الـومـضـة الـرابـعـة : وتزودوا
الـومـضـة الـرابـعـة: وتزودوا:
قال عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه:
" ان لكل سفر زادا لا محالة، فتزودوا من الدنيا للاخرة وكونوا كمن عاين ما أعد الله تعالى من ثوابه وعقابه، ترغبون وترهبون، ولا يطولن عليكم الامد فتقسو قلوبكم، وتنقادوا لعدوكم، فانه – والله – ما بسط أمل من لا يدرى لعله لا يصبح بعد مسائه ولا يمسى بعد صباحه وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا فكم رأينا ورأيتم من كان بالدنيا مغترا، وانما تقر عين من وثق بالنجاة من عذاب الله، وانما يفرح من أمن من أهوال القيامة ".
وقال ابن الجوزى – رحمه الله -:
" عجبا لراحل مات وما تزود للرحلة، ولمسافر ماج وما جمع للسفر رحله، ولمنتقل الى قبره لم يتأهب للنقلة، ولمفرط فى أمره لم يستشر عقله..اخوانى، مر الاقران على مدرجة وخيول الرحيل للباقين مسرجة، سار القوم الى القبور هملجة وباتت أرواح من الاشباح مستخرجة، الى كم هذا التسويف والمجمجة، بضائعكم كلها بهرجة وطريقكم صعبة عوسجة، وستعرفون الخبر وقت الحشرجة ".
اى - والله – صدقت يا ابن الجوزى.. وسبحان الملك ! كم فضل علم السلف على علم الخلف.
انظر الى كلام الرجل ترى رجلا خبر وسبر، فتكلم عن رؤية ونظر.
فانطلق فى رحلتك على بصيرة وكفاك مجمجة ولجلجة وعوججة.
واعلم – أخى الحبيب- أن من بركات السفر الى الله - تعالى – ما يتم به من اسباغ النعمة على العبد وما قد يفتح الله على عباده من أبواب وخزائن النعم، وما يتفضل به على عباده من الرحمة التى لا تخطر على بال بشر الا من عاش لذتها وارتشف من معينها.
سبيل التزود:
1- التوحيد والايمان:
اننى – أيها الحبيب – حين طالبتك بالتزود والتفت عنى بزعم أنك لا تملك فترك الشيطان بالفت فى عضدك بادعاء انك لله عاص..لم اطالبك حين طالبتك من الزاد غير:التوحيد والايمان..ثم يعطى الله البركة فيهما للمسافرين ويمحق البركة من الجهلة البطالين.
ان حلاوة الايمان اعظم زاد فى هذه الرحلة ولا يتذوق حلاوة السير ولذة هذا العيش الا من كان له نصيب بمعرفة الله وتوحيده وعاش حقائق الايمان وجرب هذه اللذه..
" فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت و النعيم الذى لايمكن التعبير عنه انما هو فى معرفة الله – سبحانه وتعالى – وتوحيده والايمان به وانفتاح الحقائق الايمانيه والمعارف القرانيه،كما قال بعض الشيوخ: لقد كنت فى حالة اقول فيها: ان كان اهل الجنة فى هذه الحال انهم لفى عيش طيب، وقال اخر: لتمر على القلب اوقات يرقص فيها طربا " ويقول الاخر مع فقره: لو علم الملوك وابناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا بالسيوف.. اللهم لا تحرمنا لذة الايمان وطعم الايمان وحلاوة الايمان.. امين.
2- اليــقيـن:-
وانا انما اقصد – ايها الحبيب – انه فى البدايه يكفى من الزاد اليسير ثم ببركة الله – تعالى – يبارك فى القليل فيصير كثيرا.. فتزود لهذا السفر ابتداء بعدة هى اليقين..
يقول ابن القيم – عليه رحمه الله -:
" فى الطريق اوديه وشعوب، وعقبات ووهود، وشوك وعوسج و وعليق وشبرق، ولصوص يقتطعون الطريق على السائرين.. ولا سيما اهل الليل المدلجين.. فاذا لم يكن معهم عدد الايمان ومصابيح اليقين تتقد بزيت الاخبات، والا تعلقت بهم تلك الموانع. وتشبثت بهم تلك القواطع، وحالة بينهم وبين السير ".
فلابد ابتداء من يقين ينير لك الطريق.. فاليقين نور.. هذه هى العدة الثانية من الزاد.. اليقين فى الله تعالى، واليقين فى رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلا واليقين فى المنهج موصلا.
" ومتى وصل اليقين الى القلب امتلأ نورا واشراقا. وانتفى عنه كل ريب وسخط وهم وغم، فامتلأ محبتا لله وخوفا منه ورضا به وشكرا له وتوكلا عليه وانابه اليه. فهو مادة جميع المقامات والحامل لها " .
3-الـتقـوى:-
وتزود – ايها السائر – ايضا بتقوى الله فى السر والعلانية، فانها السبيل الاوحد للاخلاص.
وهى: طاعة الله بلزوم الامر والنهى، قال تعالى " وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ " (البقرة: 197).
تزودوا – ايها السائرون – كل ساعه، فان " الدنيا ليست بدار قرار، دار كتب الله عليها الفناء، وكتب على اهلها منها الظعن، فكم عامر موثق عما قليل يخرب، وكم مقيم مغتبط عما قليل يظعن فاحسنوا – رحمكم الله – منها الرحلة، فاحسن ما يحضر بكم من النقله، وتزودوا فان خير الزاد التقوى، انما الدنيا كفيء ظلال قلص فذهب، بينما ابن ادم فى الدنيا منافس.. ان الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، انها تسر قليلا، وتجر حزنا طويلا ".. اخوتاه، هنيئا لمن تزود من الدنيا الى الاخرة ومن المحطة العاجلة الى المحطة الاجلة، من ضيق المعاش الى سعه المعاد ومن دار الرحيل الى دار البقاء.
4- الاخـلاص:-
اما الاخلاص فنبأه عجيب وخطره عظيم.. وهو زادك الرابع الذى لا يصلح هذا الطريق الا به وهو اساس التزود ومنتهاه.. وحصر الوصول فى المخلصين، قال الله تعالى: " قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ " (ص: 82 - 83).
ومعلوم ان الاغواء للغاوين الذين عرفوا الطريق فلم يسلكوها.. فالناس ثلاثة:
راشد و ضال وغاو، فالراشد من عرف الطريق وسلكها، والضال من لم يعرف الطريق فضل عنها والغاوى هو الذى عرف الطريق ولم يسلكها.. فالاخلاص زاد خطر فتزود ايها السائر.
5- الـخـبيئـة:-
ومن الزاد خبيئة.. خبيئة من عمل صالح لم يطلع عليها بشر، يصلح للتوسل به فى محطات الطريق ومطباته، كما توسل الذين أووا الى الغار – فانطبقت عليهم الصخرة – بخبايا اعمالهم الخالصة.
6- الـصبـر:-
واخر الزاد الصبر.. الصبر فى الطريق.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. " السفر قطعة من العذاب " [متفق عليه].. فاذا كان سفر الدنيا يسبب المشقه والتعب فكيف بسفر الاخرة الذى فيه اللاواء والنصب ! ! قال الله تعالى " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ " (البلد:4).
قال الفخر الرازى: فى الكبد وجوه:
اما الاول: اى خلقناه اطوارا كلها شدة ومشقة، تارة فى بطن الام، ثم زمان الارضاع، ثم اذا بلغ ففى الكد فى تحصيل المعاش، ثم بعد ذلك الموت.
واما الثانى: وهو الكبد فى الدين، فقال الحسن: يكابد الشكر على السراء، والصبر على الضراء، ويكابد المحن فى اداء العبادات.
واما الثالث: وهو الاخرة فالموت هو مساله الملك وظلمة القبر ثم البعث والعرض على الله الى ان يستقر به القرار اما فى الجنة واما فى النار.
واما الرابع: وهو ان يكون اللفظ محمولا على الكل فهو الحق، وعندى فيه وجه اخر، وهو انه ليس فى هذه الدنيا لذة البتة، بل ذاك نظن انه لذة فهو خلاص عن الالم، فان ما يتخيل من اللذة عند الاكل فهو خلاص عند ألم الجوع، وما يتخيل من اللذات عند الملبس فهو خلاص عن ألم الحر والبرد، فليس للانسان الا ألم أو خلاص عن ألم وانتقال الى اخر، فهذا معنى قوله تعالى: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ " (البلد: 4).
فاعلم – ايها الحبيب – ان الله يختبر عبيده بالصبر، حتى تظهر جواهرهم، كما حصل للانبياء.
" وهذا نوح عليه السلام يضرب حتى يغشى عليه ثم بعد قليل ينجو فى السفينه ويهلك اعداؤه وهذا الخليل يلقى فى النار ثم بعد قليل يخرج الى السلامة وهذا الذبيح يضجع مستسلما ثم يسلم ويبقى المدح وهذا يعقوب عليه السلام يذهب بصره بالفراق ثم يعود بالوصول وهذا الكليم عليه السلام يشتغل بالرعى ثم يرقى الى التكليم ".
والصبر دواء وقد قال العلماء فى تعريفه: حبس للقلب عن التسخط، وحبس اللسان عن الشكوى فالطريق طويلة والمآسى على الطريق كثيرة والعلاج الصبر، فان المنبت لا ارضا قطع و ظهرا ابقى.. وما تباينت منازل اصحاب الهمم الا بتباينهم بطول الصبر حتى نهاية الطريق، فتزود ايها السائر.
وبعد: - فيا سعادة من استفاد من هذه البروق والانوار واستلهم من تلك الاشارات والتنبيهات، فعرف الطريق، وأبصر المسار وكان نعم المسافر فى قافلة المؤمنين.
مختارات