علماء مصر من القرن الثانى حتى القرن السابع
أما العلماء المصريون أو الذين سكنوا مصر مدة طويلة أو قصيرة، فعدد لا يمكن حصره، وهذا -على التحقيق- هو الذي بَوّأ مصر مكانة عالية في التاريخ الإسلاميّ، وهو الذي رفع قدر البلاد، وحمى الله -تعالى- به العباد، فالعلماء صِمام أمان المجتمع، وهم الذين تزدان بهم البلاد، وتصان بجهودهم حقوق العباد، ومن هؤلاء العلماء في القرن الأول جملة من الصحابة رضى الله عنهم، وعدد من التابعين، وقد ذكرت بعضهم من قبل في الحلقة الماضية.
ولابد أن أقول إني عندما أنسب شخصاً ما لمصر فهو إما أن يكون مصرياً بالولادة أو بالأصل، أو أنه وافد طارئ على مصر أقام فيها أربع سنين فأكثر، وذلك لأن الإمام الكبير عبدالله بن المبارك قال: من أقام ببلد أربع سنين نُسب إليها، وهذا أعده أقدم قانون للجنسية مطلقاً، وقد أخذت بعض دول أوربا بهذه المدة التي عينها ابن المبارك -رحمه الله تعالى- وأعطت الجنسية لمن أقام بها أربع سنوات فأكثر، وهذا يدل على النظرة المبكرة الثاقبة لذلك الإمام الفذ.
ومن علماء القرن الثاني: الليث بن سعد (ت 175) وهو إمام المصريين الذي قال فيه الإمام الشافعي: الليث أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه، وهو أحد كُمّل الرجال وأصحاب المروءة الكبار، وأحد أثرياء مصر، رحمه الله تعالى.
وعبدالله بن وهب الراسبي المالكي الذي لما قرئ عليه كتابه " أهوال القيامة " ظل يخور كأنه ثور منحور، وغشي عليه ثم مات بعد أيام متأثراً، رحمه الله تعالى، وذلك سنة 197.
ومنهم صاحب الإمام مالك عبدالرحمن بن القاسم (ت 191) الذي قَلّ مثيله في الدنيا، وكان من أصحاب الهمم العالية، فكان ينام على باب مالك في المدينة النبوية المنورة ينتظره إذا خرج إلى المسجد النبوي الشريف لصلاة الفجر.
ومنهم ورش المصري عثمان بن سعيد (ت 197) الذي يقرأ أكثر أهل المغرب العربي الكبير وإفريقيا بروايته إلى يومنا هذا.
ومنهم عبدالله بن لهيعة المحدث الإمام (ت 164).
وعثمان بن الحكم الجذاميّ (ت 163)، وهو أول من أدخل علم مالك إلى مصر، ولم يأت مصر أنبلُ منه.
ومن علماء القرن الثالث: الإمام الشافعي وهو ممن عظمت مصر وسعدت بسكناه فيها وموته في أرضها سنة 204، وفي مصر ختم الشافعي القرآن ستين مرة في رمضان وذلك أثناء رباطه في الاسكندرية، وكان ذلك بشهادة المُزني، والشافعي إمام الدنيا وعالم العلماء، وإليه المنتهى في العلوم الشرعية والتسليم فيها، وقد قال -رحمه الله تعالى- قبل مجيئه إلى مصر:
أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ودونها أرض المهامه والقَفْر
ولا أدري أللسعادة والغنى أساق لها أم أني أساق إلى قبري
فقال أحد العلماء: والله لقد سيق إلى ذلك كله.
ومنهم أصحاب الشافعي الذين لم يرزق إمام في الدنيا بمثلهم، وعلى رأسهم المُزني (ت 264) زينة أصحابه، وكان إذا فاتته صلاة الجماعة صلى الفرض خمساً وعشرين مرة رجاء التعويض!! وكان إماماً ورعاً زاهداً مجاب الدعوة.
ومنهم البويطي يوسف بن يحيى (ت231) صاحب حلقة الشافعي من بعده، وهو الذي صبر في محنة خلق القرآن يوم حُمل في الحديد إلى السجن ببغداد ومات بها، وكان من كرامات الشافعي أنه كان يقول له: تموت في الحديد، وهو أحد أئمة الإسلام وأركانه وزهاده.
ومنهم يونس بن عبدالأعلى الصدفي إمام المصريين (ت 264) وتوفي بعد الشافعي بستين سنة، وكان ورعاً زاهداً صالحاً عابداً، كبير الشأن، ذا فضائل كثيرة، ولما حضرته الوفاة بكى فسأله أصحابه عن ذلك فقال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله، يريد أنه فاته شرف الجهاد، رحمه الله تعالى.
ومنهم عبدالله بن عبدالحكم بن أَعْين، كان من أعظم أصحاب مالك (ت 215) ودفن بجوار الشافعي، وابنه محمد وكان مفتي مصر في زمانه (ت 268).
والربيع بن سليمان الجيزي المرادي، وكان عالماً ومؤذناً بجامع مصر، وقد جاء مرة ليؤذن فأخطأ فقال: حدثنا الشافعي، ثم ضحك وضحك الناس، وأخذ في الأذان، رحمه الله تعالى.
ومن العلماء أشهب، وأصبغ المالكيان، وقد دعا أشهب على الشافعي في سجوده بالموت فقال: اللهم أمت الشافعي حتى لا يضيع مذهب مالك، فمات الشافعي لكن أشهب لم يمهله الله تعالى فمات بعد الشافعي بشهر، وقد قال الشافعي لما بلغه دعاء أشهب عليه بالموت:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
ومنهم سعيد بن كثير بن عُفير (ت 226) قاضي مصر، وقد قال فيه إمام الجرح والتعديل يحيى ابن معين لما زار مصر واجتمع به: رأيت بمصر ثلاث عجائب: الأهرام والنيل وسعيد بن عفير.
ومنهم عبدالملك بن هشام (ت 218) صاحب " السيرة النبوية " المشهورة، وقد اجتمع بالشافعي لما ورد مصر وتذاكرا وتناشدا من أشعار العرب شيئاً كثيراً، وكان إماماً في النحو واللغة والأدب.
- وأما علماء القرن الرابع فعلى رأسهم: الإمام الطحاوي أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الحنفي ابن أخت الإمام المزني (ت 321) وهو صاحب العقيدة المشهورة التي أصبحت مرجعاً.
ومنهم ابن النحاس المصري النحوي الذي غرق في النيل في حادثة عجيبة، فقد كان يجلس عند مقياس النيل في الروضة في القاهرة، وكان يقطع الأبيات الشعرية ليعرف أوزانها مما هو معلوم من علم العَروض، فمرّ به أحد عوام المصريين فظنه يسحر النيل فرفسه من خلفه فوقع في النيل فمات غريقاً رحمه الله تعالى سنة 338.
وأما علماء القرن الخامس: فمنهم القاضي عبدالوهاب المالكي البغدادي المشهور الذي كان يعيش في بغداد في شظف وشدة، فلما جاء مصر أثرى، فلم يلبث بعد ذلك قليلاً حتى مات، وفي الاحتضار قال كلمة لطيفة: لا إله إلا الله: عندما عشنا متنا، وتوفي سنة 422 عن ستين سنة،رحمه الله تعالى.
ومنهم الحافظ عبدالغني بن سعيد الأزدي (ت 409).
وأما علماء القرن السادس فهم ثلة عظيمة، وعلى رأسهم: الإمام الكبير الطُرطوشي المالكي نزيل الإسكندرية (ت 525) الذي كان له مواقف مشهودة مع العُبيدية الباطنية ودولتهم تُعرف زوراً وبهتاناً بالفاطمية، وما لهم من فاطمة -رضي الله عنها- نصيب، وكان يقول: " إذا سألني الله عن المقام في الديار المصرية أيام العُبيدية فأقول: يا رب وجدت قوماً ضلالاً فعلمتهم "، وذلك يبين فضل الدعوة إلى الله وعظمها. وكان يقول: إذا عرض لك أمران: أمر دنيا وأمر آخرة فابدأ بأمر الآخرة يحصل لك الأمران.
ومنهم الحافظ العظيم أحمد بن محمد السِّلَفي الأصبهاني (ت 576) الذي سكن الاسكندرية 65 سنة ولم يخرج من بيته للفرجة إلا مرة واحدة!! ولم ير بحرها إلا من طاقة بيته!! وقد قرأ عليه الحديث صلاح الدين الأيوبي لما كان والياً لنور الدين زنكي على مصر، رحمهم الله جميعاً. وهو الوحيد في الدنيا -فيما أعلم- الذي حَدّث أكثر من ثمانين سنة، وتوفي عن قرابة مائة سنة، رحمه الله تعالى.
وممن مر بمصر وسكنها مدة ومات بها الحافظ عبدالغني المقدسي الذي كان مشهوراً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يَفُقْهُ أحد في هذا الباب إلا سلطان العلماء العز بن عبدالسلام، رحمهما الله تعالى، ولهما في الإنكار عجائب وغرائب، وهما حجة الله تعالى على المتأخرين في هذا الباب العظيم.
أما القرن السابع فأعظم علماء مصر فيه هو: العز بن عبدالسلام (ت 660) الذي كان أعظم العلماء مطلقاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى اشتهر بسلطان العلماء وبائع الأمراء، وله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حكايات تدل على عناية الله -تعالى- به وتوفيقه إياه، وقد كان مجلس فقهه يوصف بأنه أبهى مجلس فقه فى الدنيا، وقد كان له أثر عظيم في انتصار المصريين على التتار في عين جالوت سأبينه إن شاء الله تعالى في حلقة قادمة.
ومنهم المؤرخ المشهور القاضي ابن خَلِّكان صاحب " وفيات الأعيان " وتوفي سنة 681، رحمه الله تعالى.
ومن علماء ذلك القرن الإمام الشاطبي المقرئ صاحب الشاطبية (ت 590) وهي أعظم منظومات القراءات انتشاراً وقبولاً، وقد طاف ببيت الله الحرام حاملاً الشاطبية سائلاً الله -تعالى- أن يقبلها ألف أسبوع!! والأسبوع سبعة أشواط، فحقق الله -تعالى- رجاءه. وقد عُظم في مصر تعظيماً عجيباً حتى قال أبو شامة المقدسي فيه:
رأيت جماعة فضلاء فازوا برؤية شيخِ مصرَ الشاطبيِّ
وكلهـم يُعظمـه ويثني كتعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم
والشاطبي إمام جليل جداً، وقد ترك بلده لأنه كان خطيباً وأُلزم أن يذكر الأمراء بصفات في الخطبة لم يرها سائغة ففر بدينه إلى مصر، وعاش في فقر وشدة حتى أغاثه الله -تعالى- على يد القاضي الفاضل الذي أكرمه.
ومنهم الحافظ المحدث عبدالعظيم المنذري (ت 656) صاحب الكتاب المشهور " الترغيب والترهيب " وقد كان يوصف مجلس حديثه بأنه أبهى مجلس حديث على وجه الأرض، ومن سمو أدبه أنه كان المفتي بمصر قبل مجيء العز بن عبدالسلام، فلما دخل العز إلى مصر تنازل له عن الفُتيا، وبادله شيخ الإسلام العز بن عبدالسلام أدباً بأدب فقد كان يحضر مجلسه في الحديث كأحد الطلاب!!
ومنهم الإمام الكبير أحمد بن إدريس القرافي المالكي أحد العقول الضخمة في الإسلام، وهو صاحب كتاب " الفروق "، وهو أحد من وفق للجمع بين العلوم الطبيعية والعلوم الشرعية، فقد كان له في صناعة الآلات الدقيقة عجائب (ت 684).
مختارات