72. أبو عقيل الأنيقي
أبو عقيل الأنيقي
"ما زال أبو عقيل يسأل الله الشهادة، ويطلبها منه حتى نالها.
ولقد كان - ما علمت - من أخيار أصحاب نبينا محمد ﷺ " [عمر بن الخطاب ﵁]
استفحل (١) أمر مسيلمة الكذاب واشتد …
فقد اجتمع له أربعون ألفا من قومه بني حنيفة …
وظاهرهم (٢) نحو من عشرين ألفا من الأحلاف.
فكان جيشه أعظم جيش عرفته العرب حتى ذلك اليوم.
وكان في الوقت نفسه؛ يزيد أضعافا مضاعفة على جيش خليفة المسلمين أبي بكر الصديق رضوان الله عليه.
ولم يكن الخطر الداهم (٣) الذي حل بالمسلمين آنذاك مقصورا على مسيلمة الكذاب وجيشه اللجب (٤) الموحد المتماسك.
.
وإنما كان يبرز هذا الخطر أيضا في المرتدين الآخرين؛ الذين كانوا في جملتهم يؤمنون بالله …
ويشهدون أن محمدا رسول الله …
ولا يمارون (٥) في إقام الصلاة …
غير أنهم كانوا يطالبون بأن يكف الخليفة عن مطالبتهم بإيتاء الزكاة …
أما مسيلمة الكذاب ومن معه؛ فكانوا ينكرون نبوة محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام …
ويكفرون بالكتاب العزيز الذي أنزله الله عليه …
ويؤمنون بنبي يفتري (٦) على الله الكذب.
فإذا قدر لهذه القوة الهائلة أن تنتصر؛ فإن ذلك سيفضي (٧) إلى القضاء على الإسلام وأهله …
وألا يعبد الله في جزيرة العرب بعد ذلك اليوم …
* * *
رمى الصديق رضوان الله عليه مسيلمة الكذاب بجيش يقوده عكرمة بن أبي جهل (٨) …
وعكرمه - إن كنت لا تعلم - فارس هيجاء (٩) …
وبطل معامع (١٠) …
وابن حروب …
ثم إنه جعل تحت لوائه أبطالا صناديد (١١) أنجادا (١٢) معودة سيوفهم على النصر …
لكن مسيلمة نكبهم نكبة أطارت (١٣) صواب المسلمين …
وأثارت غضب خليفتهم أبي بكر الصديق.
فطير (١٤) رسولا من عنده ليمنع الجيش المنهزم من العودة إلى المدينة حتى لا يفت (١٥) في عضد المسلمين …
وأمره بالبقاء حيث هو.
.
ثم كتب إليه كتابا يلومه فيه على تعجله قبل استكمال عدده وعدته ويقول له:
لا أرينك، ولا ترني …
ولا ترجعن إلى المدينة.
.
فتوهن (١٦) عزائم المسلمين.
.
وتفت في عضدهم.
* * *
هزت هزيمة عكرمة ضمائر المسلمين هزا …
وفتحت عيونهم - أكثر من ذي قبل - على الخطب الداهم …
وهب الخليفة لاستنقاذ الإسلام والمسلمين من هذا الخطر المحيق (١٧) …
فأخلى بعض الساحات من جند المسلمين …
وتغاضى (١٨) - إلى حين - عن المرتدين الذين أبوا دفع الزكاة؛ وذلك ليحشد لمسيلمة أكبر جيش يستطيع حشده.
وليوفر لهذا الجيش أضخم طاقة تكفل له النصر بإذن الله.
* * *
كون الصديق جيشه من فيالق (١٩) ثلاثة:
أولها: فيلق المهاجرين الذين كابدوا (٢٠) في سبيل الله ورسوله ﷺ ما كابدوا، وعانوا من أجل الدعوة ما عانوا …
وبنوا بأيديهم صرح (٢١) الإسلام لبنة لبنة …
ومزجوا ترابها بالعرق والدموع.
وثانيها: فيلق الأنصار الأبرار الذين نصروا رسول الله ﷺ، وآزروه ومنعوه، وحاربوا معه أعداء الله … فشهدت لهم الحروب.
وثالتها: فيلق أبناء البوادي أصحاب القوة والبأس والنجدة.
ثم جعل في الجيش جمهرة من القراء؛ حملة كتاب الله …
وكان عليهم حريصا، وبهم ضنينا (٢٢).
ثم ضم إليهم البدريين على الرغم من أنه كان يقول عنهم:
لا أستعمل هذه النخبة من صحابة رسول الله ﷺ في حرب …
وإنما أستبقيهم لصالح الأعمال …
فإن الله ﵎ قد يدفع بهم من البلاء (٢٣) أكثر مما يأتي على أيديهم من النصر.
ثم عقد لواء الجيش لسيف الله المسلول خالد بن الوليد (٢٤) …
* * *
التقى الجمعان على أرض اليمامة؛ فصف مسيلمة جنوده بعقرباء.
وجعل وراء الجيش النساء، والأطفال، والأموال.
وصف خالد جنوده في قبالة جيش عدوه.
ووقف الجيشان يتربصان (٢٥) الأمر بالهجوم الكاسح.
وكان كل من الفريقين يرى عين اليقين أن هذه المعركة؛ إنما هي معركة فناء أو بقاء.
* * *
وقف شرحبيل بن مسيلمة الكذاب يهز مشاعر النخوة (٢٦) والعصبية (٢٧) عند بني قومه؛ فقال:
يا بني حنيفة إن هذا اليوم يوم الغيرة والحمية (٢٨) …
فإن هزمتم؛ فسترون النساء اللواتي احتمين بكم سبيات (٢٩) …
فامنعوا (٣٠) نساءكم وأطفالكم …
وقاتلوا عن أحسابكم وأنسابكم …
وشدوا على عدوكم …
فما كاد ينهي كلامه؛ حتى انصب بنو قومه على صفوف المسلمين انصباب الصخور …
وتدفقوا عليهم تدفق السيل.
فانثنى صف المسلمين هزيما …
وأزيل خالد بن الوليد عن فسطاطه (٣١) …
ووقعت زوجته أم تميم في قبضتهم؛ فهموا بقتلها … لولا أن أجارها رجل منهم؛ فسلمت.
* * *
تلقى خالد الصدمة رابط الجأش ثابت الجنان (٣٢) …
ذلك لأنه لم يخامره (٣٣) شك في نصر الله …
ولا مسه قنوط (٣٤) بتأييده …
ففكر واستشار؛ فهداه التفكير والمشورة إلى أن سبب الهزيمة؛ إنما هو تواكل فيالق المسلمين الثلاثة بعضها على بعض …
فصاح في الجيش: امتازوا (٣٥) أيها الجند …
امتازوا؛ ليعلم بلاء (٣٦) كل فريق منكم، وليعرف المسلمون من أين أتوا (٣٧).
* * *
فجرت صيحة خالد بن الوليد حمية المسلمين لدين الله، وأججت أشواقهم إلى الاستشهاد في سبيل الله …
ورفعت عن أعينهم الحجب …
فرأوا قصور الجنة مفتحة الأبواب لاستقبال الشهداء.
عند ذلك؛ برزت في صفوف المسلمين بطولات لم تخطط يد التاريخ أجل منها وأعظم …
وظهرت في جند الله رجولات لم تكنن (٣٨) أسفاره أعز منها ولا أكرم …
وكان في طليعة هؤلاء الأبطال بطل قصتنا هذه عبد الرحمن بن عبد الله ابن ثعلبة الأنصاري …
المكنى بأبي عقيل الأنيقى …
فلتستمع إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب (٣٩)؛ فهو الذي سيروي لنا قصته الرائعة.
* * *
قال عبد الله بن عمر:
لما اصطف المسلمون للنزال يوم اليمامة؛ كان أبو عقيل الأنيقي يغلي كالمرجل (٤٠) …
ويتوثب (٤١) كالليث (٤٢) …
فما إن نشب القتال حتى جعل نحره دون (٤٣) نحور المسلمين …
وأقام صدره دون صدورهم …
فكان أول من أصيب بسهم في ذلك اليوم …
* * *
لقد دخل السهم في صدر أبي عقيل الأنيقي، واستقر بين كتفيه.
دون أن يمس فؤاده.
ولو مسه لمات لساعته …
فمد يده إلى السهم وانتزعه من بين كتفيه.
وثبت يقاتل … حتى أوهن الجرح شقه الأيسر.
ثم ما لبث أن خارت قواه.
وسقط في مكانه مقبلا غير مدبر …
فاحتملناه إلى رحله وجعلناه فيه، وكان غير بعيد عنا …
فلما حمي (٤٤) وطيس المعركة وتضعضع (٤٥) المسلمون؛ سمع أبو عقيل البراء بن مالك الأنصاري (٤٦) ينادي:
أين أنتم يا معشر الأنصار؟!.
أين أنتم؟!.
أنا البراء بن مالك الأنصاري …
هلموا إلي يا معشر الأنصار …
* * *
ثم رأى معن بن عدي الأنصاري (٤٧) يكسر غمد سيفه، ويثب إلى المقدمة، ويعلو نشزا (٤٨) من الأرض ويصيح:
الله الله يا معشر الأنصار …
الكرة الكرة على عدوكم يا من نصروا رسول الله ﷺ …
قال عبد الله بن عمر:
فنظرت إلى أبي عقيل؛ فرأيته ينهض واقفا.
فدنوت (٤٩) منه وقلت:
ما تريد يا عم؟!.
فقال: أما سمعت البراء بن مالك الأنصاري ومعن بن عدي ينادياني؟!.
فقلت: إنهما لم ينادياك، ولم يسميا أحدا بعينه (٥٠)، ثم إنهما لا يعنيان الجرحى.
فقال: إنما يناديان الأنصار، وأنا واحد منهم.
وإن علي أن أجيبهما ولو حبوا (٥١).
ثم تحزم، وأخذ السيف بيده اليمنى، وجعل ينادي:
يا للأنصار كرة ككرة حنين …
يا للأنصار كرة ككرة حنين …
فاجتمع الأنصار، وتراصوا …
وتقدموا المسلمين، وتفانوا …
حتى أقحموا (٥٢) مسيلمة ومن معه حديقة الموت.
فاختلطنا بهم نحن - معشر المهاجرين - وآزرت (٥٣) سيوفنا سيوفهم …
ثم لاحت (٥٤) مني التفاتة؛ فإذا أبو عقيل عند باب حديقة الموت.
وقد قطعت يده من المنكب (٥٥)، ووقعت على الأرض …
وبه من الجراح أربعة عشر جرحا كلها مميت.
فوقفت عليه وهو صريع بآخر رمق (٥٦) وقلت:
أبا عقيل …
فقال بلسان ملتاث (٥٧): لبيك! … لمن الهزيمة؟ …
قل لي لمن الهزيمة؟.
فقلت: أبشر … فقد قتل عدو الله وعدو رسوله ﷺ …
فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله ﷿ …
ويثني عليه …
ثم لفظ آخر أنفاسه …
* * *
قال عبد الله بن عمر:
فلما عدت إلى المدينة أخبرت الفاروق بخبر أبي عقيل كله …
فدمعت عيناه، وقال:
رحم الله أبا عقيل رحمة واسعة.
فإنه ما زال يسأل الله الشهادة، ويلح في طلبها …
حتى نالها.
ولقد كان - ما علمت - من أخيار أصحاب نبينا محمد ﷺ …
وصفوة أتباعه … (*).
_________
(١) استفحل: تفاقم وعظم.
(٢) ظاهرهم: عاونهم.
(٣) الخطر الداهم: المصيبة النازلة.
(٤) اللجب: ذو الجلبة والكثرة.
(٥) يمارون: يجادلون أو ينازعون أو يلجون.
(٦) يفتري الكذب: يختلق الكذب.
(٧) يفضي: يوصل.
(٨) عكرمة بن أبي جهل: انظره في الكتاب الثاني من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٩) فارس هيجاء: حاذق في ركوب الخيل في الحرب.
(١٠) بطل معامع: شجاع يقتحم الحروب الشديدة.
(١١) صناديد: مفرد صنديد؛ السيد الشجاع.
(١٢) أنجادا: مفرد نجد: شجاع ماض فيما يعجز عنه غيره.
(١٣) أطارت صواب المسلمين: أطارت عقلهم ورشدهم.
(١٤) طير: خف وأسرع ببعث.
(١٥) لا يفت في عضد المسلمين: يوهن قوتهم ويضعفها.
(١٦) توهن: تضعف.
(١٧) المحيق: الشديد الذي يمحو كل شيء.
(١٨) تغاضى: انصرف عنهم.
(١٩) الفيلق: الجيش العظيم جمعه فيالق.
(٢٠) كابدوا: قاسوا وتحملوا مشاقه.
(٢١) الصرح: جمع صروح؛ القصر وكل بناء عال.
(٢٢) ضنينا: بخيلا لحرصه عليهم.
(٢٣) البلاء: المصيبة.
(٢٤) خالد بن الوليد: انظره ص ١٨٧.
(٢٥) يتربصا: ينتظرا ويتحينا الفرصة.
(٢٦) النخوة: المروءة.
(٢٧) العصبية: شدة ارتباط المرء بعصبته وجماعته.
(٢٨) الحمية: الأنفة والإباء.
(٢٩) سبيات: نساء أسيرات من العدو.
(٣٠) امنعوا نساءكم: احموا نساءكم.
(٣١) الفسطاط: الخيمة الكبيرة، والمراد به مكان قيادة الجيش.
(٣٢) ثابت الجنان: ثابت القلب.
(٣٣) يخامره شك: يداخله الشك.
(٣٤) القنوط: اليأس.
(٣٥) امتازوا: انفصلوا وانفرزوا.
(٣٦) بلاء كل فريق: بأس كل فريق واختباره.
(٣٧) أتوا: جاءتهم الهزيمة.
(٣٨) لم تكنن: لم تضم.
(٣٩) عبد الله بن عمر بن الخطاب: انظره ص ٢٣٥.
(٤٠) المرجل: القدر.
(٤١) يتوثب: يتحفز.
(٤٢) الليث: الأسد.
(٤٣) نحره دون نحور المسلمين: صدره درعا لصدور المسلمين.
(٤٤) حمي الوطيس: اشتدت الحرب.
(٤٥) تضعضع: ضعف وتهدم.
(٤٦) البراء بن مالك الأنصاري: انظره في الكتاب الأول من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٤٧) معن بن عدي الأنصاري: صحابي له ذكر في يوم السقيفة، شهد أحدا، وقد وجهه خالد بن الوليد في حروب الردة طليعة إلى اليمامة في مائتي فارس.
(٤٨) نشزا من الأرض: المكان المرتفع من الأرض.
(٤٩) فدنوت منه: اقتربت منه.
(٥٠) بعينه: بذاته.
(٥١) حبوا: زحفا.
(٥٢) أقحموا: أدخلوه كرها.
(٥٣) آزرت: تشابكت وتلاحمت.
(٥٤) لاحت: بدت وحانت.
(٥٥) المنكب: الكتف.
(٥٦) الرمق: بقية الحياة.
(٥٧) ملتاث: مبطئ مسترخ.
مختارات