" القصاص العادل "
" القصاص العادل "
نجح وائل في اختبار الشهادة الثانوية، وكانت فرحة أبويه أكبر من فرحته، كيف لا وهو ابنهما ووحيدهما وأملهما في هذه الحياة. وكانت أمنية وائل دراسة الطب البشري في باريس، ووافق الوالد على اقتراح ولده وعمل على تحقيق أمنيته خاصة وأنه وحيده.
وسافر وائل إلى جامعة (السوربون) في باريس ليدرس الطب وكان أبوه تاجرًا فكان يرسل لولده المال الذي يحتاجه فاستأجر الولد شقة صغيرة قرب الجامعة من عائلة فرنسية.
ونشأت صداقة بين وائل وابنة هذه العائلة وكانت جميلة فاتنة، وتوثقت العلاقة بين وائل وهذه الفتاة على مر الأيام، وصارا زميلين كل منهما يحب الآخر، واعتادت الفتاة أن تدخل شقة وائل في أي وقت تشاء، وكان الشيطان ثالثهما فزين لهما الغي والعصيان فَهَمَّ كل منهما بالآخر، وأخذ وائل يغدق على فتاته من عطاياه وهداياه، وكان والده يواصل الليل بالنهار كي يوفر لولده المال الذي يحتاجه، وهذا الولد يلهو ويلعب.
واشتغل فكر وائل بصاحبته فأثر ذلك على دراسته فتخلف فيها، ومرت الأعوام والأب لم يتخلف في إرسال ما يحتاجه ولده من مال، وكانت الأم تحثه وتذكره كي لا ينسى، فهذا ولدهما الوحيد وهما في غفلة لا يدريان ما يفعل هذا الولد.
وفي أحد الأيام جاءت الفتاة تبكي وتنتحب فشق ذلك على قلب وائل فأخذ يهدئ من روعها ويربت على كتفيها، فلما هدأت سألها عن سبب بكائها فقال له: إن والدي طردني من المنزل حيث إني بلغت السن التي يجب فيها أن أعتمد على نفسي وأن أصرف على نفسي، فهو غير ملزم بالإنفاق عليَّ.
وهنا لم يتردد وائل أن عرض عليها الزواج الشرعي، فلبت دون أن تتريث لحظة خوفًا من ضياع الفرصة، وتزوجا وأصبح وائل مكلفًا بالإنفاق على زوجته وبيته، وطلب من أبيه مضاعفة المبلغ وبين لأهله أنه بحاجة إلى نقود كثيرة حيث إن الأسعار مرتفعة جدًا، ولم يتوان الأب عن إرسال المال لابنه، والأم تحثه أن لا يبخل على ابنهما حتى صرف الأب آخر مبلغ لديه ونفد ماله، واحتار من أين يأتي بالمال اللازم لابنه، وسارعت الأم إلى بيع ما لديها من حُلِي من أجل ولدها ومن أجل مستقبله، ووائل مستمر في المطالبة بمزيد من المال ولم يكن يفكر بوالديه وما يعانيانه من أجل توفير المال له، المهم عنده أن يصله المال لينفق بسخاء على المحبوبة الغالية!! وساءت حالة الوالد الاقتصادية وتدهورت موارده المالية، وطالت مدة دراسة وائل، والوالدان ينتظران تخرجه بفارغ الصبر كي يعوضهما عن كل ما عانياه من تعب وكد ويوفر لهما العيش الرغيد، وكانت الأم تُصبر زوجها وتمنيه بالأيام السعيدة القادمة عندما يأتي وائل!! ليرد لهما الجميل وأكثر، والولد يطلب منهما المزيد من المال، فلم يجد الوالدان سبيلاً لتوفير المال اللازم سوى بيع الدار، ويتركان دارهما ويسكنان في دار صغيرة بالأجرة ويرسلان المال لولدهما فلم يبق على تخرجه إلا القليل وسوف يشتري لهما قصرًا يسعدان به معه! والولد المسرف يبذر المال دون تفكير أو اهتمام، وضاق الحال بالوالدين فليس لديهما ما يرسلانه، فبعث الوالد رسالة يشرح فيها لابنه أن المال قد نفد، وأن الدار قد بيعت حتى حُلِي والدتك قد بيعت أيضًا؛ وليس لدينا ما نبعثه إليك فدبر أمر نفسك.
ولكن وائل غضب ولم يصدق كلام أبيه وظن بأبيه ظن السوء، ووسوس له الشيطان أن والديه قد ضيعا مستقبله، فقسا قلبه وقاطعهما وأخذ يعمل لمتابعة دراسته. ولما أكمل دراسته ظل مستمرًا في عمله كي يجمع مبلغًا من المال وشد الرحال للعودة إلى بلده، وعاد هو وزوجه إلى وطنه ولم يعلم به أحد حتى والده!! عاش وائل مع زوجته الفرنسية وكثر ماله ولم يحاول أن يتصل بأبويه، فلقد كان يحمل بين أضلاعه حجرًا قاسيًا مليئًا بالحقد والضغينة على ما كانا سببًا في ما هو فيه من رغد العيش، ولكن الله عز وجل يمهل ولا يُهمل فلا يغفل سبحانه وتعالى عن أمر العباد، وشاء الله عز وجل أن يأتي إلى عيادة وائل رجل من أصدقاء والده وعرف وائل ولكن وائل لم يعرفه، وما أن خرج الرجل من العيادة حتى أسرع إلى والد وائل ليخبره بأن ولده قد عاد وفتح عيادة، ففوجئ الوالد عند سماعه هذا الخبر ولم يصدق ما سمعه من صديقه فأقسم له الصديق أنه صادق وقال له: هيا بنا لأدلك على عيادته هيا.
وسار الوالد وهو في دهشة من أمره، وما أن وقعت عيناه على لافتة العيادة وقرأ اسم ولده عليها واشتم رائحة ولده فلذة كبده، حتى ذرفت عيناه بالدموع، إنها دموع الفرح والسعادة، وصعد الاثنان درج العيادة والأب لا يكاد يصدق عينيه، ورأى الأب ابنه بعد هذه الغيبة الطويلة وأراد أن يضمه إلى صدره كي يطفئ لهيب أشواقه، وما أن اقترب الوالد من ابنه حتى صاح فيه الولد العاق بكل وقاحة: قف مكانك ولا تقترب مني كي لا تراك زوجتي الأجنبية فتحتقرني وأسقط من عينها!! وتسمر الأب مكانه، وأردف الولد العاق قائلاً: اسمع سأقدم لك مساعدة مالية ولكن المهم أن تبتعد عن العيادة ولا أراك أبدًا!! وهنا شعر الأب أنه أصيب بخيبة أمل مريرة وتبددت جميع توقعاته فتماسك وشد من عزمه، وأجاب ولده العاق على الفور قائلاً له كلامًا لو سمعه جبل لتهدم من مكانه وتطايرت حجارته.
قال الأب لولده العاق: «عليك لعنة الله والناس أجمعين، وعليك غضب الله إلى يوم الدين وعليك الشقاء أبد الآبدين»، ثم بصق في وجهه بصقة أطفأت النار التي أشعلها هذا الولد العاق في قلب أبيه، ثم أردف الأب قائلاً: أغنانا عنك رب العالمين، وعاد الأب إلى زوجه مخيب الآمال والحزن والقهر يفتان كبده ولما وصل إليها أخبرها الخبر المشؤوم فحزنت حزنًا شديدًا وبكت بكاءً طويلاً، وكان لا بد من نهاية لما حدث خاصة بعد هذا الدعاء الشديد الصادر من قلب مكلوم قلب أب مجروح.
لم يؤثر كلام الأب بنفس هذا الابن العاق ولا بقلبه فهو كالحجارة بل أشد قسوة وأسود من دياجير الليل البهيم وفي يوم أجازة خرج وائل مع زوجه؛ للنزهة والراحة والاستجمام وقضاء يوم جميل بعد عناء العمل، وعند أحد المنعطفات انزلقت السيارة فجأة وهوت في الوادي السحيق ومات وائل وزوجه في الحال، ووصل الخبر إلى الوالدين فأيقنا بالله العليم الحكيم الذي لا يرد دعوة المظلوم فما بالك بالوالدين فقد ورثا كل ثورة الابن حتى العيادة، إن ربك لبالمرصاد والله – عز وجل – يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته... وفي هذه القصة عبرة وعظة للأبناء والآباء، فيجب على الأبناء أن يرعوا آباءهم وأمهاتهم. ويجب على الآباء أن يحرصوا على أن يربوا أولادهم التربية الدينية الصحيحة، وأن يحافظوا عليهم من آفات الدنيا ومصائد الشيطان خاصة في زماننا هذا، قال الله تعالى: " وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا " [العنكبوت: 8] (قصص واقعية مؤثرة: محمد بن صالح القحطاني).
مختارات