فقه درجات الآخرة - الجزء الاول
فقه درجات الآخرة
قال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} [الأنعام: 132].
وقال الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} [الإسراء: 21].
وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)} [طه: 75].
لا يدخل أحد الجنة بعمله، ولكن برحمة الله كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «لَنْ يُدْخِلَ أحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ». قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «لا، وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ الْمَوْتَ: إِمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ أنْ يَزْدَادَ خَيْراً، وَإِمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعْتِبَ» متفق عليه
وتوزع الدرجات في الآخرة على حسب الحسنات، والسيئات التي يعملها الإنسان في الدنيا.
وتتفاوت درجات الناس في الآخرة كما يتفاوتون في الدنيا.
والناس في الآخرة على أربع درجات:
الفائزون.. والناجون.. والمعذبون.. والهالكون.
ومثال ذلك كأن يستولي ملك من الملوك على إقليم من الأقاليم ليقيم فيه العدل بين أهله.
فهذا الملك العادل له مع أهل هذا الإقليم أربعة أحوال:
فهو لا يقتل منهم إلا الجاحد المعاند في أصل الولاية.
ولا يعذب إلا من قصر في خدمته مع الاعتراف له بالملك.
ولا يخلِّي إلا معترفاً له بالملك ولم يقصر.
ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة.
وكل واحد من هؤلاء الأقسام متفاوت في النعيم والعذاب، وعبور الصراط حسب أعمالهم وأحوالهم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ! سَلِّمْ، سَلِّمْ».
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الْجِسْرُ؟ قال: «دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ وَحَسَكٌ، تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ، كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» متفق عليه
وأما اختلاف العذاب بالشدة فلا نهاية لأعلاه، وأدناه التعذيب بالمناقشة في الحساب، كما أن الملك قد يعذب بعض المقصرين في الأعمال بالمناقشة في الحساب ثم يعفو، وقد يضرب بالسياط، أو يعذب بغيرها من أنواع العذاب.
وأهل السعادة متفاوتون في النعيم كذلك على حسب أعمالهم في الدنيا.
فالمؤمن إذا أدى الفرائض واجتنب الكبائر، ولم يكن منه إلا صغائر متفرقة لا يصر عليها فيشبه أن يعفى عنه كما قال سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء: 31].
وهذا إما أن يُلحق بالمقربين، أو بأصحاب اليمين، وذلك بحسب إيمانه ويقينه، فإن قل أو ضعف دنت منزلته، وإن زاد أو قوي علت منزلته.
والمقربون يتفاوتون بحسب تفاوت معرفتهم بالله تعالى.
ودرجات العارفين في معرفة الله، ومعرفة عظمته، ومعرفة آلائه، ومعرفة دينه لا تنحصر، بل هي متفاوتة؛ لأن بحر المعرفة لا ساحل له، وإنما يغوص فيه الغواصون بقدر قواهم:
فأعلى درجات أصحاب اليمين أدنى درجات المقربين.
فهذا حال من أدى الفرائض واجتنب الكبائر.
أما من ارتكب كبيرة أو كبائر:
فإن تاب توبة نصوحاً قبل موته التحق بمن لم يرتكب تلك الكبيرة؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وإن مات قبل التوبة فأمره خطير، فربما يكون إصراره على الذنب سبباً لسوء خاتمته، وعذاب الميت من غير توبة يكون بحسب قبح الكبائر، ومدة الإصرار، وتنوع الكبائر.
ثم ينزل البُلْهُ المقلدون الجنة، وينزل العارفون المستبصرون أعلى عليين.
والله قد يعفو عن العاصي وإن كثرت سيئاته الظاهرة، وقد يغضب على المطيع وإن كثرت طاعاته الظاهرة، فإن الاعتماد على التقوى، والتقوى في القلب، وأحوال القلب قد تخفى على صاحبه فكيف على غيره.
وفي الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، أوْ جَلَسَ فِي أرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا». فَقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -أَرَاهُ-فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري
والله عزَّ وجلَّ بمنه وكرمه يرفع المؤمنين من ذرية العبد إلى درجته وإن كانوا دونه في العمل كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} [الطور: 21].
وأما الناجون: ونعني بالنجاة السلامة، وهم قوم لم يَخْدِموا فَيُخلع عليهم، ولم يُقصروا فيعذبوا.
ويشبه أن يكون هذا حال المجانين، وأولاد الكفار، والذين لم تبلغهم الدعوة ونحوهم.
فلم يكن لهم معرفة ولا جحود، ولا طاعة ولا معصية، ويصلح أن يكونوا أهل الأعراف.
وأما الفائزون فهم العارفون، وهم المقربون السابقون، وهؤلاء الذين لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} [الواقعة: 10 - 12].
فسبحان الله ماذا ينتظر هؤلاء من المساكن الواسعة، والقصور الفاخرة، وألوان الطعام والشراب، والنعيم المقيم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17].
وهم متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم حسب معرفتهم بالله، وحسب أعمالهم الصالحة.
ويتفاوت الناس يوم القيامة في الدرجات والأحوال، والثواب والعقاب، بحسب الأعمال، وبحسب الإيمان والكفر، وبحسب الطاعات والمعاصي، ومن ذلك أن خِفَّة حِمْل العبد على ظهره وثقله إذا قام من قبره، فإنه بحسب خفة وزره وثقله، إن خف خف، وإن ثقل ثقل.
واستظلال العبد بظل العرش يوم القيامة، وبروزه للحر والشمس بحسب أعماله:
فمن استظل في هذه الدار بالإيمان والأعمال الصالحة، استظل يوم القيامة في ظل الرحمن.
ومن كان ضاحياً هنا للشرك والمعاصي ضَحَى هناك وبرز للحر الشديد.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفق عليه
مختارات