" سيف العدالة "
" سيف العدالة "
قال أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن الحسن العبقسي الشاعر: كان لأبي مملوك يسمى مقبل فأبق منه (هرب)، ولم يعرف له خبر سنين كثيرة، ومات أبي وتغربت عن بلدي، وذهبت إلى نصيبين، وأنا حدث حين اتصلت لحيتي.
وبينما أنا مجتاز يومًا في سوق نصيبين، وعليَّ لباس فاخر، وفي كمي منديل فيه دراهم كثيرة، إذ رأيت غلامنا مقبلاً، فحين رآني انكب على يدي يقبلها، وأظهر سرورًا شديدًا بي، وأقبل يسألني عن أبي، وأهلنا، فأعرفه موت من مات، وخبر من بقي.
ثم قال لي: يا سيدي متى دخلت إلى هاهنا، وفي أي شيء؟ فعرفته، فأخذ يعتذر من هربه منا.
ثم قال: أنا مستوطن هاهنا، وأنت مجتاز، فلو أنعمت علي وجئت في دعوتي، فأنا أحضر لك طعامًا وشرابًا وما تريد، فاغتررت به، ومضيت معه، حتى بلغ بي إلى آخر البلد، إلى دور خراب، ثم انتهى إلى دار عامرة، مغلقة الباب، فدق، ففتح له، فدخل ودخلت.
فحين حصلت في الدهليز، أغلق الباب بسرعة، واستوثق منه، فأنكرت ذلك، ودخلت الدار، فإذا بثلاثين رجلاً بالسلاح، وهم جلوس على بارية، فلم أشك في أنهم لصوص، وأيقنت بالشر.
وبادرني أحدهم، فلطمني، وقال: انزع ثيابك، فطرحت كل ما كان علي، حتى بقيت بسراويل، فحلوا الدراهم التي كانت في منديلي، وأعطوا مقبلاً شيئًا منها، وقالوا: امض فهات لنا بهذا ما نأكله ونشربه.
فتقدم مقبل، وسَارَّ واحدًا منهم، فقال له مجيبًا: وأي شيء يفوتنا من قتله، امض فجئنا بما نأكله، فإنا جياع.
فلما سمعت ذلك كدت أموت جزعًا، فقال لهم الغلام، مظهرًا للكلام: ما أمضي أو تقتلوه.
فقلت لهم: يا قوم، ما ذنبي حتى أقتل، قد أخذتم ما معي، ولستم ترثوني إذا قتلتموني، ولا لي حال غير ما أخذتموه، فالله الله فيَّ.
ثم أقبلت استعطف مقبلاً، وهو لا يجيبني، ويقول لهم: إنكم إن لم تقتلوه، حتى يفلت، دل السلطان عليكم، فتقتلون كلكم.
قال: فوثب إلي أحدهم بسيف مسلول، وسحبني من الموضع الذي كنت فيه إلى البالوعة ليذبحني، وكان بقربي غلام أمرد، فتعلقت به، وقلت: يا فتى ارحمني، وأجرني، فإن سنك قريب من سني، واستدفع البلاء من الله تعالى بخلاصي.
فوثب الغلام، وطرح نفسه علي، وقال: والله لا يقتل وأنا حي، وجرد سيفه، وقام أستاذه بقيامه، وقال: لا يقتل من أجاره غلامي.
واختلفوا، وصار مع الغلام جماعة منهم، فانتزعوني، وجعلوني في زاوية من البيت الذي كانوا فيه، ووقفوا بيني وبين أصحابهم.
فقال لهم رئيسهم: كفوا عن الرجل إلى أن ننظر في أمره، وشتم مقبلاً، وقال: امض، فهات ما نأكله قبل كل شيء، فإنا جياع، وليس يفوتنا قتله، إن اتفقنا عليه.
فمضى مقبل، وجاءهم بمأكول كثير، وجلسوا يأكلون، وترك جماعة منهم الأكل حراسة لي؛ لئلا يغتالني أحدهم إذا تشاغلوا بالأكل.
فلما أكلوا، انفرد بعض من كان يتعصب لي بحراستي، وأكل من لم يكن أكل منهم.
ثم أفضوا إلى الشراب، فقال لهم مقبل: الآن قد أكلتم، وترك هذا يؤدي إلى قتلكم، فدعوا الخلاف في أمره واقتلوه، فوثب من يريد قتلي، ووثب الغلام، ومن معه، للدفع عني، وطال الكلام بينهم، وأنا في الزاوية، وقد اجتمع علي من يمنع من قتلي، فصرت بينهم وبين الحائط، إلى أن جرد بعضهم السيوف على بعض.
فقال لهم رئيسهم: هذا الذي أنتم فيه يؤدي إلى تلفكم، وقد رأيت رأيًا فلا تخالفوه.
فقالوا: إنا بأمرك.
فقال: أغمدوا السلاح، واصطلحوا، ونشرب إلى وقت نريد أن نخرج من هذه الدار، ثم نكتفه، ونسد فاه، وندعه في الدار، وننصرف، فإنه لا يتمكن من الخروج وراءنا، ولا الصياح علينا.
وإلى أن نصبح من غد، نكون قد قطعنا مفازة، ولا يجرح بعضكم بعضًا، ولا تتفرق كلمتكم.
فقالوا: هذا هو الصواب، وجلسوا يشربون.
وجاء الغلام ليشرب معهم، فقلت له: الله، الله فيّ، تمّم ما عملت من الجميل، ولا تشرب معهم، واحرسني، لئلا يثب علي واحد منهم على غفلة، فيضربني ضربة يكون فيها تلف نفسي، ثم لا تتمكن أنت من ردها، ولا ينفعني أن تقتل قاتلي.
فرحمني، وقال: أفعل، ثم قال لأستاذه: أحب أن تترك شربك الليلة، فتفعل ما أفعل.
فجاءا جميعًا فجلسا قدامي، وأنا في الزاوية، أتوقع الموت ساعة بساعة، إلى أن مضى من الليل قطعة، وقام القوم فتحزموا، ولبسوا ثيابهم، وخرجوا، وبقي الغلام وأستاذه.
فقالا لي: يا فتى، قد علمت أننا قد خلصنا دمك، فلا تكافئنا بقبيح، ونريد أن نخرج، ولا نستحسن أن نكتفك، فاحذر أن تصيح.
فأخذت أقبل أيديهما وأرجلهما، وأقول: أنتما أحييتماني بعد الله تعالى، فكيف أكافئكما بالقبيح؟
فقالا: قم معنا، فقمت، ففتشنا الدار، حتى علما أنه لم يختبئ فيها أحد يريد قتلي.
ثم قالا لي: قد أمنت، فإذا خرجنا فاستوثق من الباب ونم وراءه، فليس يكون إلا خيرًا، وخرجا.
فاستوثقت من غلق الباب، ثم جزعت جزعًا عظيمًا، ولم أشك أنه يخرج علي من تحت الأرض منهم من يقتلني، وزاد علي الفزع، فأقبلت أمشي في الدار، وأدعو، وأسبِّح، إلى أن كدت أتلف إعياءًا.
وأنست باستمرار الوقت على السلامة، وحملتني عيني، فنمت، فلم أحس إلا بالشمس وحرارتها، على وجهي، من باب البيت.
فقمت، وخرجت أمشي وأنا عريان بسراويل، إلى أن حصلت في الموضع الذي كنت أسكنه.
وما حدثت أحدًا بهذا الحديث مدة، لبقية الفزع الذي داخلني منهم في قلبي.
ثم بعد انقضاء سنة، أو قريب منها، كنت يومًا عند صاحب الشرطة بنصيبين، لصداقة كانت بينه وبين أبي، فما لبث أن حضر من عرّفه عثور الشرطة على جماعة من اللصوص، بقرية سماها، من قرى نصيبين، وقبضه على سبعة نفر منهم، وفوت الباقين، فأمر بإحضارهم.
فوقع بصري منهم على ذلك الغلام الذي أجارني ذلك اليوم، وعلى أستاذه، ثم على مقبل.
فحين رأيتهم أخذتني رعدة تبين في، وأخذ مقبل – من بينهم – مثل ما أخذني.
فقال لي صاحب الشركة: مالك؟
فقلت: إن حديثي طويل، ولعل الله تعالى، أراد بحضوري هذا المجلس، سعادة نفر، وشقاوة نفر.
فقال: هات.
فاقتصصت عليه قصتي مع القوم إلى آخرها، فتعجب، وقال: هلا شرحتها لي فيما قبل، حتى كنت أطلبهم، وأنتصف لك منهم.
فقلت: إن الفزع الذي كان في قلبي منهم، لم يبسط لساني به.
فقال: من الذي كان معك من هؤلاء؟
فقلت: هذا الغلام، وأستاذه، وواحد من الباقين، فأمر بحل كتافهم، وتمييزهم من بين أصحابهم.
ودعا بمقبل، فقال له: ما حملك على ما فعلت بابن مولاك؟
فقال: سوء الأصل، وخبث العرق.
فقال: لا جرم تقابل بفعلك، وأمر به فضرب عنقه، وأعناق أصحابه الباقين.
ودعا بالغلام، وأستاذه، وصاحبهما، وقال لهما: لقد أحسنتما في فعلكما ودفعكما عن هذا الفتى، فالله يجزيكما عن فعلكما الخير، فتوبا إلى الله من فعلكما، وانصرفا في صحبة الله، مع صاحبكما، ولا تعودا إلى ما أنتما عليه من التلصص، فقد مننت عليكما لحسن صنيعكما بهذا الفتى، فإن ظفرت بكما ثانيًا، ألحقتكما بأصحابكما.
فتابا وصاحبهما، وشكروا له، ودعوا، وانصرفوا.
وشكرته أنا أيضًا على ما فعل، وحمدت الله على توفيقي لقضاء حق من أجارني، والانتقام ممن ظلمني.
ثم صار ذلك الغلام وأستاذه من أصدقائي، وكانا يختلفان إليَّ، ويقولان: قد أقبلنا على حرفنا في السوق، وتركنا التلصص (ج بعد الشدة للتنوخي).
مختارات