" كثير من يعيش.. وقليل من يدرك "
" كثير من يعيش.. وقليل من يدرك "
أخي المهاجر:
هزني إليك شوق قديم.. وانتفض هذا الشوق كعصفور بلله مطر.. في يوم شاتٍ نزل.. قلبي يختزن ذكريات.. مثله مثل صندوق يضم أوراقًا قديمة.. بعضها مضحك، وبعضها مبكٍ.. وتعجب من شخص يبكي ويضحك في آنٍ واحد !!
ذكريات خالدة لا تموت ولا تتحول.. وأنت في ليل الغربة.. يهزك شوق فتحن.. ويطويك حزن فتئن.. لا وقت عندك لقراءة مثل هذا.
لكني أستميحك الغدر لأركب بحر الكلمة.. مجدافي قلم.. وبحري لا شاطئ له.. لم يبق لي إلاها.. والكلمة غناء وسيف.. حياة وموت.. مأتم وفرح.. والكلم مثل الحياة.. والحياة أمل وألم.. حلم ويقظة.. سكون وحركة.. ضعف وقوة.. سراب وحقيقة.
الضعيف في صحراء كلها سراب كورقة يابسة.. في ليل بارد.. وظلام دامس.. تتدحرج بين أزقة الصخور.. والناس في هذه الحياة كالدنيا.. تارة يرضى بما فيها، وأخرى يلقى بها في صندوق القمامة.. وعاش الإنسان بين هذا وذاك.. وكثير من يعيش.. وقليل من يدرك.
رأيت ـ فما رأيت في المنام ـ رجلًا.. قابلته وسلمت عليه؛ لكن يدي صافحت الهواء.. نظرت إليه نظرة دهشة واستغراب.. ثم نظرت إليه أخرى.. فإذا يداه مقطوعتان.. نط في ذهني سؤال: من أين يأكل الرجل؟ وكيف يأكل؟ وإذا بآخر يلقمه الأكل تلقيمًا.. قلت في نفسي: سبحان الله.. سبحان من سخَّر هذا لهذا.. ثم تذكرت أن كثيرًا من الناس يأكلون شهد النحل.. لكنهم ينسون أنهم قد يأكلون الحصرم.. تلك هي الحياة.
أخي المهاجر:
هذه رحلة في كون حي مأنوس.. عالم صديق ودود.. كونك ذي روح.. تتلقى وتستجيب.. وتسأل نفسك عن أحوال هذه الأمة.. ما بال الناس يرتكسون في الحمأة الوبيئة؟ وكيف يعيشون في المستنقع الآسن؟ وفي الدرك الهابط؟ وفي الظلام البهيم؟ وعندهم ذلك المرتع الزاكي.. والمرتقى العالي.. والنور الوضيء.. ودستور الحياة: " القرآن الكريم " ؟!.
أخي:
وأنا بعيد عهد بمراسلتك.. بعد أن كَلَّ النظر.. وتعبت خيول الكلمة المسرجة.. وجف مداد القلم.. واصفرت الأوراق.. وذبلت المعاني.. وتاهت الأساليب في متاهة الحياة كما يتيه العيس في صحراء نجد.. كنت أتمنى أن أكتب لك كلامًا ترتج منه طربًا.. وترقص منه فرحًا.. غير أن أحوال الحياة.. وصوارف صرفتني عن جميل الكلم.. فمعذرة عن الإطناب.. وعن صفصفة الكلام دون معانٍ.
خرجت ذات مرة من المسجد الجامع.. ولما كانت من عادتنا نحن " دول العالم الثالث " ! أن تجد الباعة متناثرين حول أروقة المسجد.. وجدت بينهم شيخًا عجوزًا.. كف بصره.. وانحنى ظهره.. ونحن في صيف نجد.. والشمس تلفحه.. وهواءٌ حارٌ يلفه.. قال له شاب بهي الطلعة.. جميل المحيّا: يا أبت: لو جلست في الظل ليقيك حرارة الشمس.. ويبعدك عن لفح هجير الصحراء.. لكان أولى.
بيد أن هذا الشيخ قال بلهجة غريبة على مسامعنا.. شاذة ممقوتة: " أعطني درهمًا وارمني في الشمس " !! هكذا.. قوم يتسابقون إلى الدنيا كما تتسابق الخيول المسرجة في ميدان الفروسية.
ويح قومي.. لو لم تكن لنا أرض مسلوبة.. وشعب يسام العذاب.. وأمة تداس كرامتها.. لم يبق لنا إلا جمع المال؟!
ويح هذا الجيل الذي ترقبه الأمة.. وتنظر إليه شذرًا.. وترمقه مليا.. يقود دفة الحياة إلى شواطئ الأمان.. ومواطن السعادة.. ومواقع الرقي والتقدم !!.
يتسارع الناس إلى الدينار والدرهم.. حتى غدت الدنيا أكبر همهم.. ومبلغ علمهم.. فمنهم من يشحذ في الشارع.. ومن يستعطي على عتبة الوزير.. ومنهم من يتسول على بلاط الأمير.. ولكل طريقة.. حذق فنونها.. وبخص طرائقها.
مختارات