فقه الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به - الجزء الثانى
جميع ما خلقه الله عزَّ وجلَّ فله فيه حكمة، والحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه سبحانه يحبها ويرضاها وهي الإيمان والتوحيد.
الثاني: حكمة تعود إلى عباده وهي نعمه عليهم، يفرحون بها، ويتلذذون بها، وهذا في المخلوقات والمأمورات:
أما في المأمورات فإن الطاعات كلها يحبها الله ويرضاها، ويفرح بها، يفرح سبحانه إذا فعل العبد ما أمره الله به، ويغار إذا فعل العبد ما نهاه عنه.
وكذلك الطاعات عاقبتها سعادة العبد في الدنيا والآخرة، يفرح بها العبد المطيع، فكل ما أمر الله عزَّ وجلَّ به له عاقبة حميدة تعود إليه وإلى عباده، ففيها حكمة له، وفيها رحمة بعباده.
وكذلك المخلوقات، فكل ما خلقه الله خلقه لحكمة تعود إليه يحبها.. وخلقه رحمة بالعباد ينتفعون بها.
ومن أعظم حكمة الرب وكمال قدرته خلق الضدين، إذ بذلك تُعرف ربوبيته وقدرته وملكه، كما خلق الليل والنهار، وكما خلق جبريل وإبليس.
فخلق أطيب الأرواح وأزكاها وأطهرها وأفضلها، وأجرى على يديه كل خير.
وخلق أخبث الأرواح وأنجسها وأرداها، وأجرى على يديه كل شر وكفر وفسوق وعصيان.
وجعل سبحانه الطيب منحازاً إلى تلك الروح الطيبة، والخبيث منحازاً إلى هذه الروح الخبيثة.
فتلك تجذب كل طيب.. وهذه تجذب كل خبيث.. ولكل منهما عمل ودار.
وأي حكمة وقدرة أبلغ من هذا؟.
وقد خلق الله الإنسان من الأرض، وهي مشتملة على الطيب والخبيث، والله عزَّ وجلَّ يريد تخليص الطيب من الخبيث بالوحي الذي أنزله، ليجعل الطيب مجاوراً له في دار كرامته، مختصاً برؤيته والقرب منه.
ويجعل الخبيث في دار الخبث، حظه البعد منه، والهوان والطرد والإبعاد، إذ لا يليق بحمده وحكمته وكماله أن يكون مجاوراً له في داره مع الطيبين وهو خبيث فاسد نجس.
فسبحان الحكيم العليم الذي خلق من المادة النارية من جعله محركاً للنفوس الخبيثة.. داعياً لها إلى محل الخبث والإحراق وهو الشيطان.. لتنجذب إليه النفوس الخبيثة بالطبع.. وتميل إليه بالمناسبة.. فتنحاز إلى ما يناسبها عدلاً وحكمة.. لا يظلمها في ذلك بارئها وخالقها.
بل أقام بحكمته وعدله داعياً يظهر بدعوته إياها واستجابتها له ما كان معلوماً لخالقها وبارئها من أحوالها، وكان خفياً على العباد.
فلما استجابت لأمره، وآثرت طاعته على طاعة ربها، الذي تتقلب في نعمه، ظهر حينئذ لملائكته ورسله وأوليائه حكمته وعدله في تعذيب هذه النفوس الخبيثة، وطردها عنه، وإبعادها عن رحمته.
وأقام سبحانه للنفوس الطيبة داعياً يدعوها إليه.. وإلى مرضاته وكرامته.. فلبت دعوته واستجابت لأمره.. فعلم عباده حكمته في تخصيصها بمثوبته وكرامته.
فظهر للعباد حمده التام، وحكمته البالغة في الأمرين، وعلموا أن خلق ولي الله وعبده جبريل وجنوده وحزبه، وخلق عدو الله إبليس وجنوده وحزبه، هو عين الحكمة والمصلحة، وأن تعطيل ذلك منافٍ لمقتضى حكمته وحمده.
فسبحان من هذا خلقه، وهذا أمره، وهذه حكمته: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [آل عمران: 18].
والرضا بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره مستحب، وهذا كالمرض والفقر، وأذى الخلق له، والحر والبرد ونحو ذلك.
والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه كأنواع الظلم والفسوق والعصيان حرام يعاقب عليه، وهو مخالفة لربه تعالى، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه.
فإن قيل كيف يريد الله عزَّ وجلَّ أمراً لا يحبه ولا يرضاه؟.
قيل: الله سبحانه يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره،
وكونه سبباً إلى ما هو أحب إليه من غيره، كما خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال، والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد، ووقوع ما يغضب الرب تبارك وتعالى.
فهو مبغوض للرب، مسخوط له، لعنه الله ومقته، وغضب عليه.
ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها:
منها ظهور قدرة الرب للعباد في خلق المتضادات، فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات، وسبب كل شر، في مقابلة جبريل التي هي أشرف الذوات وسبب كل خير.
وخلق الليل والنهار، والحياة والموت، والذكر والأنثى، والماء والنار، والخير والشر، كل ذلك يدل على كمال قدرة الله وعزته، وعظمة سلطانه وملكه، فإنه خلقها وجعلها محل تصرفه وتدبيره.
فتبارك الله خالق هذا وهذا، وهو الحكيم العليم.
ومنها ظهور آثار أسمائه القهرية كالقهار، وشديد العقاب، والمعز المذل، والنافع الضار، ونحوها، فإن هذه الأسماء والأفعال من كمال ذاته، فلا بد من وجود متعلقها، ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملك، لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.
ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره، فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد.
ومنها ظهور آثار الأسماء المتضمنة للحكمة والخبرة، فإنه سبحانه الحكيم الخبير، الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه.
فلا يضع سبحانه الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل، ولا الفضل والعطاء موضع الحرمان والمنع، ولا الثواب موضع العقاب، ولا الخفض موضع الرفع، ولا العز مكان الذل، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به.
فهو سبحانه الحكيم العليم الذي يعلم أين يجعل رسالته، وأعلم بمن يصلح لقبولها، ويشكره على وصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك.
وهو أحكم من أن يمنعها أهلها، وأن يضعها عند غير أهلها.
فلو قدر سبحانه عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه الآثار ولم تظهر لخلقه، ولتعطلت تلك الحكم والمصالح المترتبة عليها، وفواتها شر من حصول تلك الأسباب.
وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح والمنافع ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر.
ومنها حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فالله عزَّ وجلَّ يحب عبودية الجهاد في سبيل الله، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية، وتوابعها من الموالاة في الله، والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر، ومخالفة الهوى.
فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب، وهو الحكيم الخبير.
ومنها عبودية التوبة والاستغفار، فهو سبحانه يحب التوابين، ولو عطلت الأسباب التي يتاب منها لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار.
ومنها عبودية مجاهدة عدو الله، ومراغمته في الله، ومخالفته، وذلك من أحب العبودية إليه، فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه، ويجاهده.
ومنها أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوه، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده ومكره وشره.
ومنها أن عبيده يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه من الطرد واللعن بسبب معصيته، فيحذرون معصيته، ويبادرون إلى طاعته.
ومنها أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته.
ومنها أن نفس اتخاذه عدواً من أكبر أنواع العبودية وأجلها، وهو محبوب للرب عزَّ وجلَّ.
ومنها أن الطبيعة البشرية جعلها الله مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد.
فخلق الله الشيطان مستخرجاً لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل.
وأرسل الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل.
فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها ليترتب عليه آثاره، وما في قوى أولئك من الشر ليترتب عليه آثاره، وتظهر حكمته في إكرام أهل الخير وعقوبة أهل الشر.
فالملائكة ظنوا أن وجود من يسبح بحمده ويقدسه أولى من وجود من يعصيه ويخالفه، فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح في خلق هذا النوع ما لا تعلمه الملائكة كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30].
ألا ما أقل علم الخلق بقدرة رب العالمين، وحكمة أحكم الحاكمين.
ومنها أن ظهور كثير من آيات الله وعجائب صنعه إنما حصل بسبب وقوع الكفر والشر من النفوس الكافرة الظالمة، كآية الطوفان في قوم نوح، وآية الريح في قوم عاد، وآية إهلاك ثمود، وقوم لوط، وآية انقلاب النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وآية موسى مع فرعون وبني إسرائيل بانفلاق البحر، وخروج الماء من الحجر، ونحو ذلك.
فلولا كفر الكافرين، وعناد الجاحدين لما ظهرت هذه الآيات الباهرة كما قال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)}... [الشعراء: 139، 140].
ومنها أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضاً، ويكسر بعضها بعضاً هو من شأن الربوبية القاهرة، والقدرة النافذة، والحكمة التامة، والملك الكامل.
والرب سبحانه كامل في نفسه، ولو لم يخلق هذه الأسباب، لكن ظهور آثارها وأحكامها في عالم الشهادة تحقيق لذلك الكمال الإلهي.
فالعبودية والآيات والعجائب التي ترتبت على خلقه ما لا يحبه ولا يرضاه، وتقديره ومشيئته، أحب إليه سبحانه وتعالى من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها.
فإن قيل هل يمكن حصول تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟.
قيل هذا محال، وهو سؤال باطل، إذ هو فرض وجود الملزوم بدون لازمه كفرض وجود الابن بدون الأب، والكتابة بدون كاتب، والحركة بدون متحرك، والتوبة بدون تائب.
فإن قيل: فهذه الأسباب مرادة للرب، فهل تكون مرضية محبوبة له؟.
قيل: هو سبحانه يحبها من جهة إفضائها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها.
وسر المسألة:
أن الرضا بالله يستلزم الرضا بأسمائه وصفاته، وأفعاله وأحكامه، ولا يستلزم الرضا بمفعولاته كلها، بل حقيقة العبودية أن يوافق العبد ربه في رضاه وسخطه، فيرضى منها ما يرضى به، ويسخط منها ما سخطه.
فإن قيل: كيف يجتمع الرضا بالقضاء الذي يكرهه العبد من المرض والفقر والألم مع كراهته؟.
قيل: لا تنافي في ذلك، فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يحب، ويكرهه من جهة تألمه به كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه يجتمع فيه رضاه به، وكراهته له.
فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئاً ولا يعينه عليه؟.
قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} [التوبة: 46، 47].
والطاعة: هي موافقة الأمر لا موافقة القدر، ولو كانت موافقة القدر طاعة لله لكان إبليس من أعظم المطيعين لله، وكان قوم نوح وعاد، وثمود وقوم لوط، وقوم فرعون، كلهم مطيعين لله، فيكون قد عذبهم أشد العذاب على طاعته، وانتقم منهم لأجلها، وهذا غاية الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
والله حكيم عليم، فقد جعل في خلق من يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحكم الباهرة، والآيات الظاهرة، ما لم يكن يحصل بدونه.
فلولا كفر قوم نوح لما ظهرت آية الطوفان التي أغرق الله بها الكفار والظالمين.
ولولا كفر عاد لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمرت ما مرت عليه.
ولولا كفر قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة.
ولولا كفر فرعون وقومه لما ظهرت تلك الآيات والعجائب التي تتحدث بها الأمم أمة بعد أمة، واهتدى بها من شاء الله من عباده.
وهلك بها من هلك عن بينة، وحيى بها من حيى عن بينة، وظهر بها فضل الله وعدله، وقدرته وحكمته، وآيات رسله.
ولولا مجيء المشركين يوم بدر بقوة السلاح، وكثرة الرجال، والكبر والبطر، لما حصلت تلك الآيات العظيمة من النصر، ونزول الملائكة، والتي ترتب عليها من الإيمان والهدى والخير، ما لم يكن حاصلاً مع عدمها.
وكم حصل بها من الهدى والإيمان؟.
وكم حصل بها من محبوب للرحمان، وغيظ للشيطان؟.
وتلك المفسدة التي حصلت في ضمنها للكفار مغمورة جداً بالنسبة إلى مصالحها وحكمها وآثارها العظيمة.
والله حكيم عليم أراد أن يري عباده السابق واللاحق ما هو من أعظم آياته، وهو أن يربي هذا المولود الذي ذبح فرعون ما شاء الله من الأولاد في طلبه في حجر فرعون، وفي بيته، وعلى فراشه، ثم جعل زوال ملكه وإهلاكه على يده.
فكم حصل بقصة موسى - صلى الله عليه وسلم - مع فرعون من عبرة وحكمة، ورحمة وهداية.
وكذلك المفسدة التي حصلت لأيوب (من مس الشيطان له بنصب وعذاب، اضمحلت وتلاشت في جنب المصلحة التي حصلت له ولغيره عند مفارقة البلاء، وتبدله بالنعماء، بعد ذلك الصبر والدعاء.
وكذلك كفر قوم إبراهيم وشركهم، وتكسيره لأصنامهم، وغضبهم لها، وإيقاد النيران العظيمة له، وإلقاؤه فيها، كل ذلك أوصله إلى أن صارت النار التي ألقي فيها برداً وسلاماً عليه.
وصارت تلك آية وحجة وعبرة على مر الزمن.
وكم بين إخراج الرسول (من مكة مختفياً على تلك الحال، وبين دخوله إليها ذلك الدخول الذي لم يفرح به بشر حبوراً لله، وقد اكتنفه المسلمون من جميع الجهات، والمهاجرون والأنصار قد أحدقوا به، والملائكة من فوقهم، والوحي من الله ينزل عليه، وقد أدخله حرمه ذلك الدخول المهيب الرهيب.
فأين مفسدة ذلك الإخراج الذي كأن لم يكن في جنب هذا النصر المبين؟.
ولولا معارضة السحرة لموسى - صلى الله عليه وسلم - بإلقاء العصي والحبال، حتى أخذوا أعين الناس واسترهبوهم، لما ظهرت آية عصا موسى - صلى الله عليه وسلم - التي ابتلعت عصيهم وحبالهم فآمنوا فوراً، وانقلبوا على فرعون، وقاموا في وجهه معتزين بدينهم، مدافعين عنه.
فسبحان الحكيم العليم الذي جميع أفعاله كلها حكم وآيات: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)} [الأنعام: 18].
وهو سبحانه الملك الذي يتصرف في عباده بالحكمة والعلم، بالعدل لا بالظلم، بالإحسان لا بالإساءة، بما يصلحهم لا بما يفسدهم.
فهو يأمرهم وينهاهم إحساناً إليهم، وحمايةً وصيانةً لهم، لا حاجةً إليهم، ولا بخلاً عليهم بل جوداً وكرماً، ولطفاً وبراً، ورحمةً وإحساناً.
ويثيبهم إحساناً وتفضلاً ورحمةً، لا لمعاوضة واستحقاق منهم، أو دين واجب لهم يستحقونه عليه.
ويعاقبهم عدلاً وحكمةً، لا تشفياً ولا مخافةً ولا ظلماً كما يعاقب الملوك والجبابرة وغيرهم.
بل هو سبحانه على الصراط المستقيم، وهو صراط العدل والإحسان، في أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وقضائه وقدره كما قال هود - صلى الله عليه وسلم -: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56].
فهو سبحانه على صراط مستقيم في عطائه ومنعه.. وهدايته وإضلاله.. وفي نفعه وضره.. وعافيته وبلائه.. وإعزازه وإذلاله.. وإنعامه وانتقامه.. وثوابه وعقابه.. وتحليله وتحريمه.. وأمره ونهيه.. وإحيائه وإماتته.. وفي كل ما يخلقه.. وفي كل ما يأمر به.. وفي كل ما يدعو إليه.
وهذه المعرفة بالله لا تكون إلا للأنبياء ولورثتهم من المؤمنين.
وهو سبحانه على صراط مستقيم في تصرفه في ملكه، يتصرف بالعدل، ومجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ولا يظلم مثقال ذرة، ولا يعاقب أحداً بما لم يجنه، ولا يهضمه ثواب عمله، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يأخذ أحداً بجريرة أحد، ولا يكلف نفساً ما لا تطيقه، ومصير العباد كلهم إليه، وطريقهم عليه، لا يفوته أحد منهم، فيجازيهم بما عملوا: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116].
وكل دابة تحت قبضته وإرادته، وهو آخذ بناصيتها، فلا يقع في ملكه من أحد المخلوقات شيء بغير مشيئته وقدره، ومن ناصيته بيد الله فلا يمكنه أن يتحرك إلا بتحريكه، ولا يفعل إلا بإقداره، ولا يشاء إلا بمشيئته: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)}... [الإنسان: 30].
فهو سبحانه الحق، وقوله الحق، ووعده الحق، وأمره الحق، وجزاؤه الحق، وأفعاله كلها حق، وكتبه كلها حق، وكيف يليق بالملك الحق أن يخلق خلقه عبثاً، ويتركهم سدى، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115].
وهو سبحانه المولى الكريم، الذي هدى الضالين، وعلَّم الجاهلين، وأصلح الفاسدين، وأنقذ الهالكين، وبصر المتحيرين، وتاب على المذنبين، وأقبل بقلوب المعرضين، وذكر الغافلين، وآوى الشاردين.
وإذا أوقع سبحانه عقاباً أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه، ودعوة العبد إلى الرجوع إليه مرة بعد مرة.
حتى إذا أيس من استجابته أخذه ببعض كفره وعتوه وتمرده، بحيث يعذر العبد من نفسه، ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه، وأنه هو الظالم لنفسه كما قال سبحانه: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 11].
فهو سبحانه لكمال حكمته وعدله، يضع العقوبة في موضعها الذي لا يليق به غيرها، فوضعه في الموضع الذي يقول من علم الحال لا تليق العقوبة إلا بهذا المحل، ولا يليق به إلا هذه العقوبة.
وقد أخبر الله عزَّ وجلَّ في كتابه أنه أهلك أعداءه، وأنجى أولياءه، ولا يعمهم بالهلاك بمحض المشيئة والإرادة، بل بسبب عملهم كما قال سبحانه: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)} [الفرقان: 37].
وقال عن فرعون وقومه: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)} [الزخرف: 55].
وقال عن عاد حين كذبوا هوداً (: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [الشعراء: 139].
وقد ضمن الله عزَّ وجلَّ زيادة الهداية للمجاهدين في سبيله، والمتقين الذين يتبعون رضوانه، وأخبر أنه لا يضل إلا الفاسقين: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} [البقرة: 26، 27].
وأنه إنما يضل من آثر الضلال واختاره على الهدى، فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه، وأنه يقلب قلب من لم يرض بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به ودفعه ورده، فيقلب فؤاده وبصره عقوبة له على رده، ودفعه لما تحققه وعرفه.
وأنه سبحانه هو العليم الحكيم الذي لو علم في تلك المحال والنفوس التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيراً لأفهمها وهداها، ولكنها لا تصلح لنعمته، ولا تليق بها كرامته، فهم شر الدواب كما قال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 22، 23].
وقد أزاح سبحانه العلل، وأقام الحجج، ومكن من أسباب الهداية، فمن أقبل على الله هداه، ووفقه لما يحبه ويرضاه، ومن أعرض عنه، فإن الله لا يهدي القوم الكافرين ولا الظالمين ولا الفاسقين، ولا يطبع إلا على قلوب المعتدين، ولا يركس في الفتنة إلا المنافقين بكسبهم، وأن الرين الذي غطى به قلوب الكفار هو عين كسبهم وأعمالهم كما قال سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14].
وأخبر سبحانه أنه لا يضل من هداه حتى يبين له ما يتقي، فيختار لشقوته وسوء طبيعته الضلال على الهدى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)} [التوبة: 115].
وأما المكر والكيد والخداع الذي وصف به نفسه، فهو مجازاته للماكرين والكائدين، والمخادعين لأوليائه ورسله، فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء، لأنه عدل ومجازاة.
وكذلك الكيد والمخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه وكيدهم، فلا أحسن من تلك المخادعة والمكر كما قال سبحانه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30].
وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيدخل النار، فهذا عمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملاً صالحاً مقبولاً للجنة قد أحبه الله ورضيه، لم يبطله عليه، فقد يكون به آفة كامنة خذل بها في آخر عمره، والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض.
والله تبارك وتعلى يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا يعلمه الملائكة، فلما أمرهم بالسجود لآدم، ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة، والخشية والانقياد، وبادروا إلى الامتثال، وأظهر ما في قلب عدوه إبليس من الكبر والغش والكفر والحسد، فأبى وامتنع من السجود لربه كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34].
وأما خوف أوليائه من مكره فحق، فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم فيصيرون إلى الشقاء، فخوفهم من ذنوبهم، ورجاؤهم لرحمته.
والذي يخافه العارفون بالله من مكره، أن يؤخر عنهم عذاب المعاصي، فيأنسوا بالذنوب، فيأتيهم العذاب على غرة، أو أن يغفلوا عنه، وينسوا ذكره، فيتخلى عنهم إذا تخلوا عن ذكره وطاعته، فيسرع إليهم البلاء والفتنة، أو أن يعلم من ذنوبهم ما لا يعلمونه، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون، أو يبتليهم بما لا صبر لهم عليه فيفتنون به، وذلك مكر.
ومن علم الله منه أنه لا يؤمن، ولا يصلح للهداية، فإنه لا يؤمن ولو جاءته كل آية كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس: 96، 97].
ومن ضل عن قبول الحق والاهتداء به.. فهذا إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به.. وأن محله غير قابل له.. فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه.. كما هوأعلم حيث يجعل رسالته.
وكما أنه ليس كل محل أهلاً لتحمل الرسالة، وأدائها إلى الخلق، فليس كل محل أهلاً لقبولها والتصديق بها: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53].
وتأمل حكمة الرب جل جلاله في عذاب الأمم السابقة بعذاب الاستئصال، لما كانو أطول أعماراً، وأعظم قوى، وأعتى على الله وعلى رسله.
فلما تقاصرت الأعمار وضعفت القوى، رفع الله عذاب الاستئصال، وجعل عذابهم بأيدي المؤمنين.
وما أعظم حكمة الرب جل جلاله في إرسال الرسل في الأمم واحداً بعد واحد.. كلما مات رسول خلفه آخر.. لحاجتها إلى تتابع الرسل والأنبياء.. لضعف عقولها.. وعدم اكتفائها بآثار شريعة الرسول السابق.
فلما انتهت النبوة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -.. أرسله إلى أكمل الأمم عقولاً ومعارف.. وأصحها أذهاناً.. وبعثه بأكمل شريعة ظهرت في الأرض.
فأغنى الله الأمة بكمال رسولها، وكمال شريعته، ووكلهم بها حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ومن وراءهم، ومن بعدهم إلى يوم القيامة، فلم يحتاجوا معه إلى رسول آخر ولا نبي ولا محدّث.
فسبحان الخلاق العليم، العزيز الحكيم، البصير بأحوال خلقه وملكه، الذي له في كل ذرة في هذا الكون فما فوقها:
خلق من خلقه.. وقضاء من قضائه.. وأمر من أمره.. وحكمة من حكمه.
فتبارك الله أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين.
مختارات