علماء الطبيعة والحكماء والفلاسفة
علماء الطبيعة والحكماء والفلاسفة:
قد كان بمصر جماعة من علماء العلم الطبيعي وعلوم الحكمة والطب والفلسفة، وكان لهم باع كبير في تأسيس الحضارة الإسلامية، فمن هؤلاء:
1.أبو الحسن علي بن الإمام الحافظ أبي سعيد بن يونس صاحب تاريخ مصر، وكان ولده -كما قال ابن كثير- منجماً، شديد الاعتناء بعلم الفلك، مرجعاً في آلات هذا الفن ومنه ما يسمى بـ " الزيج الحاكمي "، توفي سنة 399 رحمه الله تعالى.
2.أبو الصلت أمية بن عبدالعزيز بن أبي الصلت الداني، قال الذهبي: كان رأساً في معرفة الهيئة -أي الفلك- والنجوم والموسيقى والطبيعي والرياضي والإلهي، كثير التصانيف، بديع النظم، توفي سنة 528، رحمه الله تعالى.
3.شرف الدين عبدالله بن علي، الشيخ السديد، شيخ الطب بالديار المصرية، توفي سنة 592 رحمه الله تعالى.
4.القطب المصري، أبو إسحاق إبراهيم بن علي السلميّ، سافر إلى المشرق وأخذ عن الرازي وكان من أشهر تلامذته، وألف كتباً كثيرة في الطب والحكمة منها شرح كليات القانون لابن سينا، وقد قتله التتار بنيسابور لما استولوا عليها سنة 618 رحمه الله تعالى.
5.أفضل الدين الخونجي محمد بن ناماوار بن عبدالملك الفيلسوف، برع في علوم الأوائل حتى صار متفرداً فيها وشرح مقالة ابن سينا، وله كتب عديدة، وولي قضاء الديار المصرية بعد عزل سلطان العلماء العز بن عبدالسلام، رحمه الله تعالى، ومن اللطائف أن الإمام السيوطي قال في ذلك: " فاعتبروا يا أولي الأبصار، يُعزل شيخ الإسلام وإمام الأئمة شرقاً وغرباً ويُولى عوضه رجل فلسفي، الدهر يأتي بالعجائب "، توفي سنة 649 رحمه الله تعالى.
6.ابن البيطار المالقيّ، عبدالله بن أحمد، الطبيب البارع، انتهت إليه معرفة أنواع النبات وصفاته وأماكنه ومنافعه، بل يعد أعظم عالم نبات ظهر في القرون الوسطى، وذكر في كتبه 300 نوع من النباتات لم يعرفها طبيب قبله، وهو صاحب كتاب " الجامع في الأدوية المفردة " وهو كتاب ليس له نظير ألّفه على طريقة بديعة عجيبة، استقر في مصر، وخدم الملك الأيوبي الكامل الذي عينه رئيساً على سائر العشابين، وبعد وفاة الكامل خدم الملك الصالح نجم الدين أيوب توفي بدمشق سنة 646، رحمه الله تعالى.
7.ابن النفيس، العلامة المشهور علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي، شيخ الطب بالديار المصرية وصاحب الكتب النفيسة منها " الشامل في الصناعات الطبية "، و " شرح تشريح قانون ابن سينا " و " شرح الأدوية المركبة " وقد ترجم إلى اللاتينية وله كتب غير ذلك طبية وشرعية، وكان صاحب ذكاء مُفْرط، وذهن حاذق، مع مشاركة في الفقه والأصول والحديث والعربية والمنطق، وهو مكتشف الدورة الدموية الصغرى التي ينسبها الغرب زوراً وبهتاناً لهارفي، وأحد رواد علم وظائف الأعضاء في الإنسان، حيث وضع نظريات يعتمد عليها العلماء إلى الآن ويعده الكثيرون أعظم أطباء العصور الوسطى. عمل في المستشفى الناصري ثم المستشفى المنصوري الذي أنشأه السلطان قلاوون وكان رئيس الأطباء فيه، ثم أصبح الطبيب الخاص للسلطان الظاهر بيبرس. توفي في القاهرة سنة 687، وعندما حضرته الوفاة -وكان من أبناء الثمانين- مرض ستة أيام مرضاً شديداً فحاول الأطباء معالجته بالخمر فقال: لا ألقى الله تعالى وفي جوفي شيء من الخمر، رحمه الله تعالى. وقد أوقف داره وكتبه وكل ما له على المستشفى المنصوري في القاهرة قائلاً: إن شموع العلم يجب أن تضيء بعد وفاتي. وقد جاء في موسوعة " ويكيبيديا " وصف جيد لأعماله ومكتشفاته، اصطفيت منه ما يلي: " عام 1242- أي 639 هجرية - نشر ابن النفيس أكثر أعماله شهرة، وهو كتاب " شرح تشريح قانون ابن سينا "، الذي تضمن العديد من الاكتشافات التشريحية الجديدة، وأهمها نظريته حول الدورة الدموية الصغرى وحول الشريان التاجي، وقد اعتبر هذا الكتاب أحد أفضل الكتب العلمية التي شرحت بالتفصيل مواضيع علم التشريح وعلم الأمراض وعلم وظائف الأعضاء، كما صوّب فيه العديد من نظريات ابن سينا.
بعد ذلك بوقت قصير، بدأ العمل على كتابه " الشامل في الصناعة الطبية، الذي نشر منه 43 مجلد في عام 1244 – أي سنة 641 هجرية - وعلى مدى العقود التالية، كتب 300 مجلد لكنه لم يستطيع نشر سوى 80 مجلداً فقط قبل وفاته، وبعد وفاته حلّ كتابه هذا محل " قانون " ابن سينا موسوعةً طبية شاملة في العصور الوسطى، مما جعل المؤرخين يصفونه بأنه " ابن سينا الثاني ". كان ابن النفيس قبل ذلك قد كتب كتابه " شرح الأدوية المركبة "، تعقيبًا على الجزء الأخير من قانون ابن سينا الخاص بالأدوية، وقد ترجمه " أندريا ألباجو " إلى اللاتينية في عام 1520- أي 926 هجرية - ونشرت منه نسخة مطبوعة في البندقية في عام 1547 – أي 954 هجرية - والتي استفاد منها ويليام هارفي في شرحه للدورة الدموية الكبرى. اتصفت آراء ابن النفيس في الطب بالجرأة، فقد فنّد العديد من نظريات ابن سينا وجالينوس وصوّبها. فُقد العديد من مؤلفات ابن النفيس عقب سقوط بغداد عام 1258 –أي 656 هجرية - الذي شهد خسارة وتدمير العديد من الكتب المهمة لكثير من علماء المسلمين.
اكتشافه للدورة الدموية الصغرى:
يعتبر اكتشافه للدورة الدموية الصغرى أحد أهم إنجازاته، حيث قال: " إن الدم ينقى في الرئتين من أجل استمرار الحياة وإكساب الجسم القدرة على العمل، حيث يخرج الدم من البطين الأيمن إلى الرئتين، حيث يمتزج بالهواء، ثم إلى البطين الأيسر ". كان الرأي السائد في ذلك الوقت، أن الدم يتولد في الكبد ومنه ينتقل إلى البطين الأيمن بالقلب، ثم يسري بعد ذلك في العروق إلى مختلف أعضاء الجسم. ظل اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية الصغرى (الرئوية) مجهولاً للمعاصرين حتى عثر محيي الدين التطاوي عام 1924- أي 1342 هجرية - أثناء دراسته لتاريخ الطب العربي على مخطوط في مكتبة برلين رقمه 62243 بعنوان " شرح تشريح القانون "، فعُني بدراسته وأعد حوله رسالة للدكتوراه من جامعة فرايبورج بألمانيا موضوعها " الدورة الدموية عند القرشي " - أي ابن النفيس، وكان هذا أحد ألقابه - ولجهل أساتذته بالعربية أرسلوا نسخة من الرسالة للمستشرق الألماني مايرهوف (المقيم بالقاهرة وقتها)، فأيد مايرهوف التطاوي، وأبلغ الخبر إلى المؤرخ جورج سارتون الذي نشره في آخر جزء من كتابه " مقدمة إلى تاريخ العلوم ".
8. أبو العباس شهاب الدين أحمد بن رجب بن طِيْبغا، المعروف بابن المجدي،وطيبغا كان أحد أمراء المماليك الكبار.وابن المجدي عالم رياضي وفلكي، ولد بالقاهرة سنة 767 هـ-1366 م -. قال السخاوي في ترجمته أنه " صار رأس الناس في أنواع الحساب، والهندسة، والهيئة، والفرائض، وعلم الوقت بلا منازع ". وقال السيوطي: " اشتغل، وبرع في الفقه، والنحو، والفرائض، والحساب، والهيئة، والهندسة... ". ترك آثاراً عديدة وُجد بعضها في مكتبات القاهرة وليدن وأكسفورد، وأشهرها: " الدر اليتيم في صناعة التقويم "، " إرشاد الحائر إلى تخطيط فضل الدوائر " في علم الهيئة -أي الفلك-، " تعديل القمر "، " تعديل زحل ". وقد حفظ القرآن الكريم ودرس ألفية ابن مالك في النحو، وتفقه على كتاب أبي زكريا يحيى النووي " منهاج الطالبين وعمدة المفتين "، وتفقه على مجموعة من الشيوخ منهم: أبو البقاء الدميري، وجمال الدين محمد بن المارديني،و سراج الدين البُلقيني. وقد جد ابن المجدي في طلب العلم، وبرع في عدة فنون وعلوم، ووُصف بفرط الذكاء، وبأنه كان رأس الناس في كثير من العلوم وفي مقدمتها: علم الفلك والرياضيات من حساب مثلثات والحساب العددي والهندسة والجداول الرياضية والتقويم والنحو والفقه.
وتخرج على يديه مجموعة من التلاميذ صاروا علماء، ومن أشهرهم: ابن الجيعان أبو زكريا الدمياطي الذي لازم ابن المجدي، وأخذ عنه علوم الرياضيات وتفوق فيها، والمناوي حسن بن على بن محمد البدر وأخذ عنه الحساب والفلك.
وكان ابن المجدي يعيش ملازماً لداره المجاورة لجامعة الأزهر، وقد استغنى عن الحاجة إلى غيره؛ فقد كان يعيش من عائد أرض وعقارات ورثها عن أبيه وجده، بل إنه كان ينفق من ماله على طلبته الفقراء. وقد استمر ابن المجدي في طريقة حياته الجميلة إلى أن ودع الدنيا عن عمر بلغ أربعة وثمانين عاما عام 850هـ 1447م ودفن بالقاهرة.
وقد أشاد كثير من العلماء بعقلية ابن المجدي وتواضعه.
ومن أهم إنجازات ابن المجدي العلمية أنه أضاف جديداً في الفلك لمعرفة كيفية التعرف على حال كوكب معين في وقت معين، ومعرفة الظل الواقع في السطح الموازي للأفق في أي وقت معين، ومعرفة الظل الواقع في السطح الموازي لمعدل النهار وسمته، وإخراج الجهات بارتفاع قطب المعدل للنهار، ومعرفة الجهات على أي سطح من الأسطحة القائمة والمائلة والساعات الفلكية، بالإضافة إلى التعرف على ارتفاع الشمس إذا ألقت شعاعها في موضع لا يمكن الوصول إليه، واهتم بدراسة الكواكب في حالاتها المختلفة منها: زحل والقمر.
وقد وضع ابن المجدي مباحث مهمة في معرفة عمق الآبار، وسعة الأنهار، ومسافة ما بين الجبلين، وأيهما أقرب للسائر في الطريق.
وقد قاربت مؤلفات ابن المجدي من خمسين كتاباً ورسالة ومقالاً معظمها في الفلك والرياضيات، وهي في معظمها مخطوطات بدور الكتب العربية والأجنبية.
وفي الجملة فإنه على يد مصر وعلمائها قُعِّدت أكثر العلوم والفنون، وضُبطت الصناعات وحُذقت، ولو قُدِّر لها أن ترزق حكاماً صالحين لكانت الآن في مقدمة دول العالم، ألم يبعث اليابان بعثة رسمية أواخر القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي إلى مصر لينظر كيف تقدمت ليتبع خطواتها؟ لكن المصيبة كل المصيبة أن مصر بُليت بحكام سوء فعلوا بها كل قبيحة ونقيصة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا غيض من فيض من سير أطباء مصر وفلكييها ورياضييها وحكمائها، والله الموفق.
مختارات