" الحييّ "
" الحييّ "
كثير الحياء، وقد أَوَّلَ كثيرٌ من العلماء صفةَ الحياء له سبحانه بالتَّرك تارة حين يترك عقاب عبده، وبالكراهية تارة حين يكره أن يردَّ دعاءَ عباده، وبالرحمة تارة، وكلُّها من لوازم الحياء.
الحياء: الاحتشام وانقباض النَّفْس عن القبائح.
حياؤه – تعالى - وصفٌ يليق به، ليس كحياء المخلوقين الذي هو تَغَيُّرٌ وانكسار يعتري الشَّخصَ عند خوف ما يُعاب أو يُذمّ؛ بل حياؤه تعالى هو ترك ما ليس يتناسب مع سعة رحمته وكمال جوده وكرمه وعظيم عفوه وحلمه؛ فالعبد يجاهره بالمعصية ويستعين بنعمه على معصيته؛ ولكنَّ الرَّبَّ – سبحانه - مع كمال غناه وتمام قدرته على العبد يستحيي من هَتْك سَتره وفضيحته.
أثر الإيمان بالاسم:
- يستحيي الله تعالى ممَّن يَمُدُّ يديه إليه أن يردَّهما صفرًا؛ فمن رحمة الله تعالى وكرمه أنَّه يدعو عبادَه إلى دعائه وهو يعدهم بالإجابة؛ فوصفُ الحياء يوصَفُ به مَن كرمت نفسه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ ربَّكمْ تبارَكَ وَتَعالى حييٌّ كريمٌ يستحيي من عبده إذا رَفَعَ يَدَيْه إليه أَنْ يَرُدَّهُمَا صفرًا» (أبو داود والترمذى).
- قال تعالى: " وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ " [الأحزاب: 53] فَوَصْفُه بأنَّه يستحيي من العبد لا يتنافى مع وَصْفه نفسه بأنَّه لا يستحيي من الحقِّ؛ فحياؤه من عبده يَرجع إلى قضاء حاجته بصفة كرمه، وكونُه لا يستحيي من الحقِّ يرجع إلى صفة عدله.
- ومثل الحقّ كان العلم؛ قالت عائشة رضي الله عنها مدحًا لمن أدرك معنى الحياء وأبصر حدودَه: «نعْمَ النَّسَاءُ نسَاءُ الأنصار؛ لمْ يمنعهنَّ الحياءُ أنْ يتفقَّهنَ في الدِّين» (البخارى ومسلم) وقال مجاهد: «لا يتعلمُ العلمَ مُستحي ولا مُسْتكبرٌ».
- وعن مردود الحياء قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الحياءُ لا يأتي إلا بِخَيْر» (البخارى ومسلم) أي إذا صار عادة وتخلَّق به صاحبه يكون سببًا لجلب الخير إليه؛ فيكون منه الخير بالذَّات والسَّبب.
- كان الرسول صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياء من العذراء في خدرها، وقد مرَّ على رجل يعاتب آخر في حيائه: " إنكَ لتَسْتَحيي " حَتَّى كَأنُّه يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بك فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «دَعْهُ فإنَّ الحياءَ من الإيمان» (البخارى).
- ثم أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم عظم أمر الحياء في أكثر من حديث: «الإيمانُ بضعٌ وستون شعبةً، والحياءُ شعبةٌ من الإيمان»(البخارى ومسلم).
- ثم أخبر أصحابَه عمَّا اتَّفق عليه الأنبياء قبله ولم يُنسخ فيما نُسخ من شرائعهم: «إنَّ ممَّا أدركَ الناسُ من كلام النُّبوَّة الأولى: إذا لمْ تَسْتَحْيِ فاصنعْ ما شئتَ» (البخارى) (اصنعْ ما شئت): قيل أنَّ معناها انظر لما تريد أن تفعله، فإن كان ممَّا لا يُستَحْيَى منه فافعله، وإن كان العكس فدعه، وقيل: هو للتهديد؛ أي اصنع ما شئت؛ فإن الله سيجزيك، وقيل أنَّ الحياءَ هو ما يمنعه من المعصية ويبعث على الطاعة.
- المرادُ بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون شرعيًّا، والحياء الذي يَنْشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياء شرعيًا؛ بل هو عجز ومهانة.
- وقال الرَّاغبُ: «الذي يستحيي منهم الإنسان ثلاثة (البشر، نفسه، ثم الله عز وجل» ومن استحيى من الناس ولم يستحي من نفسه فنفسُه أخسُّ عنده من غيره، ومن استحيى منهم ولم يستحي من الله فلعدم معرفته به؛ فالإنسان يستحيي ممَّن يعظمه ويعلم أنه يراه؛ ومَنْ لا يعرف اللهَ فكيف يعظِّمه؟! " أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى " [العلق: 14] وقال بعض السلف: علمتُ أنَّ اللهَ مطَّلعٌ عليَّ فاستحييتُ أن يراني على معصية.
- الله حييٌّ يحبُّ أهلَ الحياء، كما أنَّه عليمٌ يحبُّ العلماء، كريم يحب الكرماء؛ وممَّا يولِّدُ الحياءَ امتزاجُ التَّعظيم بالمودَّة وامتزاج رؤية العبد آلاء الله عليه، ورؤيته لتقصيره عن شكره تعالى عليها.
- الحياءُ من الحياة، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح.
- قُسِّم الحياء على عشرة أوجه كما ذكرها ابن القيم نوردها بتصرف:
1- حياء الجناية: مثل حياء آدم - عليه السلام - لمَّا فَرَّ هاربًا في الجنة؛ قال الله تعالى: أفرارًا مني يا آدم ! قال: لا يا رب؛ بل حياء منك.
2- حياء التَّقصير: كحياء الملائكة الذين يسبِّحون الليلَ والنهارَ لا يفترون؛ فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك.
3- حياء الإجلال: هو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفة العبد بربِّه يكون حياؤه منه.
4- حياء الكَرَم: كحياء النبيِّ صلى الله عليه وسلم من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب وطَوَّلوا الجلوس عنده، فقام واستحيى أن يقول لهم: انصرفوا: " إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ " [الأحزاب: 53].
5- حياءُ الحشمة: كحياء علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المذي لمكان ابنته منه.
6- حياء الاستحقار واستصغار النفس: كحياء العبد من ربِّه - عز وجل - حين يسأله حوائجه؛ احتقارًا لشأن نفسه واستصغارًا لها، وقد يكون لهذا النوع سببان؛ أحدهما استحقار السَّائل نفسَه واستعظام ذنوبه وخطاياه، والثاني: استعظام مسؤوله.
7- حياء المحبَّة: حياء المحب من محبوبه؛ فللمحبة سلطان قاهر للقلب أعظم من سلطان من يقهر البدن؛ ولذلك تعجبت الملوك والجبابرة من قَهْرهم للخلق وقهر المحبوب لهم وذلِّهم له.
8- حياء العبودية: فهو حياء ممتزج من محبَّة وخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديَّته لمعبوده، وأنَّ قدره أعلى وأجل منها؛ فعبوديَّتُه له توجب استحياءه منه لا محالة.
9- حياء الشَّرَف والعزَّة: حياء النَّفس العظيمة الكبيرة؛ وهذا له سببان: أحدهما: إذا صدر من النَّفس ما هو دون قدرها من بذل أو عطاء وإحسان، والثاني: أنَّه يستحيي مع بذله استحياءه من السائل الخجول؛ حتى كأنه هو الآخذ السائل، وبعض أهل الكرم لا تطاوعه نفسه بمواجهة من يعطيه حياء منه.
10- حياء المرء من نفسه؛ فهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنَّقص وقناعتها بالدُّون؛ فيجد نفسه مستحييًا من نفسه؛ حتى كأن له نفسين؛ يستحيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء؛ فإنَّ العبدَ إذا استحيى من نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر.
مختارات