القاعدة السابعة والثلاثون: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
الحمد لله،وصلى الله وسلم على عبده ورسوله ومصطفاه، أما بعد:
فهذه حلقة جديدة مع قاعدة قرآنية، وكلمات جامعة، تضمنتها تلك القاعدة التي تمثل أصلاً من أصول الوصايا القرآنية، تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}[هود: 112](1).
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة جاءت في سورة هود، تلك السورة العظيمة التي بيَّن الله فيها سبيل الحق والباطل، ثم ذكر فيها مصير هؤلاء وأولئك، ونماذج تاريخية من واقع الرسل مع أقوامهم، ثم ختمت تلك القصص كلها بقول الله عز وجل: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ... - إلى قوله سبحانه وتعالى-: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 100 - 112].
والمتأمل في هذه السورة العظيمة يلحظ فيها بجلاء كثرة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم سواء بضمير الخطاب في عشرات المواضع ـ وهو أكثرها ـ أو بغير ضمير الخطاب، ومنها: هذا الموضع الذي نحن بصدد الحديث عنه في هذه القاعدة المحكمة: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير}، ولنا مع هذه القاعدة عدة وقفات:
الوقفة الأولى: ما حقيقة الاستقامة؟ وما سر هذا الأمر الصريح له ولأتباعه بلزوم الاستقامة؟
أما حقيقة الاستقامة، فإن كلمات السلف من الصحابة ومن بعدهم تدور على معنى واحد في الجملة، ألا وهو أن الاستقامة: " هي سلوكُ الصِّراط المستقيم، وهو الدِّينُ القيِّم من غير تعريج عنه يَمنةً ولا يَسرةً، ويشمل ذلك فعلَ الطَّاعات كلّها، الظاهرة والباطنة، وتركَ المنهيات كُلِّها كذلك، فصارت هذه الوصيةُ جامعةً لخصال الدِّين كُلِّها " (2).
وأما عن سر هذا الأمر الصريح للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه بالاستقامة، فإن الجواب عن هذا يطول جداً، لكن من أجلى ما يوضح ذلك: أن يعلم المؤمن أن أعظم غرض يريده الشيطان من بني آدم هو إضلالهم عن طريق الاستقامة، ألم يقل عدو الله: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: 16]؟! ولهذا أمرنا أن نكرر في اليوم والليلة 17 مرة على أقل تقدير قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة: 6]، فاللهم اهدنا صراط المستقيم، وثبتنا عليه يا رب العالمين.
الوقفة الثانية مع هذه القاعدة المحكمة {فاستقم كما أمرت}:
فهذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة هو أمرٌ بالثبات على الاستقامة، ولغيره أمر بها وبالثبات عليها، يقول ابن عطية رحمه الله: " أَمْرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالاستقامة ـ وهو عليها ـ إنما هو أمر بالدوام والثبوت، وهذا كما تأمر إنساناً بالمشي والأكل ونحوه، وهو ملتبس به " (3)، ويوضح كلام ابن عطية هذا ما سبقت الإشارة من تكرار الدعاء في الفاتحة: اهدنا الصراط المستقيم.
ويوضح هذا أن القرآن الكريم مليء بالأمر بهذا الأصل العظيم أو الثناء على أهله في مواضع متنوعة، وبأكثر من أسلوب، ومن ذلك:
1. ما جاء في سورة الشورى ـ التي تحدثت عن الشرائع السابقة واتفاقها في جملة من الأصول ـ فقال سبحانه وتعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ... إلى أن قال: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ... الآية}[الشورى: 13 - 15].
2. ومن ذلك ـ أيضاً ـ أن الله تعالى أمر بهذا الأصل غير واحد من الأنبياء والمرسلين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فقد قال لموسى وهارون: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[يونس: 89]، بل لقد امتنّ الله بهذا الأصل على جميع الأنبياء والمرسلين، فإنه عز وجل لما ذكر عدداً كبيرا من الرسل ـ في سورة الأنعام ـ قال{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}[الأنعام: 87، 88].
3. وفي صدر سورة فصلت ملحظ مهم في ترسيخ معنى هذه القاعدة، فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ... الآيات} [فصلت: 6] وفي نفس السورة يبشر الله عباده المستقيمين على دينه بأعظم بشارة تتمناها نفس: فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت: 30].
واستعراض الآيات الواردة في الاستقامة نصاً أو معنى ليس مقصوداً لنا هنا، وإنما الغرض التنبيه على ذلك.
الوقفة الثالثة، مع هذه القاعدة المحكمة {فاستقم كما أمرت}:
إن من تأمل هذا الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم تبين له عظم وخطورة هذا الأمر ـ أعني الاستقامة والثبات على الدين ـ كيف، وهما اللتان أقضتا مضاجع الصالحين؟!
روى البيهقي في " الشعب " عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام! فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: " شيبتني هود " ؟ فقال: " نعم " فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟! فقال: " لا، ولكن قوله: فاستقم كما أمرت " (4).
وهذه الرؤيا ـ كما لا يخفى ـ هي كغيرها لا يعتمد عليها في الأحكام الشرعية، ولا في تصحيح أو تضعيف الأحاديث، ومنها: الحديث المشهور: " شيبتني هود وأخواتها " (5) فإنه حديث مضطرب الإسناد، كما بين ذلك جمع من الحفاظ كالترمذي والدارقطني وابن حجر رحمهم الله جميعاً، وإنما الغرض هنا الاستئناس بهذه الرؤيا على عظيم موقع هذا الأمر الإلهي من نفس النبي صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الرابعة مع هذه القاعدة المحكمة {فاستقم كما أمرت}:
أن الإنسان مهما بلغ من التقوى والإيمان، فهو بحاجة ماسة إلى التذكير بما يثبته، ويزيد استقامته، ولو كان مستغنياً عن ذلك؛ لكان نبينا صلى الله عليه وسلم أولى الناس بهذا، يقول ابن تيمية رحمه الله: " وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبداً بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه ويرفع به درجته " (6).
الوقفة الخامسة مع هذه القاعدة المحكمة {فاستقم كما أمرت}:
أن يعلم المؤمن أن أعظم مدارج الاستقامة هي استقامة القلب، فإن استقامته ستؤثر على بقية الجوارح ـ ولا بد ـ قال ابن رجب رحمه الله: " فأصلُ الاستقامةِ استقامةُ القلب على التوحيد، كما فسر أبو بكر الصِّديق وغيرُه قولَه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} بأنَّهم لم يلتفتوا إلى غيره، فمتى استقام القلبُ على معرفةِ الله، وعلى خشيته، وإجلاله، ومهابته، ومحبته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكُّلِ عليه، والإعراض عما سواه = استقامت الجوارحُ كلُّها على طاعته، فإنَّ القلبَ هو ملكُ الأعضاء، وهي جنودهُ، فإذا استقامَ الملك، استقامت جنودُه ورعاياه(7)،... وأعظم ما يُراعى استقامتُه بعدَ القلبِ مِنَ الجوارح اللسانُ، فإنَّه ترجمانُ القلب والمعبِّرُ عنه " (8) " ومن استقام على هذا الصراط حصل له سعادة الدنيا والآخرة، واستقام سيره على الصراط يوم القيامة، ومن خرج عنه فهو إما مغضوب عليه، وهو من يعرف طريق الهدى ولا يتبعه كاليهود، أو ضال عن طريق الهدى كالنصارى ونحوهم من المشركين " (9).
نسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا ممن استقام ظاهره وباطنه على ما يحبه ويرضاه، وأن يثبتنا على الإسلام والسنة حتى نلقاه، والحمد لله رب العالمين.
___________________
(1) ينظر: فتاوى ابن تيمية 20/112.
(2) جامع العلوم والحكم: شرح الحديث (21) حديث سفيان بن عبدالله س.
(3) المحرر الوجيز (3 / 225).
(4) شعب الإيمان 4/82.
(5) أخرجه الترمذي وغيره ح (3297)، وينظر: العلل لابن أبي حاتم رقم (1826)، ولصديقنا د.سعيد الرقيب الغامدي بحث مفصل في بيان طرق وعلل هذا الحديث منشور على موقع ملتقى أهل الحديث.
(6) مجموع الفتاوى: (11 / 298).
(7) كما في الحديث المتفق عليه: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ".
(8) جامع العلوم والحكم: شرح الحديث (21) حديث سفيان بن عبدالله رضي الله عنه.
(9) فتح الباري لابن رجب (4 / 500).
مختارات