الصور المشاهدة فى مجالسنا من غثاء الألسنة
ومن الصور المشاهدة في مجالسنا:
وأولى هذه الصور:
حديث العامة أن فلاناً فيه أخطاء، وفلان آخر فيه تقصير، والثالث فيه غفلة، والرابع لا يسلم من العيب الفلاني.. وهكذا.. أقاموا أنفسهم لتقييم الآخرين وجرحهم ولمزهم.. فيا سبحان الله !!
نسينا أنفسنا، نسينا عيوبنا وتقصيرنا وغفلتنا وكثرة أخطائنا، ولو أعمل عاقل فكره في الجالسين أنفسهم لوجدنا فيهم البذاءة وسوءاً في المعاملة والأخلاق، فهو إن حدث كذب وإن وعد أخلف، أو باع واشترى فغش وخداع، وإن جاء للصلاة نقرها نقر غراب مقصر في الفرائض مهمل في النوافل، في وظيفته تأخر وهروب وإهمال واحتيال، وفي بيته وسائل الفساد وضياع الأولاد وعقوق للأرحام، كل هذه النقائص والمصائب عميت عليه فنسيها في نفسه وذكرها في إخوانه فلم يسلم منه حتى ولا الصالحون المخلصون.
فيا أيها الأخ، والله إني عليك لمشفق ولك محب فأمسك عليك لسانك وكف عن أعراض الناس وإذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك، كما قال ابن عباس، وقال أبو هريرة: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجل في عينه).
وقال عون بن عبد الله: (ما أحسب أحداً تفرغ لعيوب الناس إلا من غفلةٍ غفلها عن نفسه).
وقال بكر بن عبد الله المزني: (إذا رأيتم الرجل مولعاً بعيوب الناس ناسياً لعيوبه – أو لعيبه – فاعلموا أنه قد مـُكـِر به).
إذا رمت أن تحيا سليماً من الردى........ ودينك موفور وعرضك صيّن
فلا ينطقن منك اللسان بسوءةٍ........... فكلك سوءاتٍ وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معائباً............ فدعها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى...... ودافع ولكن بالتي هي أحسن
صورة ثانية من الصور التي تقع في واقعنا:
جلسوا مجلسهم فبدأ الحديث فذكروا زيداً وأن فيه وفيه ثم ذكروا قول عمرو فأتقنوا فن الهمز واللمز، والعجيب أن معهم فلاناً العابد الزاهد القائم الصائم والأعجب أن من بينهم طالب العلم فلاناً الناصح الأمين، والحمد لله لم يتكلما وسكتا، ولكنهما ما سلما لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ولأن المستمع شريك للقائل ما لم يتبع المنهج الشرعي: (من ردّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار)، هذا هو المنهج الشرعي والحديث أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث أبي الدرداء والحديث حسن.
فيا أيها المسلم إذا وقع في أحدٍ وأنت في ملأ فكن له ناصراً وللقوم زاجراً وانصر أخاك ظالماً أو مظلوماً وقل للمتحدث " أمسك عليك لسانك " فإن استجابوا وإلا فقم عنهم: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات:12).
واسمع لكلام ابن الجوزي الجميل في تلبيس إبليس قال رحمه الله تعالى: (وكم من ساكت عن غيبة المسلمين، إذا اغتيبوا عنده فرح قلبه وهو آثم من ذلك بثلاثة وجوه:- أحدها: الفرح فإنه حصل بوجود هذه المعصية من المغتاب، والثاني: لسروره بثلب المسلمين، والثالث: أنه لا ينكره) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى: (ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى - انتبه إلى هذا الكلام الجميل النفيس – تارة في قالب ديانة وصلاح فيقول: لي ليس عادة أن أذكر أحداً إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب وإنما أخبركم بأحواله، ويقول: والله إنه مسكين أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت وربما يقول: دعونا منه الله يغفر لنا وله.. وإنما قصده استنقاصه وهضم لجنابه.. ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقاً وقد رأينا منهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه) انتهى كلامه رحمه الله.
صورة ثالثة: اتهام النيات والدخول في المقاصد من أخطر آفات اللسان، يتبعه تبديع الخلق وتصنيف الناس وتقسيمهم إلى أحزاب وهم منها براء وقد يتبع ذلك أيمان مغلظة وأقسام وأحلاف أنه العليم بفلان والخبير بأقواله.. فياسبحان الله !! أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم قصده ومبتغاه؟
أين أنت من قول القدوة الحبيب صلى الله عليه وسلم: (إني لم أؤمر أن أنقب قلوب ولا أشق بطونهم)، والحديث أخرجه البخاري ومسلم.
ورحم الله ابن تيمية يوم أن قال في الفتاوى: (وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله تعالى (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة:286)وفي الصحيح قال: " قد فعلت " ) والحديث عند مسلم في كتاب الإيمان.
فيا أخي الحبيب، أمسك عليك لسانك والزم الورع والتقى ومراقبة الله عز وجل وأشغل نفسك في طاعة الله أنفع لك عند الله، فعن البراء رضي الله عنه قال: جاء أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (دلني على عمل يدخلني الجنة – انظر للحرص – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطعم الجائع واسقِ الظمآن وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر فإن لم تطِق فكف لسانك إلا من خير) والحديث أخرجه أحمد وابن حبان وغيرهما وهو صحيح.
وعند مسلم قال: (تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك). سبحان الله ! انظر لفضل الله جل وعلا على عباده، إن كفك شرك عن الناس صدقة تكتب لك عند الله عز وجل.
فيا أيها الأخ الكريم إن أبواب الخير كثيرة وأعمال البر عديدة فأشغل نفسك فيها، فإن عجزت فكف لسانك إلا من خير، وإن أبيت إلا أن تكون راصداً لأقوال الناس حارساً لألسنتهم فقيه ببواطنهم، فحسبنا وحسبك الله.
صورة أخرى: سمع ذلك المتحدث أو بعضاً من كلماته دون أصغاءٍ جيد المهم أنه فهم فحوى الكلام وعرف قصد المتكلم أو هكذا زعم، وانتبهوا لهذه الصورة لأنها تحصل لكثير منا، قرأ ذلك الكتاب أو الخبر وهاهو يلتهم الأسطر ونظراته تتقافز بسرعة بين الكلمات التي تساقط الكثير منها من فرط السرعة المهم كما يزعم أنه فهم فكرة الكاتب وعرف قصده، ثم انتقل للمجالس ليؤدي ما تحمله ويزكي علمه، هكذا سولت له نفسه.. فذكر حديث فلان وخبر علان وأنه قال كذا وكذا، فشرّق وغرّب، وأبعد وأقرب، فقلّب الأقوال وبدّل الأحوال وما أُتي المسكين إلا من سوء فهمه والتسرع في نقله، سوء الفهم والتسرع في النقل أو القراءة، قوّل الآخرين ما لم يقولوه وقديماً قيل: وما آفة الأخبار إلا رواتها.
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً........ وآفته من الفهم السقيمِ
ولكن تأخذ الأذهان منه............. على قدر القرائح والفهومِ
صورة أخرى: أننا نغفل أو نتغافل فنتكلم في المجالس ونذكر العشرات بأسمائهم، فإذا ذكّرنا مُذكّر أو حذرنا غيور بأن هذه غيبة، قلنا هذا حق وما قلنا فيه صحيح، وقد يسرد لك الأدلة والبراهين على ما يقول فيزيد الطين بلة.. فيا سبحان الله !! أليس النص واضح وصريح؟ ألم يقل الصحابي للرسول صلى الله عليه وسلم:
(أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال عليه الصلاة والسلام: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) أخرجه مسلم
إذاً فلا مفر، فإذا كان ما ذكرته صحيحاً فهذه هي الغيبة، وإذا كان ما ذكرته كذباً فهذا ظلم وبهتان، فكلا الأمرين ليس لك خيار فأمسك عليك لسانك !
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافر من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) أخرجه أحمد في مسنده وأبو داوود في سننه وإسناده صحيح.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت امرأة – اسمع يا أيها المسلم، اسمع يا من في قلبك خوف من الله عز وجل- ذكرت امرأة فقالت إنها قصيرة – وفي رواية أنها أشارت إشارة أنها قصيرة – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اغتبتيها " وفي رواية " اغتبتها ".. والحديث صحيح عند أبي داوود في سننه وأحمد في مسنده.
إذاً ما بال نسائنا اليوم يجلسن في المجالس فيعرضن لعشرات النساء، فلانة وعلانة، فتلك فيها والأخرى فيها وهكذا، ألا يخشين الله عز وجل؟ ألا يخفن يوم أن تقف المرأة أمام الله عز وجل ويسألها عن قولها؟ يا سبحان الله ! ألهذا الحد وصلت الغفلة في نساء المسلمين أن يغفلن أن مثل هذا القول سيجزين عليه أمام الله سبحانه وتعالى؟ تذكري وقوفك بين يدي الله عز وجل، احرصي أيتها المسلمة، لنحرص على أنفسنا، إننا ابتلينا بقلة الأعمال الصالحة في مثل هذا الزمن، ابتلينا في هذا العصر بكثرة الذنوب والتقصير في حق أنفسنا وحق ربنا أيها الأحبة، فلماذا إذن نزيد الطين بلة؟ ونجمع على ذلك ذنوب الآخرين في غيبتهم وتنقـّصهم وغير ذلك؟
وليس معنى هذا السكوت عن الأخطاء، إنني لا أطالب أن نسكت عن أخطاء الآخرين، أو حتى نتغاضى عن العصاة والمجاهرين والفاسقين، وليس معنى ذلك ألا نحذر منهم ولا نفضحهم، لا بل هذه أمور كلها مطالب شرعية، مطالبون بها شرعاً، ولكن بالمنهج الشرعي وبالقواعد العلمية كما جاءت عن السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ولكني على يقين أن أكثر ما يقال في مجالسنا لمجرد التحدث والتفكه، وربما الهوى وأحقاد وأضغان عافانا الله وإياكم منها، ورحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت عن سوءٍ فسلم.
صورة أخرى: قلت لبعض إخواني: الزم الأدب، وفارق الهوى والغضب أو أمسك عليك لسانك وابكِ على خطيئتك وانظر حالك وردد ما قلته لك على أمثالك، وقد كنت سمعت منه قيلاً وقال وجرح وثلب وهمز ولمز في أناس ما سمعنا عنهم إلا خيراً وهم من أهل الفضل، فما رأيناهم إلا يعملون الخير ويدعون له ويسعون للبر وينهون عن الإثم، فما استجاب لي وما سمع مني، فرأيت أن ألزم الصمت معهم وفيهم ولهم وعليهم، فأقبلت على واجباتي أيما إقبال وأرحت قلبي من الأحقاد والأغلال وذهني من الهواجس والأفكار، ثم جاء بعض الفضلاء وقال يقولون فيك كيت وكيت، يعلم الله ما التفت إليهم ولا تأذيت، وقلت لهم: رب كلام جوابه السكوت، ورب سكوت أبلغ من كلام، وعلمتني الحياة أن الصفح الجميل من أحسن الشيم.
قالوا سكت وقد خـُصِمت فقلت لهم.......... إن الجواب لباب الشر مفتاحُ
الصمت عن جاهل أو أحمق شرف.............. أيضاً وفيه لصون العرض إصلاحُ
أما ترى الأُسد تـُخشى وهي صامتة.......... والكلب يَخشى لعمري وهو نباحُ
ونقل الإمام الشاطبي عن أبي حامد الغزالي رحمة الله تعالى عليهما كلاماً متيناً يغفل عنه بعض الناس فقال: (أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جهلة أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإذلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها) انتهى كلامه رحمه الله تعالى من كتاب الاعتصام للشاطبي.
صورة أخرى من صور الواقع مع اللسان في مجالسنا اليوم: جلس مع صاحب له أو أصحاب فتكلموا وخاضوا، ولم يكن له من الأمر شيء إلا أنه شريك في المجلس، ومن باب المشاركة قالها كلمة أو كليمات لم يحسب لها حسابها ولم يتبين خطرها، ظنها حديث مجالس، كان يسمع ثم يهز رأسه علامة للرضا ثم قالها لم يظن نه يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، اسمع للنصوص الشرعية واستجب لها فإن فيها حياتك ونجاتك فقوله صلى الله عليه وسلم " ما يتبيّن " أي لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر فيها ولا في عواقبها ولا يظن أنها ستؤثر شيئاً، وهو من نحو قوله تعالى: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور:15)،هكذا يلقي بعض الناس هذه الكلمات، فيا أخي الكريم انتبه للسانك إن خطر اللسان عظيم وآفاته كثيرة فأمسك عليك لسانك.
صورة أخرى: كثير من الجلساء إذا ذكِر له صديقه أثنى عليه ولو كان يعلم أنه لا يستحق ذلك الثناء، وإذا ذكِر له خصمه ذمه ولو كان يعلم أنه خلاف ما يقول، فيا أيها المؤمن أسألك بالله هل تستطيع ذكر العيوب الموجودة في أقرب الناس إليك عند لحاجة الشرعية لذلك؟ اسأل نفسك، وهل تستطيع أن تثني بصدق على إنسان تختلف معه في بعض الأمور؟ أنا لا أريد الإجابة، ولكن الواقع يشهد أن أكثر الناس يجورون على خصومهم فيذمونهم بما ليس فيهم، ويجورون أيضاً على أصدقائهم فيمدحونهم بما ليس فيهم.
فإن من أثنى عليك بما ليس فيك فقد ذمك، نعم، لأن الناس يطلبون هذه الخصلة التي ذكرها فيك يطلبونها منك فلا يجدونها فيذمونك على فقدها، لا بل الأمر أدهى من ذلك وأشد فإن الحقيقة أنه كثيراً ما تنسينا العيوب القليلة المحاسن الكثيرة، انتبهوا لهذه الكلمة أيها الأحبة، وننسى القاعدة الشرعية: إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث، أفلا نتقي الله عند الجرح والتعديل وننزل الناس منازلهم؟
أليس قد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ووصفه بأنه ملك لا يظلم عنده أحد مع أنه – أي النجاشي – حينها كان كافراً لم يسلم بعد.. فيا أيها الأحبة، أسمعت رعاك الله؟ أنصف الناس وأنصف نفسك، فإن غلب عليك الهوى فأمسك عليك لسانك لا أبا لك..
صورة أخرى: تناظر اثنان في مجلس أي تجادلا وتناقشا، فارتفعت أصواتهما وانتفخت أوداجهما وتقاذفا بالسب والشتم، قلت: إن التشنج والانفعال ليس هو الأسلوب الأمثل لنصرة الحق أبداً، ولكن كم من هادئ عف اللسان حليم كاظم الغيظ أقدر على نصرة الحق من غيره، وقد قال أبو عثمان ابن الإمام الشافعي رحمة الله عليهما أجمعين: (ما سمعت أبي يناظر أحداً قط فرفع صوته).
وبعض الأخوة غفر الله للجميع يظن أن من تمام غيرته على المنهج وعظيم نصرته للحق لا بد أن يقطب جبينه ويحمر عينيه ويرفع صوته وتتسارع أنفاسه وهذا لا يصح أبداً، إن اختلاف الآراء ووجهات النظر لا يدعو للأحقاد والأضغان فإن المرجو البحث عن الحق وطلبه وليس التشفي والانتقام فينطلق اللسان بالسباب والشتائم ومقاطعة الكلام، فما من الناس أحد يكون لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله.
واسمع للأدب الجم والخلق الرفيع عند الحوار والمناقشة، قال عطاء بن أبي رباح: (إن الشاب ليتحدث بالحديث فأسمع له كأني لم أسمعه ولقد سمعته قبل أن يولد ومع ذلك أسكت كأني لم أسمع الكلام إلا الساعة)، هكذا يكون الأدب عند الحوار وعند المناظرة.
وأخيراً: من أعظم الصور في مجالسنا ومن أخطرها على كثير من الناس إطلاق العنان للسان في التحليل والتحريم والسخرية والاستهزاء بالدين، هذه من أخطر الصور التي نرى أنها تفشت في مجالس المسلمين أياً كانوا، رجال أو نساء كبار أو صغار، وخاصة بين الشباب والعوام.
إنك لتسمع وترى تسرع فئات من الناس في إطلاق ألفاظ التحليل والتحريم وقد نهى الله تعالى عن ذلك ونهى عن المسارعة في إصدار التحريم والتحليل فقال: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116).
وكان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم مع سعة علمهم وفقههم لا يكثرون من إطلاق عبارات التحليل والتحريم وهذا من شدة ورعهم ومحاسبتهم لأنفسهم.
يقول الإمام مالك رحمة الله تعالى عليه: (لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً أقتدي به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام، ما كانوا يجترئون على ذلك وإنما كانوا يقولون: نكره هذا، ونرى هذا حسناً، ونتقي هذا ولا نرى هذا، ولا يقولون حلال ولا حرام) انتهى كلامه من جامع بيان العلم وفضله.
أما نحن فنسمع عبارات التحليل والتحريم على كل لسان وخاصة من العامة، بدون علم ولا ورع ولا دليل مما أثار البلبلة عند الناس والتقوّل على الله بغير علم، بل المصيبة أن بعض الناس يسخر ببعض أحكام الدين ويهزأ بالصالحين والناصحين، وربما سخر باللحية أو سخر بالثوب القصير أو سخر ببعض سنن المرسلين والعياذ بالله، وهؤلاء والله إنهم على خطر عظيم، ألم يسمع هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).
ألم يسمع هؤلاء قول الحق عز وجل: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (الهمزة:1)، الهمزة هو الطعان في الناس، واللمز الذي يأكل لحوم الناس.
ألم يسمع هؤلاء قول الحق عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات:11).
ألم يسمع هؤلاء قول الحق عز وجل: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18).
سبحان الله ! غابت عليهم هذه النصوص من القرآن والسنة، غفلوا عن خطر ما يتقولون بالليل والنهار في السخرية والاستهزاء بالدين، وربما خرج بعضهم والعياذ بالله من الدين بسبب كلمة يقولها وهو لا يشعر، فحق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه حافظاً للسانه مقبلاً على شانه.
مختارات