" عقبة الدنيا "
" عقبة الدنيا "
أعظم الناس غورًا مَن اغترَّ بالدُّنيا وزُخْرفها وشهواتها؛ فآثرها على الآخرة ورضي بها؛ قال تعالى: " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ " [آل عمران: 14].
وقال - سبحانه - مبيِّنًا حقيقةَ الدُّنيا: " اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ " [الحديد: 20].
وأخبر - سبحانه - أنَّ من أراد الدنيا وزينتَها وفضَّلها على الآخرة، فإنَّه لا نصيبَ له في الآخرة.
قال تعالى: " مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " [هود: 15، 16].
وحذَّر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّممن الدنيا وشهواتها فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مُسْتخْلِفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) رواه مسلم».
رأسُ الخطايا
وحُبُّ الدُّنيا والتَّعَلُّق به وإيثارُها على الآخرة رأسُ كلِّ خطيئة؛ كما قال عيسى ابن مريم عليه السلام: «حُبُّ الدُّنيا رأسُ كلِّ خطيئة».
قال ابن القيم: وإنَّما كان حُبُّ الدُّنيا رأسُ الخطايا ومفسدًا للدِّين من وجوه:
أحدها: حُبُّها يقتضي تعظيمَها وهي حقيرة عند الله؛ ومن أكبر الذُّنوب تعظيمُ ما حَقَّرَ الله.
وثانيها: أن الله لعنها ومقتها وأبغضها إلا ما كان له فيها ومن أَحَبَّ ما لعنه الله وأبغضه فقد تَعَرَّضَ لفتنته وغضبه.
وثالثها: أنَّه إذا أحبَّها صَيَّرَها غايتَه وتَوَسَّلَ إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائلَ إليه وإلى الدار الآخرة؛ فَعَكَسَ الأمرَ وقَلَبَ الحكمةَ.
ورابعها: أن محبَّتَها تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفْعُه في الآخرة؛ لاشتغاله عنه بمحبوبه.
وخامسُها: أن محبَّتَها تجعلها أكثر هَمِّ العبد.
وسادسها: أن مُحبَّها أشدُّ النَّاس عذابًا، وهو مُعَذَّبٌ في دُوره الثَّلاث:
يُعَذَّبُ في الدُّنيا بتحصيلها، وفي دار البَرْزَخ بفواتها، والحسرة عليها.
ويُعَذَّبُ يوم لقاء ربِّه؛ قال تعالى: " فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ " [التوبة: 55].
وسابعها: أنَّ عاشقَها ومُحبَّها الذي يُؤْثرها على الآخرة من أَسْفَه الخَلْق وأَقَلِّهم عقلاً إذا آثر الخيالَ على الحقيقة؛ كما قيل: وإن امرؤ دنياه أكبر هَمِّه لمستمسك منها بحبل غرور
مختارات