.. ولا يسمع الصوت.
تتابع بكاؤها.. وبكيت لحالها..
زوج أمي في القبر.. وابن في أقصى الأرض وحولها أطفال صغار..
لم يصبها الضعف ولم ينل منها الوهن.. رغم أنها كانت كذلك في داخل نفسها.. ولكنها آثرت أبنائها وأخفت الدمعة.. دفعت بأخي إلى ساحات الرجال..
سنوات قليلة فإذا بوالدتي تدفن بجوار أبي.. وشهور بعدها فإذا بأخي قادم يحمل شهادته بيده.. وعندما قدم يحمل ذلك الفرح.. فقد ذلك الحنين ولم ير تلك الأم..
أختي المسلمة:
الكثيرات الآن من الأمهات توصي ابنها أن لا يجهد نفسه في الدراسة أو العمل.. وكأن الأمة بحاجة إلى الضعف والوهن.. لم تر أن الأمة بحاجة إلى الرجال !!
أختي.. هؤلاء الرجال من أين يقبلون؟! ومن أي البيوت يخرجون؟!
إنهم يسيرون عبر عين الأم.. وخلف توجيهاتها منذ أن كانوا صغارًا..
تشاركين - أختي المسلمة - في وضع لبنة في المجتمع وتستقبلين أيامك وترين كيف حال هذه اللبنة؟! وأين مكانها في ذلك البناء؟! وهل هي عامل ضعف وثغرة يدخل منها إلى الإسلام؟! أم هي ركن حصين وقناة لا تلين ولا تتأثر مع مرور الأيام وتطاول السنين؟!
أختي المسلمة: أنت ترسمين مستقبل الأمة.. وتنفذيه.. هلا أريت الأمة منك خيرًا !!
ما بعد العثرة:
قال الأصمعي: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق، فقصدناها فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام.
قالت: وما أنتم؟ قلنا: قوم ضالون عن الطريق، أتيناكم فأنسنا بكم..
فقالت: يا هؤلاء ولوا وجوهكم عني حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فألقت لنا مسحًا، فقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني، ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها إلى أن رفعتها..
فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني، وأما الراكب فليس بابني، فوقف الراكب عليها، فقال: يا أم عقيل، أعظم الله أجرك في عقيل..
قالت: ويحك مات ابني؟ قال: نعم..
قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر..
فقالت: انزل فاقض ذمام القوم، ودفعت كبشًا فذبحه وأصلحه وقرب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا وقد تكورت..
فقالت يا هؤلاء: هل فيكم من أحد يحسن من كتاب الله شيئًا؟ قلت: نعم.
قالت: اقرأ علي من كتاب الله آيات أتعزى بها..
قلت: يقول الله عز وجل في كتابه: " وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ".
قالت: آلله إنها لفي كتاب الله هكذا؟ قلت: آلله إنها لفي كتاب الله هكذا، قالت: السلام عليكم، ثم صفت قدميها وصلت ركعات ثم قالت: «إنا لله وإنا إليه راجعون» عند الله احتسب عقيلاً، تقول ذلك ثلاثًا، اللهم إني فعلت ما أمرتني به فانجز لي ما وعدتني [تسلية أهل المصائب].
مختارات