" نماذج من ثمار نكاح الصالحات "
" نماذج من ثمار نكاح الصالحات "
ذكر أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه نهى في خلافته عن مذق اللبن بالماء (أي مزجه به) فخرج ذات ليلة في حواشي المدينة، فإذا بامرأة تقول لابنةٍ لها: ألا تمذقين لبنك فقد أصبحت؟ فقالت الجارية: كيف أمذق، وقد نهى أمير المؤمنين عن المذق؟ فقالت: قد مذق الناس فامذقي، فما يدري أمير المؤمنين.
فقالت: إن كان عمر لا يعلم، فإله عمر يعلم، ما كنت لأفعله وقد نهى عنه.
فوقعت مقالتها من عمر، فلما أصبح دعا عاصمًا ابنه فقال: يا بني اذهب إلى موضع كذا وكذا، فاسأل عن الجارية - ووصفها له - فذهب عاصم، فإذا هي جارية من بني هلال، فقال له عمر: اذهب يا بني فتزوجها، فما أحراها أن تأتي بفارس يسود العرب، فتزوجها عاصم بن عمر فولدت له أم عاصم بنت عاصم بن عمر ابن الخطاب، فتزوجها عبد العزيز بن مروان بن الحكم، فأتت بالخليفة عمر بن عبد العزيز(سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم).
خطب أبو طلحة أم سليم قبل أن يسلم، فقالت: ما مثلك يرد، ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة، فإن تسلم فذلك مهري لا أسألك غيره، فأسلم وتزوجها.
أخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي: أن امرأة دفعت إلى ابنها يوم أحد السيف فلم يطق حمله، فشدته على ساعدة بنسعة، ثم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، هذا ابني يقاتل عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أي بني، احمل هاهنا، احمل هاهنا» فأصابته جراح فانصرع، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أي بني لعلك جزعت» قال: لا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزل قول الله تعالى: " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً " [البقرة: 245] قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح» قال: أرني يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، فإني قد أقرضت ربي -عز وجل- حائطي قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح فنادها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي، فقد أقرضته ربي -عز وجل-، فحملت ما لها من متاع، وكان بيد أحد أبنائها تمرة فألقتها من يده وخرجت مع صغارها (انظر تفسير ابن كثير).
قال الإمام أحمد - رحمه الله - عن زوجته عباسة بنت الفضل: أقامت معي ثلاثين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة، ثم ماتت رحمها الله.
وكان ببغداد رجل بزاز(البزاز: بائع البز، والبز: الثياب أو متاع البيت من الثياب ونحوها) له ثروة، فبينا هو في حانوته أقبلت إليه صبية فالتمست منه شيئًا تشتريه، فبينا هي تحادثه كشفت وجهها في خلال ذلك، فتحير، وقال: قد والله تحيرت مما رأيت.
فقالت: ما جئت لأشتري شيئًا، إنما لي أيام أتردد إلى السوق ليقع بقلبي رجل أتزوجه، وقد وقعت أنت بقلبي، ولي مال، فهل لك في التزوج بي؟ فقال لها: لي ابنة عم وهي زوجتي، وقد عاهدتها ألا أغيرها، ولي منها ولد.
فقالت: وقد رضيت أن تجيء إلي في الأسبوع نوبتين، فرضي، وقام معها، فعقد العقد ومضى إلى منزلها، فدخل بها.
ثم ذهب إلى منزله، فقال لزوجته: إن بعض أصدقائي قد سألني أن أكون الليلة عنده.
ومضى، فبات عندها، وكان يمضي كل يوم بعد الظهر إليها. فبقي على هذا ثمانية أشهر. فأنكرت ابنة عمه أحواله، فقالت لجارية لها: إذا خرج فانظري أين يمضي؟ فتبعته الجارية، فجاء إلى الدكان، فلما جاءت الظهر قام، وتبعته الجارية، وهو لا يدري، إلى أن دخل بيت تلك المرأة، فجاءت الجارية إلى الجيران فسألتهم: لمن هذا الدار؟ فقالوا: لصبية قد تزوجت برجل تاجر بزاز.
فعادت إلى سيدتها، فأخبرتها، فقالت لها: إياك أن يعلم بهذا أحد، ولم تظهر لزوجها شيئًا.
فأقام الرجل تمام السنة، ثم مرض، ومات، وخلف ثمانية آلاف دينار، فعمدت المرأة التي هي ابنة عمه إلى ما يستحقه الولد من التركة، وهو سبعة آلاف دينار، فأفردتها وقسمت الألف الباقية نصفين، وتركت النصف في كيس، وقالت للجارية: خذي هذا الكيس واذهبي إلى بيت المرأة، وأعلميها أن الرجل مات، وقد خلف ثمانية آلاف دينار، وقد أخذ الابن سبعة آلاف بحقه، وبقيت ألف فقسمتها بيني وبينك، وهذا حقك، وسلميه إليها، فمضت الجارية، فطرقت عليها الباب، ودخلت، وأخبرتها خبر الرجل، وحدثتها بموته، وأعلمتها الحال، فبكت، وفتحت صندوقها وأخرجت منه رقعة وقالت للجارية: عودي إلى سيدتك، وسلمي عليها عني، وأعلميها أن الرجل طلقني، وكتب لي براءة، وردي عليها هذا المال، فإني ما استحق في تركته شيئًا (صفة الصفوة).
وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتابه [الورع]؛ قال العباس بن سهم: إن امرأة من الصالحات أتاها نعي زوجها وهي تعجن، فرفعت يديها من العجين، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شريك [أي الورثة].
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: كنت مع أبي يومًا من الأيام في المنزل، فدق الباب، وقال لي: اخرج انظر من بالباب، قال: فخرجت فإذا امرأة، قالت لي: أستأذن على أبي عبد الله تعني أباه، قال: فاستأذنت، فقال: ادخلها، فدخلت فجلست، فسلمت عليه، وقالت له: يا أبا عبد الله أنا امرأة أغزل بالليل في السراج فربما طفئ السراج فأغزل في القمر، فعلي أن أبين غزل القمر من غزل السراج؟ قال: فقال لها: إن كان عندك بينهما فرق فعليك أن تبيني ذلك، قال: قالت له: يا أبا عبد الله، أنين المرض شكوى؟ قال: أرجو أن لا يكون شكوى، ولكنه اشتكاه إلى الله، قال: فودعته وخرجت، قال: فقال لي: يا بني، ما سمعت قط إنسانًا يسأل عن مثل هذا، اتبع هذه المرأة فانظر أين تدخل؟ قال: فتبعتها، فإذا هي قد دخلت إلى بيت بشر بن الحارث، وإذا هي أخته، قال: فرجعت فقلت له، فقال: محال أن تكون مثل هذه إلا أخت بشر (طبقات الحنابلة).
من ثمار وآثار زواج الصالحات حفظ ورعاية الأبناء في حياة الأب وبعد مماته، وإليك نماذج تبين دور المرأة المسلمة في تربية قادة الأمة وعلمائها وعظمائها:
- الإمام الثقة الثبت، أمام أهل الشام وفقيههم: أبو عمرو الأوزاعي - رحمه الله - قال عنه النووي: وقد أجمع العلماء على إمامة الأوزاعي، وجلالته وعلو مرتبته، وكمال فضله، وأقاويل السلف -رحمهم الله- كثيرة مشهورة، مصرحة بورعه وزهده وعبادته وقيامه بالحق وكثرة حديثه وغزارة فقهه، وشدة تمسكه بالسنة، وبراعته في الفصاحة، وإجلال أعيان أئمة عصره من الأقطار له واعترافهم بمرتبته اهـ.
ذلك الحبر البحر كان أيضًا ثمرة أم عظيمة !! هي التي رعته وربته بعد وفاة والده.
وهذا ربيعة الرأي -رحمه الله- شيخ الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- سافر أبوه للغزو والجهاد في سبيل الله، وهو جنين في بطن أمه، ثم غاب ولم يعد، وترك عند زوجته ثلاثين ألف دينار، فأنفقتها تلك الأم الفاضلة في تعليم ولدها وتفقيهه في دينه، حتى صار ذلك الابن ربيعة الرأي شيخ أهل المدينة، وعالمها المقدم ومفتيها وفقيهها !!
وهذا الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- إمام دار الهجرة، وصاحب الكتاب العظيم [الموطأ] وهو الذي كانت تشد له المطايا من أقطار الدنيا، طلبًا لعلمه وفتواه، وهو كانت تهابه الملوك والسلاطين !!
هذا الإمام الجليل، كان ثمرة أم فاضلة، يسرت له سبل طلب العلم، وحثته عليه، وربته على تحصيله، واسمع إلى الإمام مالك وهو يحكي ذلك فيقول: قلت لأمي: أذهب فأكتب العلم؟ فقالت لي: تعال فالبس ثياب العلم !! قال: فألبستني مسمرة ! ووضعت الطويلة على رأسي، وعممتني فوقها، ثم قالت لي: اذهب فاكتب العلم الآن !! وكانت تقول لي: اذهب إلى ربيعة الرأي، فتعلم من أدبه قبل علمه !!.
وهذا الإمام الشافعي محمد بن إدريس - رحمه الله - كان ثمرة مباركة لأم صالحة عظيمة، فقد مات أبوه، وهو جنين أو رضيع فتولته أمه بعنايتها، وأشرفت عليه بحكمتها، وكانت امرأة عاقلة فاضلة، من فضليات عقائل الأزد، وكانت -رحمها الله-، باتفاق النقلة من العابدات القانتات، ومن أزكى الخلق فطرة (كتاب (عودة الحجاب) لمحمد بن إسماعيل بتصرف) !!.
قال عبد الوهاب بن عطاء الخفاف: حدثني مشايخ أهل المدينة أن فروخًا أبا عبد الرحمن بن ربيعة رحمه الله، خرج في البعوث الغازية إلى خراسان أيام بني أمية، وكان ولده ربيعة يومئذ جنينًا في بطن أمه !! وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار !! فغاب عن المدينة فترة طويلة من السنين، ثم قدمها بعد سبع وعشرين سنة !! وهو راكب فرسًا وفي يده رمح، فلما وصل المدينة توجه إلى منزله، ودفع الباب برمحه، دخل الدار !! فخرج إليه ربيعة وهو لا يدري أنه أبوه، وقال له: يا عدو الله، أتهجم على منزلي؟ فقال فروخ: يا عدو الله، بل أنت الذي دخلت على زوجتي في بيتي ! فتواثبا وأمسك كل منهما برقبة الآخر، يريد أن يضربه، وارتفعت أصواتهما، حتى اجتمع الجيران، فبلغ الخبر مالك بن أنس - رحمه الله - والمشيخة، فأتوا يعينون شيخهم ربيعة على هذا المعتدي على بيته !! وجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان، وجعل فروخ يقول: والله لا فارقتك إلا بالسلطان، وأنت مع امرأتي !! وكثر الضجيج !! فلما أبصروا الإمام مالك سكتوا، فقال مالك لفروخ: أيها الشيخ: لك سعة في غير هذه الدار !! فقال فروخ: هي داري، وأنا فروخ، فسمعت امرأته كلامه !! فخرجت وقالت: هذا زوجي وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به، فاعتنقا جميعًا فروخ وولده ربيعة وجعلا يبكيان !! فدخل فروخ المنزل وقال لزوجته: هذا ابني الذي تركته في بطنك جنينًا؟ فقالت: نعم !! فقال لها: أخرجي المال الذي تركته عندك !! وهذه معي أربعة آلاف دينار فقالت: لقد دفنته وأنا أخرجه لك بعد أيام. ثم خرج ربيعة إلى المسجد وجلس في حلقته، فأتاه مالك والحسن بن زيد وابن أبي علي وأشراف أهل المدينة يطلبون العلم على يديه، وأحدق الناس به !! فقالت أم ربيعة لزوجها فروخ: اخرج فصل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فخرج إلى المسجد، فنظر إلى حلقة وافرة ممتلئة بالطلاب !! فأتاها فوقف عليها، فأفسحوا له قليلاً، فجلس ليسمع العلم، فنكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يره.
ولكن الأب حين سمع صوت الشيخ المتكلم، فقالوا له: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن !! فقال: قد رفع الله ابني ! ورجع إلى منزله وقال لزوجته: والله لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها !! فقالت له زوجته: فأيهما أحب إليك ثلاثون ألف دينار، أو هذا الذي هو فيه؟! فقال: لا والله، بل هذا الذي هو فيه (أي من العلم والمكانة).
فقالت: فإني قد أنفقت كل المال الذي تركته عندي عليه !! فقال: فوالله ما ضيعته(وفيات الأعيان) !!.
مختارات