" نهاية الحسين بن منصور الحلاج "
" نهاية الحسين بن منصور الحلاج "
قال ابن كثير: وفي سنة 309هـ كان مقتل الحسين بن منصور الحلاج، ولنذكر شيئا من ترجمته وسيرته، وكيفية قتله على وجه الإيجاز وبيان المقصود بطريق الإنصاف والعدل، من غير تحمل ولا هوى ولا جور.
ترجمة الحلاج: ونحن نعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يكن قاله، أو نتحمل عليه في أقواله وأفعاله، فنقول: هو الحسين بن منصور بن محمى الحلاج أبو مغيث، ويقال أبو عبد الله، كان جده مجوسيا محمى من أهل فارس من بلدة يقال لها البيضاء، ونشأ بواسط، ويقال بتستر، ودخل بغداد وتردد إلى مكة وجاور بها في وسط المسجد في البرد والحر، مكث على ذلك سنوات متفرقة، وكان يصابر نفسه ويجاهدها، ولا يجلس إلى تحت السماء في وسط المسجد الحرام، ولا يأكل إلا بعض قرص ويشرب قليلا من الماء معه وقت الفطور مدة سنة كاملة، وكان يجلس على صخرة في شدة الحر في جبل أبي قبيس، وقد صحب جماعة من سادات المشايخ الصوفية، كالجنيد بن محمد، وعمرو بن عثمان المكي، وأبي الحسين النوري.
قال الخطيب البغدادي: والصوفية مختلفون فيه؛ فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم، وأبى أن يعده فيهم، وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي، ومحمد بن خفيف الشيرازي، وإبراهيم بن محمد النصر أباذي النيسابوري، وصححوا له حاله، ودونوا كلامه، حتى قال ابن خفيف: الحسين بن منصور عالم رباني وقال أبو عبد الرحمن السلمي – واسمه محمد بن الحسين: سمعت إبراهيم بن محمد النصر أباذي وعوتب في شيء حكي عن الحلاج في الروح فقال للذي عاتبه: إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج قال أبو عبد الرحمن: وسمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول: كنت أنا والحسين بن منصور شيئا واحدا، إلا أنه أظهر وكتمت وقد روي عن الشبلي من وجه آخر أنه قال- وقد رأى الحلَّاج مصلوباً: ألم أنهك عن العالمين؟ قال الخطيب: والذين نفوه من الصوفية نسبوه إلى الشعبذة (الشعوذة) في فعله، وإلى الزندقة في عقيدته وعقده قال: وله إلى الآن أصحاب ينسبون إليه ويغالون فيه ويغلون.
وقد كان الحلاج في عبارته حلو المنطق، وله شعر على طريقة الصوفية قلت: لم يزل الناس منذ قتل الحلاج مختلفين في أمره؛ فأمَّا الفقهاء فحكي عن غير واحد من العلماء والأئمة إجماعهم على قتله، وأنه قتل كافرا، وكان كافرا ممخرقا (الكاذب المختلف) مموها مشعبذا، وبهذا قال أكثر الصوفية فيه.
ومنهم طائفة كما تقدم أجملوا القول فيه، وغرهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه ولا باطن قوله؛ فإنه كان في ابتداء أمره فيه تعبد وتأله وسلوك، ولكن لم يمكن له علم ولا بنى أمره وحاله على تقوى من الله ورضوان؛ فلهذا كان ما يفسده أكثرَ مما يصلحه، وقال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى، ولهذا دخل على الحلاج الحلول (أي حلول اللاهوت في الناسوت أي الرب في العباد) والاتحاد (وهو اتحاد الخالق والمخلوق فيصيران شيئا واحدا، أو هو فناء المخلوق بالخالق)، فصار من أهل الانحلال والانحراف.
وقد روي من وجه أنه تقلبت به الأحوال وتردد إلى البلدان، وهو في ذلك كله يظهر للناس أنه من الدعاة إلى الله عز وجل، وصحَّ أنَّه دخل إلى الهند وتعلم بها السحر، وقال: أدعو به إلى الله، وكان أهل الهند يكاتبونه بالمغيث– أي أنه من رجال الغيث، ويكاتبه أهل سركسان بالمقيت، ويكاتبه أهل خراسان بالمميز، وأهل فارس بأبي عبد الله الزاهد، وأهل خوزستان بأبي عبد الله الزاهد حلاج الأسرار.
وكان بعض البغاددة حين كان عندهم يقولون له: المصطلم(القاطع) وأهل البصرة يقولون له: المحير ويقال: إنما سماه الحلاج أهل الأهواز لأنه كان يكاشفهم عن ما في ضمائرهم، وقيل لأنه مرة قال الحلاج: اذهب لي في حاجة كذا وكذا. فقال: إني مشغول بالحلج، فقال: اذهب فأنا أحلج عنك، فذهب ورجع سريعا فإذا جميع ما في ذلك المخزن قد حلجه.
يقال: إنه أشار بالمرود؛ فامتاز الحب عن القطن. وفي صحَّة هذا ونسبته إليه نظر، وإن كان قد جرى مثل هذا؛ فالشياطين تعين أصحابها ويستخدمونهم وقيل: لأن أباه كان حلاجا.
ومما يدل على أنه كان ذا حلول في بدء أمره أشياء كثيرة، منها شعره في ذلك.
ومن مستجاد كلامه وقد سأله رجل أن يوصيه بشيء ينفعه الله به فقال: عليك نفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك عن الحق. وقال له رجل: عظني فقال: كن مع الحق بحكم ما أوجب.
وروى الخطيب بسنده إليه أنه قال: علم الأولين والآخرين مرجعه إلى أربع كلمات: حب الجليل، وبغض القليل، واتباع التنـزيل، وخوف التحويل.
قلت: وقد أخطأ الحلَّاج في المقامين الأخيرين؛ فلم يتَّبع التَّنـزيل ولم يبق على الاستقامة؛ بل تحوَّل عنها إلى الاعوجاج والبدعة والضلالة، نسأل الله العافية.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي عن عمرو بن عثمان المكي أنه قال: كنت أماشي الحلاج في بعض أزقة مكة، وكنت أقرأ القرآن فسمع قراءتي فقال: يمكنني أن أقول مثل هذا، ففارقته.
قال الخطيب: وحدثني مسعود بن ناصر أنبأنا ابن باكوا الشيرازي، سمعت أبا زرعة الطَّبريَّ يقول: الناس فيه– يعني حسين بن منصور الحلاج- بين قبول ورَدٍّ؛ ولكن سمعت محمد بن يحيى الرَّازي يقول: سمعت عمرو بن عثمان يلعنه ويقول: لو قدرت عليه لقتلتُه بيدي فقلت له: إيش الذي وجد الشيخ عليه؟ قال: قرأتُ آيةً من كتاب الله فقال: يمكنني أن أؤلِّفَ مثله وأتكلم به. قال أبو زرعة الطبري: وسمعت أبا يعقوب الأقطع يقول: زوجت ابنتي من الحسين الحلاج لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي منه بعد مدة يسيرة أنَّه ساحر محتال، خبيث كافر. قلت: كان تزويجه إياها بمكة، وهي أم الحسين بنت أبي يعقوب الأقطع فأولدها ولده أحمد بن الحسين بن منصور، وقد ذكر سيرةَ أبيه كما ساقها من طريق الخطيب.
وذكر أبو القاسم القشيريّ في رسالته في باب حفظ قلوب المشايخ: أن عمرو بن عثمان دخل على الحلاج وهو بمكة وهو يكتب شيئاً في أوراق فقال له: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعراض القرآن قال: فدعا عليه فلم يفلح بعدها، وأنكر على أبي يعقوب الأقطع تزويجه إياه ابنته.
وكتب عمرو بن عثمان إلى الآفاق كتبا كثيرة يلعنه فيها ويحذر الناس منه، فشرد الحلاج في البلاد فعاث يميناً وشمالاً، وجعل يظهر أنه يدعو إلى الله ويستعين بأنواع من الحيل، ولم يزل ذلك دأبه وشأنه حتى أحلَّ الله به بأسَه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقتله بسيف الشَّرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق، والله أعدل من أن يسلِّطَه على صديق؛ كيف وقد تهجَّم على القرآن العظيم، وقد أراد معارضته في البلد الحرام حيث نزل به جبريل، وقد قال تعالى: " وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ " [الحج: 25] ولا إلحادَ أعظم من هذا، وقد أشبه الحلاج كفار قريش في معاندتهم؛ كما قال تعالى عنهم: " وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ " [الأنفال: 31].
مختارات