" فلذات الأكباد "
" فلذات الأكباد "
تزوجت في عز شبابها إلى شاب لا يعرفونه، ولا يعرفون أهله، ولا طبائعه وأخلاقه، فكانت النتيجة بعد سنوات الفراق المر بعد أن أنجبت طفلاً واحدًا، ولم تقف المصائب عند الفراق فحسب، فإنها لم تهنأ بعيش ولم يدعها في شأنها بل أذاقها الزوج صنوفًا من الغيبة والبهتان والاستهزاء، ثم ألحقها بإيذاء عجيب، ألا وهو حرمانها من رؤية صغيرها ومشاهدته والجلوس معه، وحرمها الشهور الطويلة لا ترى وجهه ولا تسمع صوته.
فكانت تسارع إذا اشتد بها الشوق وغلبها البكاء إلى مدرسة الصغير لتراه وهو خارج من أسوار المدرسة... تلقي عليه نظرة من بعد.. عندها يزداد بكاؤها، وهي تراه ولا تستطيع أن تضمه إلى صدرها، حتى تفتت كبدها، ولامس فقده جرحًا ينزف في سويداء قلبها! لكن الله لطيف بعباده ألهمها الصبر والسلوان على فقده، وقال لها والدها وكان رجلاً عاقلاً: إن طالت بك الأيام ليأتين بسيارته إلى بابك.
سار الزمن بطيئًا وهي تحاول نسيانه فلا تستطيع، وترسل له من يتتبع أخباره، وكيف ينام ويصحو؟ ومن يأتي بحاجته؟ ومن ينظف ثوبه ويغسله؟ بل ومن يوقظه للصلاة.. انهكها السؤال وأضناها الفراق، حتى أصابها الهم والحزن، فإذا بها تنام وصورته في مخيلتها، وتصحو وهي على أمل بعيد، أن تراه ! وبين الحين والآخر تتذكر حال نبي من الأنبياء الله وقد فقد ابنه ! لقد فقد يعقوب –عليه السلام- ابنه سنوات طويلة، واستمر به الحزن حتى سقط حاجباه على عينيه، فكان يرفعهما بخرقة فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمن وكثرة الأحزان ! حتى فرج الله شدته ورد إليه ابنه في خير حال وأحسن مآل.
وبعد سنوات من الفراق والحرمان، أراد الله أن يكون كلام والدها حقيقة واقعة، وأن يجمع الله بينها وبين صغيرها، فإذا بالابن رجلاً يقود السيارة، ويأتي ليقف بالباب، ويقبل رأس أمه لينسيها تلك الأيام الطويلة، ببر حسن وصلة مباركة، مع ما رزقه الله من صلاح وحسن سمت! وقالت له: يا بني تضرعت لك بالدعاء سنوات طويلة، حتى رحم الله ضعفي وجبري كسري، وجمعني وإياك فإذا بي أراك على أحسن حال، وأجمل صورة فالله لطيف بعباده !.
وفقة:
قال الحسن: كان منذ خروج يوسف من عند يعقوب عليهما السلام إلى يوم رجع ثمانون سنة، لم يفارق الحزن قلبه، ودموعه تجري على خديه، ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره، وما على الأرض يومئذ أكرم على الله تعالى منه.
مختارات