" القصة السابعة : جزاء المعروف "
" القصة السابعة: جزاء المعروف "
ترملت بعد زواجها بفترة وجيزة، كانت في ريعان شبابها، وبوادر الحمل قد بدت عليها، فولدت صبيًّا تأملت فيه العوض عن والده، وانكبت على تربيته رافضة كل عرض للزواج.
كبر الابن ونال الشهادة الجامعية، ثم عمل بوظيفة مرموقة، ففرحت الأم لذلك، وأرادت أن تتوج فرحتها بزواجه، وبحثت له عن عروس، وبعد فترة تزوج بفتاه جميلة، عاش معها عيشة هانئة، وقد نفذت الأم رغبتها بالبيت المستقل لكل منهما، إنها لا تريد أي مشاكل، ولا ترغب في الخلاف مع زوجة ابنها.
ومنذ زواج ابنها وزوجته تنظر إليها بحقد شديد، كانت تتسامح معها، وتتودد إليها، ولكن بلا نتيجة، استغلت الفرصة عندما رُزق ابنها بمولوده الأول، اشترت الهدايا الجميلة للزوجة وللمولود، ولكن بلا فائدة، فزوجة ابنها مصممة على ضرب حاجز العداوة بينهما، فرضيت الأم بما قسمه الله، وصارت تتحاشى زوجة ابنها قدر الإمكان.
بعد سنوات، يمر الابن بضائقة مالية، ويطرق الأبواب وما من مجيب، فيعود بقلقه ومخاوفه إلى بيته، وإذا بزوجته تقابله بحلِّ الأزمة على أكتاف أمه وعلى حساب راحتها وحياتها، فكرة قاسية، بل ضربة قاضية للأم، ولكن في ظل تفكيرهم بحل مشكلتهم تناسوا مشاعرها وأحاسيسها، بيت الوالدة هو الحل، يُباع وتحضر للسكن معهم، انطلق بفكرته السوداوية إلى أمه.
استقبلته بكل حفاوة وحب، ولكنها استقبلت فكرته بكثير من الحذر والخوف، فإلى أين تذهب؟! وخاصة أن زوجته لا تطيقها، وحلقات الود مفقودة بينهما تمامًا.
بكى ابنها بين يديها، وبث في فكرها المنهك قضايا لا تستوعبها، الشكاوى، القضايا، المحاكم، السجن، ولم يجد خلاصًا من كل هذا إلا في ثمن بيتها، تومئ برأسها على مضض، وتوافق على هذا الحل وهي كارهة له، وقد وعدها بإعادة كافة حقوقها المادية عندما تتحسن الأوضاع.
باع بيتها وهي تبكي بحرقة، وتتوجس بينها وبين نفسها من مستقبل مخيف مع زوجة ابنها، وما إن وضعت قدمها في بيت ابنها إلا وتهب زوجته في إذاقتها صنوف العذاب، والألم النفسي، فهي تنظر إليها بازدراء، وتتحدث معها بتعالٍ، وتمنعها من مداعبة الأطفال، أو اللهو معهم قليلًا، فتبقى في حجرتها ساعات طويلة حبيسة الجدران، وكانت لا تحصل على الهاتف إلى بشق الأنفس، وفي لحظات غفلة من زوجة ابنها.
بعد مرور الأيام، صرّحت الزوجة بعدم مقدرتها على تحمل وجود أمه بينهم، وادّعت بأنها تتدخل في شئونها، وفي تربية أطفالها، فاحتار الزوج ماذا يفعل بوالدته، وكانت زوجته تتعمد رفع صوتها دائمًا لتسمع الأم ما تكره، ولتشعرها بأنها إنسانة غير مرغوب فيها بينهم.
كانت الأم تلوذ بالصمت، وتتحسر على بيع بيتها، وآلامها النفسية تزداد يومًا بعد يوم، فانعكس هذا الوضع على صحتها، وفقدت شهيتها للطعام والشراب، وهرب النوم من عينيها لفترات طويلة، وبعد فترة استيقظ أهل البيت على أنينها، فالألم يكاد يمزقها، مثلما مزّق الحزن قلبها، أخذها ابنها إلى المستشفى، قرروا لها الإقامة لديهم لبعض الوقت، عاد الابن إلى بيته دون والدته، فرحت الزوجة بذلك، فلا بأس بتمتعها بالحرية ولو لبعض الوقت.
كان الابن يزور والدته في خفية وقد بدأت صحتها تتحسن، وعندما يعود للمنزل تبادره الزوجة بعدم إمكانية عودة والدته للعيش بينهم، أخذته الحيرة برهة من الزمن، ولكنها في النهاية اختار البيت والزوجة والأطفال، وفرّط في والدته.
في ذلك اليوم انتظرت والدته زيارته ولكنه لم يحضر وفي اليوم التالي كذلك، وتوالت الأيام، ولم يحضر ابنها، وكان أكثر ما يحزّ في نفسها وقت الزيارة عندما تغلق عليها الستائر السميكة، وتسمع مداعبات الأبناء والبنات من حولها لأمهاتهم، وهي محرومة من ذلك، تنظر إلى الستائر طوال وقت الزيارة لعلها تتحرك، لعلها تهتز إيذانًا بوصوله، لعل قلب رحيم يتذكرها، ولكن القسوة التي ملأت القلوب كانت لأحلامها بالمرصاد، حطمت آخر أمل لديها باللقاء.
تساوى لديها الليل بالنهار، جرت دموعها حرّى على وجنتيها، وغلظة ممرضات القسم تكمل على ما بقلبها من همٍّ وغم، وهن يسألنها بسخرية عن ابنها، وأقاربها، فتجيب دموعها، وينحبس صوتها.
تنتكس حالتها الصحية، وتتدهور مرة أخرى، وتأتي إليها الأخصائية الاجتماعية، وتسألها عن ظروفها، وتطلب عنوان ابنها، ولكنها لا تجيبها إلى مطالبها، ولا ترد عليها إلا بعبارة.
دعيهم، فالله معي، ولا حاجة بي إليهم، تمر الأيام طويلة حزينة، وفي لحظة ضعف شديدة، ترفع يديها للمنتقم الجبار، وتدعو عليهم، وتلفظ أنفاسها الأخيرة على السرير الأبيض وحيدة.
مختارات