أنماط: (12) نمط المقدساتية المغالين
وهناك نمط المقدساتية المغالين الذين يحرصون دومًا على بناء أسوار شاهقة يحيطون بها (تابوهات) معينة، ويعتبرونها مناطق محرمة لا يجوز لأحد أن يجترىء يومًا ويختلف معها أو ينتقدها.. ويا للمصيبة لو ازدادت جرأة أحد وقرر أن يرفضها أو يبغض تصرفاتها ومواقفها أو حتى يبغضها شخصيًا!
حينئذ ستجد المقدساتية هؤلاء من بناة الأسوار وحراسها يهبون إلى هذا المجترئ لينهشوه ويمزقوا عرضه إذ كيف تسول له نفسه أن يعتلي تلك الأسوار التي ضربوها حول تابوهاتهم المقدسة لينظر إليهم على أنهم مجرد بشر؟!
فتش في أفكارك برهة وستجد بصرك لا محالة يصطدم ببعض تلك الأسوار الموروثة التي حرص أهل هذا النمط دومًا على أن تظل عالية لا يستطيع نظرك أن يجاوزها فضلًا عن القفز عليها وفحص ذلك المقدس المزعوم وتفنيد قداسته ونقض عصمته الكاذبة..
فتش جيدًا وصدقني ستجد..
طبعًا لا أتحدث هنا عن المقدسات الدينية والعقدية والتي هي في الحقيقة الشيء الوحيد الذي يُقبل أن تكون له قداسة ذلك لأنه يكتسب قداسته من القدوس سبحانه وتعالى نفسه..
لكنني أتحدث هنا عن أشخاص وأحداث وأماكن وهيئات ظلت أسوار العصمة تُبنى حولها رويدًا رويدا.. حتى شكلت في وجدان الناس قداسة كاذبة لا تسمح بمجرد الاختلاف معها أو نقدها ولا تقبل أن تنطبق عليها قاعدة الإمام مالك بن أنس رحمه الله: " كل يؤخذ من قوله ويُردُّ إلا صاحب هذا المقام ".. يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
دعنا لا نسمي هيئة أو مؤسسة إذا تجرأت يومًا على رفض انتهاكاتها وتدخلها فيما ليس لها شكك أهل هذا النمط المغالي في حبك لوطنك وانتمائك له..
ودعنا لا نسمي جماعة أو حزبًا إذا فكرت في انتقاده صرت بين عشية وضحاها خائنًا أو منبطحًا أو مفرطًا أو جاهلًا لا تفقه معنى العمل الجماعي..
ودعنا لا نعين رمزًا سياسيًا أو شخصية عامة إذا ما هاجمت مواقفها أو فندت آراءها صرت فورًا عندهم - رجعيًا متخلفًا لا تفقه تطورات العصر ولا تدرك السنين الضوئية التي تسبقنا بها تلك الشخصية!
ودعنا لا نسمي شيخًا إذا اختلفت معه ورفضت مواقفه السياسية واختياراته صرت في لحظات عند هؤلاء المقدساتية - مهدومًا سيئ الأدب آكلًا للحوم علمائهم المسمومة -طبعًا علمائهم فقط بينما لحوم الآخرين من عوام المسلمين أو علمائهم شهية لذيذة-..!
هكذا تجد نفسك في النهاية بصدد عدد لا متناهٍ من الأسوار والحواجز التي بناها أهل هذا النمط المغالون والمهللون والتي ينالك بمجاوزتها كل انتقاص وازدراء..
وأنت الملام إذ كيف تسول لك نفسك أن تغضب أو ترفض أو تنتقد أو تختلف؟!
كيف تجرؤ على تحريك الماء الراكد أو أن ترفض أن تكون من أهل نمط سابق سميته البصمجي الذي أدمن التوقيع على بياض ولم يجرؤ قط على أن يشرئب بعنقه ويمد بصره لينظر خلف أسوار غلوهم..
وكأن هؤلاء المقدسين القابعين خلف أسوارهم قد صارت لهم عصمة توازي عصمة الأنبياء وتساوي رمزيتهم رمزية الشعائر والأنساك..!
بل هي في الواقع تزيد كثيرًا..!
وإن غضب المهللين المعظمين لها عند انتهاك حرمتها المزعومة يتجاوز أحيانًا غضبهم للأنبياء والشعائر والأنساك التي يقبل بعضهم انتهاكها وربما إهانتها بدعوى حرية الرأي..
حرية رأي تبيح للبعض سب الله ورسله لكنها تحرم انتقاد متبوعه وحزبه..
وكأن لهؤلاء حرمة تجاوز حرمة الصديق أبي بكر والفاروق عمر رضي الله عنهما حين نزلت آية تنتقد رفعهما لأصواتهما في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقيل حينئذ: " كاد الخيران أن يهلكا "..
أو أن لهؤلاء فضلًا يعلو على فضل جيش خالد بن الوليد رضي الله عنه حين قيل لهم بعد انسحابهم يوم مؤتة أنتم الفرار فقال الرسول: «بل أنتم الكرار»، وأنا فئتكم ولكنه لم يعلق المشانق لمن انتقدوا ظاهر صنيعهم لأول وهلة..
وكم في حق الأخيار من معتبات وقعت وانتقادات حدثت لا يتسع المقال لذكرها جميعًا لكنها ببساطة توضح أن النقد والخلاف ليس جريمة فما باله في حق مقدسات اليوم المزعومة صار من الكبائر والأوزار؟!
إنها الأسوار..
أسوار الغلو والتعظيم والتقديس التي بناها هذا النمط..
فتش عنها جيدًا واحرص على تكسيرها ونقضها وسبِّر عنها الأغوار فليس ينبغي أن يكون في النفسمن أسوار إلا ما بنته الشريعة حول حرماتها.
بخلاف ذلك فلا مقدسات.. ولا أسوار..
مختارات