الإعجاز التّأثيريّ للقرآن الكريم
الحمد لله الّذي أنزل القرآن على عبده ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المنزل عليه هذا القرآن ليبيّنه للناس بأمر ربه { وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم }[1] فأزال معالم الوثنيّة والضلال، وأعلى منار التوحيد والإيمان وعلى آله وصحبه نجوم الهدى ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإنه أحقّ ما يشغل الباحثون، وأفضل ما يتسابق فيه المتسابقون مدارسة كتاب الله تعالى، ومداومة البحث فيه، والغوص عن لآلئه والكشف عن علومه وحقائقه، وإظهار إعجازه، وتجلية محاسنه، والدفاع عن ساحته ونفي الشكوك والريب فيه، والقرآن الكريم بحر لا يُدرَك غوره، ولا تنقضي عجائبه، فما أحقّ الأعمار أن تفنى فيه، والأزمان أن تنشغل به وكل ساعة يقضيها الباحث في النّظر في كتاب الله، والتّأمل فيه، أو في البحث فيما يتّصل به في سبيل الله وفي سبيل الإسلام.
والقرآن الكريم هو الآية الأولى للرسول صلى الله عليه وسلم، ودليله الأعظم على نبوّته ورسالته، وهو يحمل الدليل من ذاته على أنّه كلام الله تعالى أوحى به لنبيّه صلى الله عليه وسلم.
والقرآن الكريم قد تحدّى الناس كافّة، وطالبهم أن يأتوا بمثله لكنّهم لم يقدروا على ذلك، وبذلك عجزوا عن معارضته، فصار هو معجزة لهم.
إن إعجاز القرآن حقيقة قاطعة، وبدهيّة مقرّرة ولهذا الإعجاز القرآني وسيلة إلى هدف عظيم، وغاية سامية، وليس هدفاً بحد ذاته.
الهدف من دراسة إعجاز القرآن هو: إثبات مصدر القرآن الرباني، وأنّه كلام الله سبحانه وتعالى، وليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم، والإقرار بنبوّة محمد – بعثه الله رسولاً للعالمين. وإعجاز القرآن دليل واضح من أدلّة كثيرة على هذه المسألة العظيمة، التي هي أساس الإيمان: القرآن كلام الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله.
ولقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله دليلاً على صدق الرسالة وحجّة الرسول، وأودع فيه من الحكم والأسرار، ما يقضي المرء في تدبّرها الليل والنهار، وما يستحقّ أن يقطع في معرفتها الفيافي والقفار، ابتغاء رحمة ورضوان العزيز الغفّار، وقد سعد المسلمون الأوائل بتمسّكهم بتعاليمه، والسير على نهجه وطريقه، لذا سادوا العالم وعاشوا حياة هنيئة في الدنيا مع ما ينتظرهم من الثواب الجزيل في الآخرة.
وأسعد وقت يقضيه الإنسان في حياته هو الذي يعيش فيه مع القرآن بروحه وقلبه، ويجعله نبراساً يضيء حياته، وقبساً يمشي على ضيائه، ونوراً يوضّح له معالم المعرفة والهداية. وإذا اتّخذ الإنسان القرآن له أنيساً يتفهّم آياته وسوره، فإن القرآن سيفيض عليه من الروحانية والهداية ما يجعله كبير العقل، يفعل كل خير، وينتهي عن كل شر، يقول الله تعالى: { إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشّر المؤمنين الّذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجراً كبيراً }[2].
فالقرآن كتاب هداية ورشاد، يخرج الناس من ظلمات الشرك والجهل إلى نور معرفة الله والإيمان به والاستجابة له.
وما من يوم يطلع شمسه إلّا وعشرات يدخلون في دين الإسلام، لأنه دين الحق الّذي لا غموض فيه ولا أسرار ولا طلاسم ولا متناقضات.
وما حلّ الذّلّ والهوان بالمسلمين إلّا بسبب تنكّبهم عن طريق القرآن العزيز الذي { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد }[3].
وقد كثرت الدراسات والأبحاث حول القرآن الكريم خدمة له، ومحاولة لكشف مكنوناته، واستخراج درره، فمن باحث في تفسيره، إلى باحث في إعجازه، إلى باحث في علومه المتنوعة المتعددة، إلى باحث في قراءاته، إلى غير ذلك من الدراسات حول الكتاب العزيز التي غدا كل نوع منها علماً قائماص بذاته تزحر المكتبة الإسلامية بالمؤلّفات فيه. ولا غرو فكتاب الله تعالى، لا يستقصي معانيه فهم الخلق ولا يحيط بوصفه على الإطلاق ذو اللسان الطلق.
وتعدّدت المدارس والاتجاهات في دراسة إعجاز القرآن، وظهرت الكتب والدراسات والأبحاث الكثيرة المتعددة في بحث الإعجاز وفهمه ودراسته، وتباينت الآراء في تعليل إعجاز القرآن، بماذا كان معجزاً، ومن ثم اختلف العلماء على وجوه الإعجاز.
وقد أجمع الباحثون على القول بالإعجاز البياني وأن القرآن معجز ببلاغته وأسلوبه وبيانه وتعبيره، وأنه بهذا يقدّم شهادة عظيمة على المسألة، إثبات أن القرآن كلام الله تعالى.
وعد بعض الدارسين وجوهاً كثيرة للإعجاز، فقالوا بالإعجاز الغيبي، والإعجاز التاريخي، والإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، والإعجاز الطبي، والإعجاز النفسي، والإعجاز الفلكي، والإعجاز الجغرافي، وغير ذلك.
وقد أحببت أن أسهم في بشيء في خدمة كتاب الله تعالى، فكان هذا البحث حول الإعجاز التأثيري للقرآن الكريم وقد سرت فيه على هذه الخطّة:
1- تعريف الإعجاز التّأثيري – لغة واصطلاحاً.
2- نشأة الإعجاز التّأثيري وتطوّره، وآراء العلماء في ذلك من خلال حديث بعض العلماء في القديم والحديث عن هذا الوجه بالذات.
3- الإعجاز التأثيري من خلال الآيات القرآنية، وأثر القرآن الكريم في البشر والجن مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم وأثره على الجماد وسرّ تأثير القرآن الكريم على المخلوقات قاطبة وقائمة المصادر والمراجع.
وأدعو الله سبحانه أن يتقبّل منّي هذا العمل، وأن يتجاوز عما فيه من تقصير، وأن يكون مناراً لمن يبتغي الحقّ والهدى ولله الموفّق والهادي إلى سواء السبيل.
الإعجاز التأثيري للقرآن الكريم
معنى الإعجاز
المبحث الأول
تمهيد:
يجدر بنا أن نشير في هذا البحث إلى معنى كلمة (عجز) في كل من اللغة والاصطلاح، وقد يلحظ الباحث في معاجم اللغة العربية أن علماء اللغة – خاصّة أصحاب المعاجم – قد ركّزوا اهتمامهم على مصدر الكلمة وطرق الكشف عنها – أما المادّة الاشتقاقيّة فلم تنل حظّاً وافراً من حيث الترتيب الاشتقاقي.
الإعجاز لغة:
قال الراغب الأصفهاني في مفرداته (عجُزُ الإنسان): مؤخّره، وبه شبّه مؤخّر غيره، قال الله تعالى: { كأنّهم أعجاز نخل منقعر }[4].
والعجز أصله: التأخر عن الشيء وحصوله عند عجز الأمر أي مؤخّره، وصار في التعارف اسماً للقصور عن فعل الشيء وهو ضد القدرة.
وأعجزت فلاناً وعجّزته، وعاجزته، أي جعلته عاجزاً [5].
قال الله تعالى: { فاعلموا أنّكم غير معجزي الله }[6] وقال أيضاً { ما أنتم بمعجزين في الأرض }[7] هذا عن المعنى اللغوي للجذر الثلاثي للمادة (العجز).
أما الإعجاز (فهو مصدر الفعل الرباعي أعجز) فهنا فعلان:
الأول: فعل ثلاثي تقول: عَجَزَ، يَعْجِزُ، عجز، فهو عاجز بمعنى ضعف عن فعل الشيء وقصر عن التنفيذ وتأخّر عن العمل المطلوب ولم يقدر عليه.
الثاني: فعل رباعي نقول: أعجَزَ، يُعْجِزُ، عجزاً فهو معجز، بمعنى سبق وفاز. تقول أعجَزَ الرجل خصمه، بمعنى: فاته وسبقه وفاز عليه وغلبه، بحيث لم يستطع الخصم العاجز إدراكه واللحاق به[8].
معنى إعجاز القرآن:
كلمة إعجاز القرآن مركب إضافي وكلمة إعجاز مصدر: وإضافتها للقرآن الكريم من إضافة المصدر لفاعله، فكأنّ التقدير أعجز القرآن الناس أن يأتوا بمثله، ومعنى هذا أن القرآن الكريم دلّ بما فيه من بيان على أنّه من عند الله، وثبت عجز الناس عن أن يأتوا بمثله وهذا معناه أن القرآن صار معجزاً لهم حيث أوقع بهم العجز والضعف والقصور والتأخر وهو قد تفوّق عليهم وفاتهم وسبقهم.
وقد عرّفه القاضي عبد الجبار رحمه الله بقوله: (معنى قولنا في القرآن الكريم أنه معجِز أنه يتعذّر على المتقدّمين في الفصاحة فعل مثله، في القدر الذي اختصّ به) [9].
ويقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله (وإنما الإعجاز شيئان ضعف القدرة الإنسانية في محاولة المعجزة، ومزاولته على شدّة الإنسان، واتصال عنايته، ثم استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدّمه، فكأنّ العالم كلّه في العجز إنسان واحد ليس له غير مدّته المحدودة بالغة ما بلغت) [10].
وقد عرّفه الدكتور صلاح الخالدي حيث قال: (هو عدم قدرة الكافرين على معارضة القرآن وقصورهم عن الإتيان بمثله، رغم توفّر ملكيّتهم البيانية وقيام الداعي على ذلك وهو استمرار تحدّيهم وتقرير عجزهم عن ذلك) [11]
وممكن تعريفه بأنه (عجز المخاطبين بالقرآن وقت نزوله ومن بعدهم إلى يوم القيامة من الإتيان بمثل هذه القرآن مع تمكّنهم من البيان وتملّكهم لأسباب الفصاحة والبلاغة وتوفّر الدواعي واستمرار البواعث).
وإعجاز القرآن الكريم للمنكرين له يدلّ على أنّه من عند الله تعالى وليس كلام أي مخلوق آخر فلو كان كلام بشر لما عجز المنكرون عن معارضته.
والخلاصة: إن الإعجاز لغة واصطلاحاً قد جاءا متقارباً وذلك في بعض المعاني كالضعف والتثبيط والتقصير وما وقع في تلك الدائرة من معان.
المعجزة في القرآن الكريم:
ورد في القرآن الكريم استعمال مشتقات كلمة (عجز) نحو ست وعشرين مرة لكنه لم يرد استعمال مصطلح معجزة ولا (إعجاز) في القرآن الكريم ولا في السنة ولم يكن معروفاً هذا الاصطلاح في عهد النبوة والصحابة والتابعين إنما عُرف في أواخر القرن الثاني تقريباً[12].
وأطلق القرآن الكريم على المعجزة عدّة مسمّيات منها:
1-الآية: قال الله تعالى: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنّن بها قل إنّما الآيات عند الله وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون }[13]
2-البيّنة: قال موسى عليه السلام لفرعون { قد جئتكم ببيّنة من ربّكم فأرسل معي بني إسرائيل }[14]
3-البرهان: قال الله تعالى: { يا أيّها الناس قد جاءكم برهان من ربّكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً }[15]
4-السلطان: قال الله تعالى: { وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله }[16] وقال أيضاً:{ ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه }[17] [18].
أما التأثيري:
فهو مركّب إسنادي من أثر الشيء: أي حصول ما يدلّ على وجوده، يقال: أثر الشيء وأثر، والجميع آثار، يقول الله تعالى: { ثم قفينا على آثارهم برسلنا}[19]، ويقول { وآثاراً في الأرض }[20] ويقول { فانظروا إلى آثار رحمة الله }[21]. ومن هذا يقال للطريق المستدل من تقدّم آثار { فهم على آثارهم يهرعون }[22] ويقول { هم أولاء على أثري }[23].
وأثرت البعير: جعلت على خفّه أثره، أي علامة تؤثّر في الأرض ليستدلّ بها على أثره، وأثرت العلم: رويته، أثراً، وإثاره، وأثره، وأصله: تتبعت أثره.[24]
والخلاصة: فالتأثيري في اللغة مأخوذ من الأثر والنتيجة، والمحصلة الدالّة على وجود مؤثّر سواء أكان المؤثر حيّاً كما في قولهم (أثرت البعير) أم معنويّاً كما في قول الله تعالى: { فانظروا إلى آثار رحمة الله }. والآثار هي اللوازم المعلّقة بالشيء [25]، أو جملة الأمور التي تنتج عن الشيء المسبب لها.
اصطلاحاً: الإعجاز التأثيري للقرآن: هو (وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم أشار إليه السابقون، ويتمثّل فيما يتركه القرآن الكريم من أثر ظاهر أو باطن على سامعه أو قارئه ولا يستطيع هذا السامع أو القارئ مقاومته ودفعه ولا يقتصر ذلك على المؤمنين به).[26]
أو هو تأثير القرآن الكريم في النفس الإنسانية عندما تسمعه، وتفاعلها معه حتى لو كانت نفساً كافرة.[27]
المبحث الثاني
نشأة الإعجاز التأثيري وتطوّره:
تستطيع أن تميّز هنا بين مرحلتين من مراحل نشأة الإعجاز التأثيري وتطوّره.
المرحلة الأولى: مرحلة النشأة:
تتمثل نشأة هذا الوجه الإعجازي للقرآن الكريم بنزول القرآن نفسه اتصالاً مباشراً وذلك لما يلي:
أولاً: أمر الله تعالى في كتابه الحرص على إسماع المشركين القرآن الكريم ليكون ذلك عوناً على دعوتهم للإسلام. قال ابن حجر (ولا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله تعالى معجز لم يقدر أحد على معارضته بعد تحدّيهم بذلك، قال الله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثمّ أبلغه مأمنه }[28] فلولا أن سماعه حجّة عليه لم يقف أمره على سماعه ولا يكون حجّة إلّا وهو معجز.[29] والمعجزة لابد لها من أثر في من تعجزه إما تصديقاً أو تكذيباً.
ثانياً: ما ورد في كتب السيرة والتفسير وأغلب الكتب التي تتناول قضية الإعجاز عن لجوء رسول الله صلى الله عليه وسلم لإعجاز القرآن التأثيري كوسيلة أساسية من أسس الدعوة للإسلام وظهور أثر هذه الوسيلة الفعّال في كل من استعملت معه.
إما قبولاً واعتناقاً للإسلام أو نفوراً وإعراضاً عنه أو إقراراً لإعجاز القرآن في حاله.
ثالثاً: إن الإعجاز التأثيري في هذه المرحلة وهي مرحلة النشأة الأولى يتمثّل في الممارسة والسّلوك العمليّ للإعجاز نفسه دون التّأليف فيه أو وضع قواعد أو أصول له، وإنما تدلّ الشواهد الكثيرة على ممارسته في حياة المسلمين. وبعد قرنين من الزمان وفي أوائل القرن الثالث الهجري أشار الجاحظ من خلال حديثه عن الإعجاز البلاغي للقرآن إشارات خاطفة للإعجاز التأثيري [30] وكذلك فعل الرماني في منتصف القرن الرابع.
المرحلة الثانية: مرحلة التأهيل العلمي للإعجاز التأثيري:
كثير من علماء التفسير والقرآن والبلاغة في القديم والحديث لاحظوا تأثير القرآن الكريم في القلوب وأثره في النفوس فاعتبروا ذلك التأثير من وجوه إعجاز القرآن وعبّروا عنه بعبارات متفاوتة وسأقف مع عدد من العلماء في القديم والحديث ممّن تحدّثوا عن الإعجاز التأثيريّ.
الخطابي أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي – ت 388هـ.
وكان أوّل من اعتبر هذا التأثير القرآني وجهاً خاصّاً من وجوه الإعجاز هو الإمام الخطّابي فقد نص عليه نصّاً في رسالة (بيان إعجاز القرآن) فقال (قلت في إعجاز القرآن وجهاً آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذّ من آحادهم وذلك حيفة بالقلوب، وتأثيره في النّفوس فإنّك لا تسمع كلاماً غير القرآن، منظوراً ولا منثوراً، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللّذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى، ما يخلص منه إليه تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور حتى إذا أخذت حظّها منه عادت إليه مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق تغشّاها الخوف والفرق، تقشعرّ منه الجلود وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها.
فكم من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم من رجال العرب، أقبلوا يريدون اغتياله وقتله فسمعوا آيات القرآن فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحوّلوا عن رأيهم الأوّل وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة وكفرهم إيماناً [31]
ابن قيّم الجوزيّة ت 75 ورأيه في الإعجاز التأثيري:
يبيّن ابن قيّم الجوزيّة ما يقع في النفوس عند تلاوته وسماعه من الورعة ما يملأ القلوب هيبة والنفوس خشية، وتستلذ الأسماع وتميل إليه بالحنين الطباع، سواءً أكانت فاهمة لمعانيه أم غير فاهمة، وسواءً أكانت كافرة بما جاء به أم مؤمنة.
يقول في كتابه (الفوائد)[32] (إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله قال الله تعالى { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد }) [33]
وذلك أن تمام التأثير لما كان له موقوفاً على مؤثر مقتفى ومحل قابل وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه، تضمّنت الآية بيان ذلك كلّه بأوجز لفظ وأبينه وأدلّة على المراد بقوله { إن في ذلك لذكرى } إشارة إلى ما تقدّم من أوّل السورة إلى هاهنا وهذا هو المؤثّر، وقوله { من كان له قلب } فهذا هو المحل القابل والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله، كما قال الله سبحانه وتعالى: { إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيّاً }[34] أي حيّ القلب وقوله تعالى { أو ألقى السمع وهو شهيد } أي وجه سمعه وأصفى حاسّة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التّأثير بالكلام وقوله (وهو شهيد) أي شاهد القلب حاضراً غير غائب، أي استمع إلى كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم، وليس بغافلٍ ولا ساه، وهو إشارة إلى المانع من حصول التّأثير وهو سهو القلب وغيبته عن تعقّل عن ما يقال له والنظر في تأمّله.
فإذا حصل المؤثّر وهو القرآن، والمحلّ المقابل وهو القلب الحيّ ووجد الشرط وهو الإصغاء وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر حصل الأثر وهو الانتفاء بالذكر.
ثم يقول: فإن قيل: إذا كان التأثير إنما يتمّ بمجموع هذه الأشياء مما وجه دخول أداة أو في قوله { أو ألقى السمع }والموضوع موضوع واو الجمع لا موضع أو التي هي لأحد الشيئين؟ قيل: هذا سؤال جيد، والجواب عنه أن يقال: خرج الكلام باعتبار حال المخاطب المدعو فإنه من الناس من يكون حيّ القلب واعيه تامّ الفطرة فإذا فكر بقلبه وحال بفكره دلّه قلبه وعقله على صحّة القرآن، وأنه من الحقّ، وشهد قلبه بما أخبر القرآن.
فكان ورود القرآن على قلبه نوراً على نور الفطرة، وهذا وصف الذين قال فيهم القرآن: { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحقّ}[35].
من خلال هذا نرى رؤية ابن القيّم في مسألة التأثير، وكيفيّة حدوثها، وبيان أركانها وجوانبها، فإنه يرى أنها تقوم على أركان عدّة:
1- المؤثر القويّ (والمقصود به القرآن الكريم)
2- أداتا التلقّي (القلب والسمع)
3- رغبة السامع في تفهّم ما يسمع وتعقّله.
4- الخروج من شتّى الموانع، سواء أكانت انحرافات عقائدية، أم شبهات فكريّة، أم نزعات شهوانيّة، أم مكانة أدبيّة، أم منزلة اجتماعيّة، أم غير ذلك.
ومن الملاحظ أن ابن القيّم رحمه الله يتحدّث هنا عن دعوة المسلم للانتفاع بالقرآن الكريم، ولا ينصّ على ذكر الكافر وذلك فإنّه لا يكشف عن الجانب الأهمّ في إعجاز القرآن التّأثيريّ ألا وهو: أثره على الكافر.
بعد هذا العرض لرأي بعض الأقدمين عن الإعجاز التأثيريّ أعرض رأي بعض العلماء المحدثين حول هذا الوجه من وجوه الإعجاز لتظهر لنا مراحل تطوّره.
الدكتور عبد الكريم الخطيب ورأيه في الإعجاز التأثيري للقرآن الكريم:
تحدّث الدكتور عبد الكريم الخطيب عن إعجاز القرآن الكريم – بصفة عامّة – حديثاً طويلاً، متناولاً إيّاه من خلال آراء علماء البلاغة – الذين تناولوا وجوهه المتعدّدة، ووقف أمام وجه الإعجاز التأثيري للقرآن وقفات دقيقة، فنراه يحاول أن يكشف عن سرّ تأثير القرآن فيمن سمعه من المؤمنين والكافرين على حدّ سواء:
(إن كلمات القرآن التي كانت على فم الناس، كان لها رحلة إلى الملأ من الأرض إلى السماء من أفواه الناس إلى عالم الروح، والحق والنور، وهناك في هذا العالم / عالم الروح والحق والنور / عاشت تلك الكلمات دهراً طويلاً بين ملائكة، وولدان، وحور، فنفضت عليها هذه الحياة الجديدة، روحاً من روحها، وجلالاً من جلالها ونوراً من نورها، حتى إذا أذن لها الحكيم الخبير أن تعود أدراجها إلى الأرض وتلقى في أفواه الناس مرة أخرى، وتطرق أسماعهم، وتتصل بعقولهم وقلوبهم، لم ينكروا شيئاً من وجودها، وإن سرى إليهم من هذا الوجود ما يخطف الأبصار ويخلب الألباب، فالمؤمنون في شوق متجدد معه وفي خير متصل منه، وفي عطاء موصول من ثمره، كلما مدّوا أيديهم قطفوا من أدبه أدباً عالياً ومن علمه علماً نافعاً، ومن شريعته ديناً قيّماً، وغير المؤمنين في عجب من أمره ودهش. يتناولونه بألسنة حداد، ويرمونه بسهام مسنونة، وبكيد عظام، فما يصل إليه من كيدهم شيء)[36].
إن العبارة السابقة يحاول فيها الخطيب أن يضع أيدينا على هذا السر الذي جعل لكلمات القرآن على من يسمعه من الأثر الواضح ما لا نجده مما نسمعه من كلام آخر، فكلمات القرآن الكريم قد رحلت إلى الملأ الأعلى حيناً من الزمن، أعطاها هذا الرحيل سرّاً يخطف الأبصار، ويخلب الألباب، ويجعل المؤمنين به في شوق دائم لسماعه، وغير المؤمنين في عجب ودهش من أمره.
ويقول الدكتور الخطيب معلّقاً على كلام الإمام الخطّابي عن الإعجاز التأثيري للقرآن: (وهذا الوجه من وجوه الإعجاز هو – فيما نرى – المعجزة القائمة في القرآن أبداً، الحاضرة في كل حين، وهي التي تسع الناس جميعاً، عالمهم وجاهلهم، عربيّهم وأعجميّهم، إنسهم وجنّهم) { قل أوحي إليّ أنّه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنّا سمعنا قرآناً عجباً، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً }[37] [38]
ويعقّب الدكتور الخطيب تعقيباً على كلام ابن عطيّة عن وجوه الإعجاز فيقول: (وهذا هو سر الإعجاز وعظمته كلمات هن من كلام الناس ثم يفعلن هذا الأمر العجيب في النفوس، ويضمن هذا السلطان القاهر على القلوب)[39]
من خلال ما تقدّم نرى أن حديث الدكتور الخطيب عن الإعجاز يرتكز بصورة أساسيّة على ما يحدثه القرآن من أثر في النفوس كما رأينا ذلك واضحاً في مقارنة بين أثر كلام البشر وكلمات القرآن على النفوس البشريّة المؤمنة بالقرآن والمنكرة له على السواء.
إن آيات القرآن الكريم والأحاديث النبويّة الشريفة ومواقف الصحابة بل وما في واقع الحياة البشريّة في عصرنا الحالي وكلّ ما ذكره الدكتور تثبت وترصد مظاهر هذا الوجه من وجوه الإعجاز في حياة البشر وتؤكد اختياره له[40].
إن الدكتور الخطيب ذهب إلى أكثر من الاختيار لوجه الإعجاز التأثيري للقرآن الكريم إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما أخذ يبيّن مزايا هذا الوجه دون سواه فهذا الوجه يمتاز عن سائر وجوه الإعجاز بأنّه:
1- المعجزة القائمة في كل حين.
2- أنها تسع الناس جميعاً عالمهم وجاهلهم.
3- أنها تسع لكل لغاتهم عربيهم وعجميهم.
4- أنها لا تقتصر على الإنس وحدهم بل وتسع الجن أيضاً.
4. الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ورأيه في الإعجاز التأثيري:
لقد أفرد الشيخ محمد الغزالي في كتابه (نظرات في القرآن) فصلاً كاملاً عن الإعجاز في القرآن الكريم، ويرى فيه أن إعجاز القرآن يبرز في وجوه ثلاثة (الإعجاز النفسي، الإعجاز العلمي، الإعجاز البياني) ومن خلال حديثه عن الإعجاز النفسي التأثيري نراه يتمثّل في نقاط أربع:
1- مكانة الإعجاز التأثيري
2- تأثير القرآن في المؤمن والكافر
3- من وسائل تأثير القرآن: تقديم الدليل المفحم على كل شبهة، تعريف الأمثال.
4- مواضع التأثّر بالقرآن.
وحديث الشيخ عن الإعجاز النفسي والتأثيري جاء مرسلاً دالّاً على سجيّة مؤلفه ويحمل في طواياه هذه النقاط الأربع السابقة، ونتلمس النقطة الأولى من حديث الشيخ عن الإعجاز النفسي فبعد أن يتحدّث عمّا يعرض له القرآن من عقائد دينيّة وأحكام تشريعية وحقائق علمية يقول: (قد تجد في القرآن حقيقة مفردة، ولكن هذه الحقيقة تظهر في ألف ثوب، وتتوزّع تحت عناوين شتّى، كما تذوق السكر في عشرات الطعوم والفواكه وهذا التكرار مقصود، وإن لم تزد به الحقيقة العلميّة في مفهومها، ذلك أن الغرض ليس تقرير الحقيقة فقط، بل بناء الأفكار والمشاعر ونقاط مؤلفه آخر ما تختلفه اللجاجة من شبهات......، ثم الكرّ عليها بالحجج الدامغة حتى تبقى النفس وليس أمامها مفرّ من الخضوع لمفهومها للحق والاستكانة لله وعندي أن قدراً من إعجاز القرآن الكريم يرجع إلى هذا)[41]
تلك هي مكانة الإعجاز التأثيري عند الشيخ فإن كان للقرآن الكريم وجوه إعجاز أخرى غير أنها لا تصل في قدرها وأهميّتها إلى الإعجاز التأثيري للقرآن الكريم في نفس الإنسان ولكن هل يتأثّر كل إنسان بالقرآن؟ أم يقتصر هذا التأثير على المؤمنين به؟ ويرد أمامنا على هذا التساؤل بما يؤكد مكانة الإعجاز التأثيري بين وجوه الإعجاز، وعدم اقتصاره على نفس إنسانية دون أخرى فيقول:
(فما أظن امرءاً سليم الفكر والضمير يتلو القرآن ويستمع إليه ثم يزعم أنه لم يتأثر به، قد تقول: ولم يتأثر به؟ والجواب: أنه ما من هاجس يعرض للنفس الإنسانية من ناحية الحقائق الدينية إلا ويعرض له القرآن بالهداية وسداد التوجيه، ما أكثر ما يعزّ المرء من نفسه، وما أكثر الذين يمضون في سبل الحياة هائمين على وجوههم، ما تمسكهم بالدنيا إلا ضرورات المادة فحسب.
إن القرآن الكريم بأسلوبه الفريد يردّ الصواب إلى أولئك جميعاً وكأنه عرف ضائقة كل ذي ضيق وزلّة كل ذي زلل ثم تكفّل بإزاحتها كلّها، كما يعرف الراعي آية تاهت خرافه، فهو يجمعها من هنا وهناك لا يغيب عن بصره ولا عن عطفه واحدة منهم.
وذلك سر التعميم في قوله تعالى { ولقد صرفنا في هذا القرآن من كلّ مثل }[42] حتى الذين يكذبون بالقرآن ويرفضون الاعتراف بأنه من عند الله أنهم يقضون منه مثلما يقف الماجن أمام أب ثاكل، قد لا ينخلع من مجونه الغالب عليه ولكنّه يؤخذ فترة ما يصدّ من العاطفة الباكية أو مثلما يقف الخلي أما خطيب يهدر بالصدق ويحدث العميان عن اليقين الذي يريد ولا يرون أنه قد يرجع مستهزئاً، ولكنه يرجع بغير النفس التي جاء بها.
والمنكرون من هذا النوع لا يطمعون في التأثير النفساني للقرآن الكريم، كما أن العميان لا يطعنون في قيمة الأشعة ولذا يقول الله عز وجل: { الله نزّل أحسن الحديث }[43] [44]
وبذلك يكون الشيخ رحمه الله قد تناول النقطة الثانية التي يتأكّد من خلالها إعجاز القرآن التأثيري في المؤمنين والكافرين به على حد سواء، وفي النقطة الثالثة يبرز الشيخ في بعض أسرار التأثير القرآني في الإنسان فيقول: (إن القرآن يملك على الإنسان نفسه بالوسيلة الوحيدة التي تقهر تفوّقه في الجدل أي بتقديم الدليل المفحم لكلّ شبهة، وتسليط البرهان القاهر على كل حجّة، فالنكوص عن الإيمان بعد قراءة القرآن يكون كفراً عن تجاهل لا عن جهل ومن تقصير لا عن قصور، والجدل آفّة نفسيّة وعقليّة معاً، فالنشاط الذهنيّ للمجادل يمدّه حراك نفسي خفيّ، فلما يهدأ بسهولة.... ويستكمل الشيخ بيانه عن وسائل القرآن التي تسبّب التأثير في النفس الإنسانية فيقول: (إن طبيعة هذا القرآن لا تلبث أن تعتبر برودة الإلف وطول المعرفة فتتعرى أمام النفوس، وتنسلخ من ثكلتها وتصنّعها، وتنزعج من ذهولها وركودها وتجد نفسها أمام الله – جل شأنه – يحيطها ويناقشها، ويعلمها ويؤدّبها فما تستطيع أمام صوت الحق المستعلن العميق إلّا أن تخشع وتصيخ.[45]
ثم يقول وكما قهر القرآن نوازع الجدل في الإنسان وسكن لجاجته، تغلب على مشاعر الملل فيه وأمدّه بنشاط لا ينفذ والجدل غير الملل، هذا تحرّك ذهني قد يجد الأوهام ويحوّلها إلى حقائق وهذا موات عاطفي قد يجمّد المشاعر فما تكاد تتأثّر بأخطر الحقائق وكثير من الناس يصلون في حياتهم العادية إلى هذه المنزلة من الركود العاطفي فنجد لديهم بروداً غريباً بإزاء المثيرات العاصفة، لا عن ثبات وجلادة بل عن موت قلوبهم وشلل حواسّهم، والقرآن الكريم في تحدّثه للنفس الإنسانية – حارب هذا الملل وأقصاه عنها إقصاء وعمل على تجديد حياتهم بين الحين والحين، حتى أنهم ليمكنها أن تستقبل في كل يوم ميلاداً جديداً (وكذلك أنزلناه قرآناً عربيّاً وصرفنا فيه من الوعيد لعلّهم يتّقون أو يحدث لهم ذكراً) [46] [47]
ومن وسائل القرآن التأثيرية: الترغيب والترهيب، حيث يقول الشيخ (والشعور بالرغبة والرهبة والرقّة تعمرك وأنت تستمع إلى قصص الأولين والآخرين تروى بلسان الحق ثم يتبعها فيض من المواعظ والحكم والمغازي والعبر تقشعرّ منه الجلود [48].
ويتبيّن لنا أنّه تناول الإعجاز التأثيري من جوانب أربعة ولعلّ أهمّها جميعاً هو بيان ما في القرآن من وسائل تأثيريّة والتي أورد فيها تفصيلاً وتعليلاً لم نره عند كثير من السابقين.
سيد قطب ورأيه من تأثير القرآن الكريم:
يقول الشهيد قطب عن تأثير القرآن الكريم (إن في هذا القرآن، سراً يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداء، قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها.
إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن، يشعر أن هنالك شيئاً ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير، وأن هناك عنصراً ما ينسكب في الحسن بمجرد الاستماع لهذا القرآن يدركه بعض الناس واضحاً، ويدركه بعض الناس غامضاً ولكنه على كل حال موجود هذا العنصر الذي ينسكب في الحس يصعب تحديد مصدره:
أهو العبارة ذاتها؟ أهو المعنى الكامن فيها؟ أهو الصور والظلال التي تشعّها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميّز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللّغة؟
أهي هذه العناصر كلها مجتمعة؟ أم إنها هي وشيء آخر وراءها غير محدود؟
ذلك سر مودع في كلّ نصّ قرآنيّ، يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداء ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبّر والنّظر والتّفكير في بناء القرآن كله)[49]
إن سرّ تأثير القرآن في النفس البشرية فيه كله، فكلّ جوانب العظمة والسموّ فيه، ألفاظه ومعانيه، وصوره، وظلاله، وإيقاعه، وأسلوبه، وشيء آخر بالإضافة إلى كلّ ذلك.
ويقول رحمه الله للقرآن تأثير عجيب على النفوس وسلطان قويّ على القلوب: (ويبقى وراء ذلك السرّ المعجز في هذا الكتاب العزيز، يبقى ذلك السلطان الذي له على الفطرة متى خلي بينه وبينها لحظة – وحتى الذين رانت على قلوبهم الحجب وثقل فوقها الركام تنتفض قلوبهم أحياناً وتتململ، وتحت وطأة هذا السلطان وهم يستمعون إلى هذا القرآن.
إن الذين يقولون كثيرون، وقد يقولون كلاماً يحتوي على مبادئ ومذاهب وأفكار واتجاهات، ولكن هذا القرآن ينفرد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم فيما يقول: (إنّه قاهر غلّاب بذلك السلطان الغلّاب)[50]
إن للقرآن سرّاً خاصّاً على النفوس حتى يبلغ أن يؤثّر بتلاوته المجرّدة على الذين لا يعرفون العربية، وعلى العوام الذين يسمعون إلى تلاوته لا يطرق عقولهم منه شيء، لكن يطرق قلوبهم إيقاعه ويظهر على ملامحهم سره، إن كل آية وكل سورة تنبض بالعنصر المستكن العجيب المعجز في هذا القرآن، وتشي بالقوّة الخفيّة المودعة في هذا الكلام، وإن الكيان الإنساني ليهتزّ ويرتجف ولا يملك التماسك أمام هذا القرآن كلّما تفتّح القلب، وصفى الحسّ، وارتفع الإدراك، وارتقت حساسيّة التّلقّي والاستجابة، وإنّ هذه الظّاهرة لتزداد وضوحاً كلّما اتّسعت ثقافة الإنسان.[51]
ولذلك نرى سيّد قطب رحمه الله تعالى قد تناول الإعجاز التأثيري حيث بيّن ما للقرآن الكريم من وسائل وقوّة تأثيريّة كبيرة على النفوس المؤمنة وغير المؤمنة.
المبحث الثالث
الإعجاز التأثيري من خلال الآيات القرآنية وبعض المواقف من السيرة النبوية:
إن تأثير القرآن الكريم في القلوب قد بلغ مبلغاً عظيماً لم يعرف قبله ولا بعده كلام قط، إذ تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم روعة وخشية وتعتريهم هيبة وتهيمن عليهم عظمته، ونرى آثاره على الجاحدين أبلغ وأظهر، إذ يقرّعهم عن ضلالهم ويقيم عليهم حججاً لا معقّب لها فيستثقلون سماعه ويتولّون عنه بنفور مدبرين كما أخبر الله تعالى عنهم { ولقد صرّفنا في هذا القرآن ليذّكروا وما يزيدهم إلّا نفوراً }[52]. وقال أيضاً: { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفوراً }.[53]
وإن الإقرار بالعجز أمام اختيار آيات قرآنية معيّنة مؤثّرة في النفس البشريّة دون سواها من آيات القرآن الكريم أمر لا يعدّ نقصاً في البحث أو الباحث، فقد يتأثّر بعضهم بآية تتحدّث عن القدرة الإلهيّة في الكون والحياة وقد يتأثّر الآخر بما ذكره الله في حياته من النعيم والجنان وما أعدّه الله للمؤمنين ويتأثّر الثالث بآية تتحدّث عن النّار والجحيم والسعير ويتأثّر رابع بالحقائق التاريخية الصادقة وخامس يتأثّر بالبلاغة المعجزة والكلمة الرقيقة وسادس يتأثّر بالأسس الشرعيّة المحكمة في مجال الحكم والأسرة والمجتمع وغير ذلك.
وهكذا فالقرآن لا يترك نفساً إلّا ويتحدّث معها عن ملكة من ملكاتها المتعددّة، سواء أكانت فكريّة عقليّة أم وجدانيّة عاطفيّة أم سياسيّة أم عسكريّة إلى غير ذلك، ويأخذ هذا التأثير أشكالاً متباينة أحياناً أو منسّقة أحياناً أخرى، فتأثّر المشركين والكافرين غالباً نفوراً وإعراضاً، أو إلقاء للحجج الواهية التي يقصدون بها التعجيز لقارئه أو النّيل من النّصّ القرآني نفسه كما نرى عند اليهود والمنافقين ومن شاكلهم.
ويظهر تأثّر المنافقين بالقرآن في صورة خوف وحذر وتربّص كذلك؟
وأما مع المؤمنين: فيختلف مظهر التأثّر فكلّهم يرقّ قلبه، وينشرح صدره، وتفيض عيناه بالدّمع، دلالة على الاستسلام والإيمان، والعجز عن التعبير عما يجده في جوانحه مع حالة نفسيّة جديدة لا عهد له بها، ومن هنا تأتي صعوبة الانتقاء لآيات قرآنية أكثر تأثيراً دون سواها إذ يتوقّف ذلك على حالة المتلقّي – أيضاً – واستعدادته النفسيّة، وثقافته العلميّة ومذاقاته الوجدانيّة وما إلى ذلك.
مظاهر أثر القرآن الكريم على المؤمنين:
عندما نتتبّع أثر كلام الله تعالى – القرآن الكريم – فيمن سمعه وتدبّره من البشر فإننا نجد أنّ أوّل من يتأثّر بكلامه هم من تلقّوه، وكلّفهم الله ببلاغه للبشر وهم الأنبياء والرسل، ولذلك يقول الله تعالى بعد أن تحدّث عن بعض الأنبياء والرسل في سورة مريم: { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذريّة آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذريّة إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً وبكيّاً }[54].
فهؤلاء إذا سمعوا كلام الله المتضمّن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربّهم خضوعاً واستكانة حمداً وشكراً على ما هم فيه من النعم العظيمة والبكي جمع باك، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم وإثباتاً لمنوالهم، ولما قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة مريم سجد وقال: (وهذا السجود فأين البكيّ) يريد البكاء[55].
وجاء في الظلال (أولئك النبيّون ومعهم من هدى الله واجتبى من الصالحين من ذرّيتهم صفتهم البارزة) إذا تتلى عليهم آياته، فال تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثّر، فتفيض عيونهم بالدموع ويخرّون سجّداً وبكيّاً)[56]
ويقول أبو السعود (هنا بيان خشيتهم من الله تعالى وإخباتهم له مع مالهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلف من الله عزّ سلطانه خرّوا ساجدين باكين)[57]
والسجود حركة ظاهريّة، تعبّر عن أعلى وصدق درجات الانقياد والاستسلام والتذلّل للمسجود له، وأما البكاء فهو تنفيس عن انفعالات داخليّة شديدة يعجز صاحبها عن التعبير عنها فتعبّر عيناه بالدمع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل المتأثّرين بالقرآن الكريم تأثّراً باطنياً وظاهرياً وكفى سلوكه شاهداً على ذلك وبرهاناً عليه.[58]
فقد روى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء – والأزيز: صوت الرعد وغليان القدر) [59]
وما رواه الأئمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (اقرأ عليّ) فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا بلغت { فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }[60] فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان)[61].
والمواقف والمواضع التي تبرز تأثّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن كثيرة، بيد أن ذلك يعدّ أمراً لا غرابة فيه، ولا إعجازاً، إذ كيف لا يتأثّر الرسول صلى الله عليه وسلم - بالقرآن – وعليه أنزل وقد رأى الملائكة وعرج به إلى السماء وسمع صرير الأقلام، ورأى من آيات ربه ما رأى؟ فتأثّره بالقرآن العظيم أمر لا يحتاج إلى دليل أو برهان، وكان صلى الله عليه وسلم يحرص أن يغرس في أتباعه من المسلمين التأثّر بالقرآن عند تلاوته فقد أمر المسلمين بالبكاء عند تلاوته، فإن لم يجدوا بكاء فليتباكوا(57) وامتثل المؤمنون لتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم - ففتحوا آذانهم وقلوبهم لآيات الله، لتعمل فيها عملها، تؤثر فيها ما شاء الله لها من تأثير، وحال بينهم وبين كل ما من شأنه أن يمنع قلوبهم من التأثّر بالقرآن ولنذكر بعض الآيات التي لها أثر كبير في التأثير في النفوس والّتي عبّرت عن ذلك الأثر وأظهرته.
وجل في القلوب:
لقد حاز المؤمنون عند ربهم درجة عالية رقيقة لتأثّرهم بالقرآن الكريم، تأثّراً عمليّاً صادقاً، له نتائجه في واقع حياتهم وحياة مجتمعهم يقول الله تعالى: { إنّما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربّهم يتوكّلون }[62].
ولنا هنا بعض الملاحظات:
الملاحظة الأولى: ما هي حقيقة التّأثّر بذكر الله وتلاوة القرآن الكريم:
هذه الحقيقة تتحدّث عنها الصّحابيّة أم الدرداء من خلال تجربة عاشتها متأثّرة من آيات القرآن الكريم، فوجل قلبها، فقالت تصف هذا الوجل: (الوجل في القلب كاحتراق السعفة، أما تجد له قشعريرة؟ قال بلى، قالت: إذا وجدت ذلك فادعوا الله عند ذلك، فإن الدعاء يذهب ذلك) [63].
يقول سيد قطب (إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر الله في أمر أو نهي، فيغشاه جلاله، وتنتفض فيه مخافته، ويتمثل عظمة الله ومهابته إلى جانب تقصيره هو وذنبه، فينبعث إلى العمل والطاعة)[64]
الملاحظة الثانية: ما هي مظاهر التأثر بالقرآن؟
يقول سيد قطب مبيّناً هذه المظاهر: (والقلب المؤمن يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيماناً، وما ينتهي به إلى الاطمئنان) إن هذا القرآن يتعامل مع القلب البشري بلا واسطة ولا يحول بينه وبينه شيء إلا الكفر الذي يحجبه عن القلب، ويحجب القلب عنه فإذا رفع هذا الحجاب بالإيمان وجد القلب حلاوة هذا القرآن، ووجد في إيقاعاته المتكررة زيادة في الإيمان تبلغ إلى الاطمئنان، وكما أن إيقاعات القرآن على القلب المؤمن تزيده إيماناً، فإن القلب المؤمن وهو الذي يدرك هذه الإيقاعات التي تزيده إيماناً [65].
اطمئنان القلوب:
إن اطمئنان القلوب مرحلة تأتي بعد إيمان عميق، وسماع واعٍ وتدبّر للقرآن فإذا عاشت القلوب على هذا المنوال تصل إلى مرحلة من الاطمئنان إلى وعد الله في كتابه الذي لا تحرّكه الزلازل، إنها القلوب المطمئنّة التي بلغ فيها القرآن مبلغاً من التأثير فقال تعالى: { الذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب }[66]. (أي هؤلاء تطمئن قلوبهم على الدوام بذكر الله لأنها تسكن وتستأنس بتوحيد الله فتطمئن) وقال مجاهد وقتادة: تطمئن قلوبهم بالقرآن الكريم[67].
يقول الألوسي: أن قلوبهم تستقر وتسكن بذكر الله أي بكلامه المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسبب اطمئنان قلوبهم بذلك علمهم أن لا آية أعظم[68].
ويقول سيد قطب (تطمئنّ بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وحماه تطمئن من قلق الوحدة وحيرة الطريق بإدراك الرحمة في الخلق والمبدأ والمصير وتطمئنّ بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل خروق ومن كل شر إلا بما شاء ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب).
ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فاتصلت بالله يعرفونها ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندي بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام[69].
إن النفس البشرية بحاجة إلى الاطمئنان في الأمور الهامّة، فهي تريد الاطمئنان بعد الحياة ماذا بعد الحياة؟ يجيب القرآن على ذلك { فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه، إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه، فهو في عيشة راضية، في جنّة عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية }[70].
هكذا يجيب القرآن على هذا التساؤل الداخلي في النفس الإنسانية، فيضع أمامها الحقائق في يسر وسهولة، وتأثير بالغ فتطمئنّ إلى ما تعمله، إن كان خيراً، فموت، ثم بعث ثم حساب ثم جنه، وإن كان شراً فموت ثم بعث ثم حساب ثم نار.
إذا فلا طريق إلى طمأنينة القلوب وسعادتها وأنسها وبهجتها إلّا بذكر الله لا بغيره، فالسبب الوحيد لطمأنينة القلوب وشفائها من أمراض وزوال قلقها ووحشتها هو ذكر الله.
ذكر الله بمدلوله الواسع الشامل لكل ما يذكر الله أو يُذكر الله به، ما يذكر الله من العلوم النافعة والأدلة القاطعة في الآيات البيّنات الناطقات أو المشاهدات، وما يذكر به الله من سائر الأذكار والعبادات، وإقامة الأحكام والمعاملات على شرع الله.
ويجمع ذلك العلم بما نزل الوحي والعمل به فذلك هو الطريق إلى طمأنينة القلوب وسعادتها في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى مشيراً إلى هذه الحقيقة: { فمن تبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى }[71] [72]
سجود وخشوع:
ويزداد أثر القرآن في النفوس فيجعلها طيعة لأوامره، منقادة لإشارته مستلهمة لما فيه تخشع أجسادهم في سجود، وتلهج ألسنتهم بذكر الله، وتنفطر أقدامهم في قيام الليل والناس نيام، وتفيض أنفسهم قبل أيديهم بالإنفاق في سبيل الله. قال تعالى: { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذُكّروا بها خرّوا سجّداً وسبّحوا بحمد ربّهم وهم لا يستكبرون، تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون }[73]
قال ابن كثير: (إنما يؤمن بآياتنا أي يصدّق بها الذين استمعوا لها وأطاعوها قولاً وفعلاً وسبّحوا بحمد ربّهم وهم لا يستكبرون عن اتّباعها والانقياد لها. تتجافى جنوبهم عن المضاجع: يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة يدعون ربّهم خوفاً من وبال عقابه وطمعاً في جزيل ثوابه)[74].
ويقول سيد قطب: (وهي صورة وضيئة للأرواح المؤمنة اللطيفة المرتجفة من خشية الله وتقواه المنحنية إلى ربّها بالطاعة المتطلّعة إليه بالرجاء، في غير ما استعلاء ولا استكبار، هذه الأرواح هي التي تؤمن بآيات الله وتتلقاها بالحس المتوفّر والقلب المستيقظ والضمير المستنير.
هؤلاء إذا ذكروا بآيات ربهم (خرّوا سجداً) تأثّراً بما ذُكّروا به، تعظيماً لله الذي ذكروا بآياته وشعوراً بجلاله الذي يقابل بالسجود أول ما يقابل[75].
هذه أهم مظاهر تأثّرهم بالقرآن الكريم إذا سمعوا آياته سجود سريع، وتواضع واستكانة وقيام في الليل يخافون العذاب يطمعون في الثواب وكلّ هذه خلال لذواتهم وتزكية لنفوسهم وأما لغيرهم ولمجتمعهم، فقد أثّر القرآن في تصرّفهم، فجعل أيديهم سخاء بالإنفاق مما رزقهم الله. قال تعالى: { ألم يئن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق }[76]
ويقول إسماعيل البرسوي: (ألم يجيء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره تعالى وتطمئن به ويسارعوا إلى طاعته والامتثال لأوامره والانتهاء عما نهوا عنه من غير توان ولا فتور)[77].
قشعريرة الجلود:
يقول الله تعالى عن القرآن العظيم: { الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الّذين يخشون ربّهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد }[78]
فالقرآن بشهادة الحق تبارك وتعالى أحسن الحديث وهو الذي تقشعر منه جلود الذين يخشون ربّهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، وهو هدى الله عز وجل يهدي به من يشاء من عباده وأما الذين يصدفون عن آيات الله ويتركونها وراء ظهورهم فقد قال الله فيهم: { فمن أظلم ممن كذّب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون }[79] [80]
ويقول د.وهبة الزحيلي: (أن الله نزّل أحسن الحديث وهو القرآن الكريم لما فيه من الخيرات والبركات والمنافع العامّة والخاصّة وهو كتاب يشبه بعضه بعضاً في مجال النظم وحسن الأحكام والإعجاز – إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرّت جلود الخائفين لله، وتضطّرب النفس وترتعد بالخوف مما فيه من الوعيد ثم تسكن وتطمئنّ عند سماع آيات الرحمة[81].
وورد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعرّ جلودهم، قيل لها: فإن أناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيّاً عليه) [82].
وقال ابن كثير: (فهذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبّار المهيمن العزيز الغفّار لما يفهمونه من الوعد والوعيد والتخويف والتهديد، تقشعرّ منه جلودهم من الخشية والخوف، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله لما يرجون ويؤمّلون من رحمته ولطفه فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه:
أحدها: إن سماع هؤلاء، هو تلاوة الآيات وسماع أولئك، نغمات الأبيات من أصوات القينات.
الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً وبكيّاً بأدب وخشية ورجاء ومحبّة هؤلاء لم يكونوا عند سماع الآيات متشاغلين لاهين عنها، بل مصغين إليها فاهمين بصيرين بمعانيها فلذا إنما يعلمون بها ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.
الثالث: إنهم يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعرّ جلودهم ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله،لم يكونوا يتصارخون ولا يتكلّفون بما ليس فيهم بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك، ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والآخرة[83].
إن مسألة التأثير غير قاصرة على القرآن ولا على المؤمنين به وإنما قد تحدث من كل ما يسمعه الإنسان ويعقله، ولكن كلّ مؤثّر وله نتائجه في حياة الأفراد والمجتمعات.
بكاء ودموع:
قال الله تعالى: { لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين }[84]
يقول سيد قطب: (فهذا مشهد حي يرتسم من التصور القرآني لهذه الفئة من الناس، الذين هم أقرب مودّة للذين آمنوا، إنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من هذا القرآن اهتزّت مشاعرهم ولانت قلوبهم وفاضت أعينهم بالدمع تعبيراً عن التأثّر العميق العنيف بالحق الذي سمعوا، والذي لا يجدون له في أوّل الأمر كفاء من التعبير إلا الدمع الغزير، وهي حالة معروفة في النفس البشرية حين يبلغ بها التأثر درجةو أعلى من أن يفي بها القول، فيفيض الدمع ليؤدي مالا يؤديه القول وليطلع الشحنة الحبيسة من التأثّر العميق العنيف.
ثم هم لا يكتفون بهذا الفيض من الدمع ولا يقفون موقفاً سلبياً من الحق الذي تأثّروا به هذا التأثّر عند سماع القرآن، والشعور بالحقّ الذي يحمله والإحساس بما له من سلطان إنهم لا يقفون موقف المتأثّر الذي تفيض عيناه بالدمع ثم ينتهي أمره مع هذا الحق، إنما هم يتقدّمون ليتّخذوا من هذا الحقّ موقفاً إيجابياً صريحاً موقف القبول لهذا الحق والإيمان به والإذعان لسلطانه وإعلان هذا الإيمان وهذا الإذعان في لهجة قويّة صريحة عميقة [85].
السكينة تنزل على قارئ القرآن تملها إليه الملائكة سواءً أكان فرداً أم جماعة.
ويستحبّ البكاء عند تلاوة القرآن، يقول الغزالي: (البكاء مستحبّ مع القراءة، والطريق في تحصيله أن يحضر قلبه الحزن، بأن يتأمّل ما في القرآن من الوعيد والتهديد والمواثيق والعهود، ثم يتأمّل تقصيره في ذلك، فإن لم يحضر حزن وبكاء كما يحضر الخواص فليبك على فقد ذلك منه، فإنه من أعظم المصائب [86].
وروي عن محمد بن المنكدر أنّه بينما هو ذات ليلة يصلّي بكى وكثر بكاؤه، ففزع أهله فتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى صاحبه أبي حازم، فجاء إليه فإذا هو يبكي، فقال له يا أخي: ما الذي أبكاك؟ قال رُعت أهلك؟ فقال: مرّت بي آية من كتاب الله عز وجل، قال ما هي؟ قال: قول الله عز وجل: { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون }[87]
فبكى معه أبو حازم واشتدّ بكاؤهما، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه رقيق القلب إذا قرأ القرآن لم يملك عينيه من البكاء.
وصلّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصبح إماماً بالناس، فقرأ سورة يوسف، فبكى حتّى سالت دموعه على ترقوته وسمعوا بكاءه من وراء الصفوف[88].
والأمثلة على ذلك كثيرة لا يتّسع المقام لذكرها كلّها.
ويستحبّ البكاء عند قراء ة القرآن والتباكي لمن لا يقدر عليه والحزن والخشوع قال تعالى: { ويخرّون للأذقان يبكون }[89] وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليّ القرآن) قال: فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: (إني أستثني أن أسمعه من غيري)، فقرأت النساء حتى إذا بلغت: { فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل [90].
وقد وصف الله تعالى الذين أنعم عليهم من النبيين بقوله: { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً وبُكيّاً }[91]
وقال الآلوسي: (أي أن قلوبهم فزعت استعظاماً لشأنه الجليل وتهيّباً منه جل وعلا)[92]
وقال القرطبي: (أن الله وصف المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوجل عند ذكره وذلك لقوّة إيمانهم ومراعاتهم لربّهم وكأنّهم بين يديه)[93]
وهكذا كان حال سلفنا الصالح – رضوان الله عليهم – إذا سمعوا آيات الله تتلى عليهم أصغوا سمعهم، وفتحوا قلوبهم، فتخشع الجوارح، وتلين الجلود، وتقشعرّ الأبدان، وتبكي العيون من خشية الله.
أثر القرآن الكريم في النفوس:
الأمثلة والنماذج على تأثير القرآن الكريم في النفوس عديدة على اختلاف الزمان والمكان، سواء أكانت النفوس كافرة أم مؤمنة، وسواء أكانت نفوس عرب تعرف العربية لغة القرآن الكريم وتتذوّقها أم كانت نفوس أعاجم لا تكاد تعرف من العربية شيئاً.
ونقدّم فيما يلي نماذج لثلاثة أصناف أثّر فيهم القرآن الكريم: الكافرون، والمؤمنون وغير العرب:
أولاً: تأثير القرآن في نفوس الكفّار:
قال الله تعالى: { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون }[94]
ويروي التاريخ أن الإحساس بتأثير القرآن الكريم كان يجذب رؤساء هؤلاء المعاندين ليلاً لاستماع تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، على ما كان من نهيهم عن سماعه وتواصيهم بذلك.
يروى أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق كان كل واحد منهم يأتي من ناحية على غير موعد إلى حيث يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكلّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق وتلاوموا، وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرّة ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل واحد منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد ألّا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرّقوا.
فلما أصبح الأخنس ذهب إلى أبي سفيان يسأله عما سمع فقال خيراً، ثم خرج حتى أتى أبا جهل فدخل عليه فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: ماذا سمعت ! تنازعنا نحن وبنو مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدّقه[95].
الوليد بن المغيرة:
وهذا هو الوليد بن المغيرة وهو من أعتى المشركين وأشدّهم أذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقرأ عليه القرآن، فقرأ عليه قوله تعالى: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون } فقال له أعد، فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الوليد بن المغيرة قولته: (والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما يقول هذا بشر).
فكأنّما رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه وقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً، فقال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمداً لتعرض ما قبله ! قال: علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل في القرآن قولاً: قومك أنك منكرته، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم أحد ألهم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ثم يقول في وصفه مقالة التأثرية المفتون بجمال المستسلم لإعجازه، (والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه ومغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما هو من قول البشر) [96].
فإذا كان هذا تأثير القرآن في مشرك حتى يستشعر هذه الطلاوة وتلك الحلاوة فكيف بمسلم عمر قلبه بالإيمان وأشرقت نفسه بنور القرآن.
ولقد صدق الوليد بن المغيرة، فأقرّه جميع المشركين الذين جاؤوا للتداول في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف لا؟ وجميعهم يشعر بنفس شعور الوليد، ويحس بأحاسيسه فلم يمنعهم كفرهم ولا كبرهم ولا غرورهم من الاعتراف بهذه الحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها.
عتبة بن ربيعة:
عتبة بن ربيعة من سادة قريش، كان سيّداً حليماً، ترسله قريش إلى محمد صلى الله عليه وسلم ليفاوضوه باسم المشركين وليكون لسانها المعبّر وعقلها المفكّر، أرسلته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليساوموه على أن يدع ما هو عليه ويترك دعوته على أن يقدّموا له ما شاء فيعرض عليه الطبّ إن كان ما يأتيه من قبيل الوساوس والجنون.
استمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى عروضه السخيّة، حتى إذا فرغ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوقد فرغت يا أبا الوليد؟) قال: نعم قال: (فاسمع مني) قال: أفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم، حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصّلت آياته قرآناً عربيّاً لقوم يعلمون، بشيراً ونذيراً، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون، وقالوا قلوبنا في أكنه مما يدعونا إليه، وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) [97].
فلما سمعها عتبة أنصت إليه، وألق يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد وسجد معه عتبة ثم قال له: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس، قالوا: ما وراءك، قال: ورائي أنّي سمعت قولاً والله ما سمعت بمثله قط، وهو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش ! أطيعوني، خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم. قالوا: سحرك بلسانه، قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم) [98] وهذا اعتراف خطير من الوليد أمام سادة قريش وكبرائهم بإعجاز القرآن الكريم وأثره في النفوس والقلوب والجوارح.
وهذه بالجملة اعترافات أساطيل قريش وسادتها والكل يلهج بكلام واحد وقد تصوّر تصوّراً واحداً ألا وهو أن القرآن الكريم ليس من صنع البشر وأنّه معجز لا قبل لهم بمعارضته بل أن كل من يسمعه منهم يخفق له قلبه وتنفعل أحاسيسه ويحنّ إلى سماعه المرة تلو الأخرى، لا يستطيع أن يفطم نفسه عنه.
ولذلك كان النفر من قريش يتعاهدون على عدم سماع القرآن حتى لا يتأثّروا به ويذهبون إلى بيوتهم إلا أنّ الواحد منهم لا يلبث أن يرجع إلى الكعبة ليسمع القرآن الذي ملك عليه عقله وقلبه فيجد أن صاحبه الذي قد عاهده قد سبقه إلى العودة لسماع القرآن المعجز ندياً من صوت محمد صلى الله عليه وسلم، فيجتمعان أمام الكعبة وكل منهم قد نقض ما عاهد عليه صاحبه وحقّ لهم ذلك.
فمن ذا الذي يرى المعجزة ويملك نفسه أن لا يتأثر بها؟ إذ لو كان الناس يملكون هذا لما كان للمعجزة ذلك الأثر.
لم يكن من المشركين إزاء هذا التأثر العظيم بالمعجزة القرآنية إلا أنهم بدءوا يعلنون إسلامهم الواحد تلو الآخر، مما أثار حفيظة المشركين، وجعلهم يفكّرون بالوسائل التي يمكن بواسطتها التخفيف من أثر المعجزة القرآنية، فاتّفقوا على أن لا يسمعوا القرآن ولا يمكّنوا أحداً من سماعه خشية أن يتأثّروا بإعجازه ويستجيبوا لهديه، كما اتّفقوا على أن يلغوا في القرآن إذا قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى يشوّهوا فيما يزعمون – جماله ويذهبون برونقه ويشوّشوا على الناس لمنعهم من الإنصات إليه، قال الله تعالى: { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون }[99]
إلى هذه الدرجة كان لسماع القرآن الكريم أثره في نفوس أعدائه، فهم يتشاغلون عنه ويتلهّون بغيره، ويتعاهدون فيما بينهم على عدم الاقتراب من تاليه، حتى لا يصل آذانهم حتى إذا وقع بعضهم في ذلك – قاصداً أو ناسياً – لاموه وعنّفوه وقالوا له: { أفتأتون السحر وأنتم تبصرون }، إلا أنهم رغم هذا لم يفلحوا، بل ربما كان الأمر على نقيض مرادهم، فجمال القرآن لا يمكن تشويهه وإعجازه لا يمكن إخفاؤه، فالشمس في رابعة النهار لا يمكن أن تحجب بكف أحمق.
ثانياً: تأثير القرآن الكريم في نفوس العرب:
الأمثلة على تأثير القرآن الكريم في نفوس المؤمنين عديدة، على مدار التاريخ الإسلامي، وفي مقدمة الذين أثّر فيهم القرآن، من نزل على قلبه القرآن محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يتأثّر وهو يتلو القرآن، ويتأثّر وهو يسمع القرآن، ويبدو التأثّر دموعاً غزيرة تذرفها عيناه الشريفتان.
ومن الأمثلة على تأثّره لسماع القرآن، وبكائه لسماع القرآن ما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ عليّ، قلت أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء، حتى أتيت على هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }[100] فقال: حسبك الآن... فإذا عيناه تذرفان.[101]
ولقد أثّر القرآن الكريم في نفوس الصحابة تأثيراً عظيماً قادهم إلى الانتقال من الشكر والكفر والجاهلية إلى الإسلام.
ومن أوضح الأمثلة على ذلك سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان سبب إسلامه سماعه القرآن الكريم.
تأثير القرآن الكريم في عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
لقد كان عمر بن الخطاب كثير الإيذاء للمسلمين إذ دفعه حقده وحدّته لأن يعتزم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغه أنه مجتمع مع أصحابه في بيت عند الصفا ويروي رضي الله عنه قصّة إسلامه إذ يقول: كنت للإسلام مباعداً وكارهاً ومحارباً، وكنت صاحب خمر في الجاهلية، أحبها وأحرص على شربها وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش على شربها.
فأرقت في ليلة من الليالي وخرجت أريد جلسائي في مجلسهم ذلك، فلم أجد أحداً، فقلت: لو أني جئت فلاناً الخمّار لعلّي أجد عنده، فجئته فلم أجده، فقلت لو أني ذهبت إلى الكعبة فطفت بها مسبقاً، فجئت الكعبة لأطوف بها فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلّي... فقلت حين رأيته لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول. ثم قلت في نفسي: لئن دنوت منه لأروّعنّه، فابتعدت عنه، وجئت الكعبة من جهة حجر إسماعيل ودخلت تحت ثيابها، وجعلت أمشي رويداً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلّي يقرأ القرآن، حتّى قمت في قبلته مستقبله، ما بيني وبينه إلّا ثياب الكعبة ! ثم سمعت القرآن، رقّ له قلبي فبكيت ودفعني إلى الإسلام، ولم أزل قائماً في مكاني ذلك حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعته وأسلمت [102].
وهناك رواية أخرى لإسلام عمر وهي أنّه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمع مع أصحابه في بيت عند الصفا، فلقيه نعيم بن عبد الله، فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمداً هذا الصابئ الذي فرّق بين أمر قريش، وسفّه أحلامها ولما في دينها فأقتله. فقال له نعيم: أفلا رجعت إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأيّ أهل بيتي؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما.
فرجع عمر إلى أخته وزوجها، وكان عندهم خباب بن الأرتّ معه صحيفة فيها سورة طه يقرؤونها، فلمّا سمعوا حسّ عمر، اختبأ خباب في بعض البيت وخبّأت فاطمة الصحيفة، وكان عمر قد سمع شيئاً من القراءة حين دنا من البيت. فلما دخل قال: ما هذا الذي سمعت؟ قالا له ما سمعت شيئاً. قال: بلى... وقد أُخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، وبطش بسعيد فقامت إليه فاطمة تدافع عن زوجها فلطمها حتّى سال الدم من وجهها وعندئذ قالت فاطمة وزوجها له: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك، فلمّا رأى عمر ما بأخته ندم على ما صنع وقال لأخته أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤونها آنفاً، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد ووعدها أن يردّها عليهما إذا قرأها، فلما طمعت أخته في إسلامه، قالت له: يا أخي إنّك نجس، على شركك وإنّه لا يمسّه إلّا المطهّرون. فقام عمر واغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها: { بسم الله الرحمن الرحيم، طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلّا تذكرة لمن يخشى تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العُلى، الرحمن على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى }[103]
فلما قرأ عمر الآيات المكتوبة في الصحيفة، هدأت ثورته، وذابت حدّته، وسطع أمامه نور المعجزة بما لا يستطيع دفعه وقال لما قرأ ذلك: (ما أحسن هذا الكلام وأكرمه) [104]
لقد انفعلت نفس عمر بهذا الكلام، كيف لا؟ وهو العربيّ القرشيّ الّذي يتذوّق العربيّة ويتمايل لسماعها طرباً، وما كان منه إلّا أن قال: (ما أحسن هذا الكلام وأكرمه) وما كان منه إلّا أن ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن – لا ليقتله هذه المرة – ولكن ليعلن إسلامه وليضيف إلى التاريخ حادثاً من أهم الحوادث في تاريخ المعجزة القرآنية.
لما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه قلبه للقرآن، دخلت أنواره قلبه وبددت منه ظلمات الكفر فتأثّر بالقرآن وخشع، ورقّ له قلبه، وبكى من التأثّر والخشوع وأعلن إسلامه رضي الله عنه.
ب- أثر القرآن في نفس الطفيل بن عمرو الدوسي:
الطفيل بن عمرو الدوسي شاعر شريف لبيب، صفات تجمع بين الذكاء العقلي الحاد والإحساس الوجداني المرهف إضافة إلى شرف المكانة العالية في قبيلته، فجاء مكة مقابلة رجال من مشركي مكّة وسادتها وحذّروه من السماع من محمد صلى الله عليه وسلم وخشية أن يؤمن به، إلا أن النتيجة كانت على عكس ما رموا إليه وأراده، لأن ما أثر في نفوسهم لابد أن يؤثر في نفس الطفيل وغيره، من كل من عقل كلام العرب وتذوّقه.
يقول الطفيل: كنت رجلاً شاعراًً سيداً في قومي، فقدمت مكّة فمشيت إلى رجالات قريش فقالوا: يا طفيل إنّك امرؤ شاعراً، وإنا قد خشينا أن يلقاك هذا الرجل فيصيبك ببعض حديثه فإنما حديثه كالسحر فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك ما أدخل علينا، فإنّه قد فرّق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء ودينه، فوالله ما زالوا يحدّثوني في شأنه وينهوني عن أن أسمع منه حتى قلت: والله لا أدخل المسجد إلّا وأنا سادّ أذني، فوضع قطناً سادّاً أذنيه كي لا يسمع القرآن.
ودخل الطفيل إلى المسجد الحرام، فإذا به يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلّي عند الكعبة، فاقتربت منه، وأبى الله إلا أن يسمعه بعض قوله، فسمع كلاماً حسناً فقال في نفسه: والله إن هذا للعجز وإني امرؤ ثبت، ورجل شاعر لبيب، ما تخفى عليّ الأمور حسنها وقبيحها، والله لأتسمّعنّ منه فإن كان الّذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته. فنزعت الكرفس، فلم أسمع كلاماً أحسن من كلام يتكلّم به، فقلت يا سبحان الله ما سمعت كاليوم لفظاً أحسن ولا أجمل منه.
ثم انصرف محمد صلى الله عليه وسلم إلى بيته وتبعه الطفيل حتى دخل بيته ثم قال له: يا محمد ! إن قومك جاءوني فقالوا لي كذا وكذا فأخبرته بما قالوا ثم أبى الله إلّا أن أسمعني منك ما تقول، وقد وقع في نفسي أنّه حقّ فأعرض عليّ دينك، فعرض عليّ الإسلام فأسلمت [105].
ج- تأثير القرآن الكريم في سيّد قطب:
نموذج آخر لتأثير القرآن الكريم في نفوس المؤمنين، أنه سيد قطب الذي يحدّثنا عن تأثير القرآن الكريم في نفسه:
يقول رحمه الله عند تفسيره لسورة النجم: (كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعنا صوت قارئ للقرآن من قريب يتلو سورة النجم، فانقطع بيننا الحديث لنستمع وننصت للقرآن الكريم وكان صوت القارئ مؤثّراً وهو يرتّل القرآن ترتيلاً حسناً.
وشيئاً فشيئاً عشت معه فيما يتلوه، عشت مع قلب محمد صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الملأ الأعلى، عشت معه وهو يشهد جبريل عليه السلام، في صورته الملائكية التي خلقه الله عليها.
تلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبّره الإنسان ويحاول تخيّله ! وعشت معه وهو في رحلته العلوية الطليقة، عند سدرة المنتهى، وجنة المأوى، عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي، وتحلّق بي رؤاي، وبقدر ما تطيق مشاعري وأحاسيسي، وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوّتها وأنوثتها....!
ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ من الأرض وأمام الأجنّة في بطون الأمّهات وعلم الله يتابعها ويحيط بها.
وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتالية في المقطع الأخير من السورة، الغيب المحجوب الذي لا يراه إلا الله، والعمل المكتوب لا يندّ ولا يغيب عن الحساب والجزاء، والمنتهى إلى الله في نهاية كلّ طريق يسلكه العبيد.
والحشود الضاحكة، والحشود الباكية، وحشود الموتى، وحشود الأحياء، والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها، وتخطو خطواتها وتبرز أسرارها فإذا هي ذكراً أو أثنى، والنشأة الأخرى ومصارع الغابرين، والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى !
واستمعت إلى صوت النذير الأخير مثل الكارثة الداهمة { هذا نذير من النذر الأولى أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة }.
ثم جاءت الصيحة الأخيرة واهتزّ كياني كلّه أمام التبكيت المرعب { أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون وأنتم ساجدون }.
فلما سمعت الآية { فاسجدوا لله واعبدوا } كانت الرجفة قد سرت في قلبي حقّاً إلى أوصالي، واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي، لم أملك مقاومته، فظل جسمي كله يختلج ولا أتمالك تثبيته، ولا أن أكفكف دموعاً هانئة لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة.
وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح، وأن تعليله قريب، إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن [106].
أكتفي بهذا القدر من تأثير القرآن الكريم في قلوب المؤمنين وهناك من الأمثلة الكثيرة التي لا يفسح لها المقام.
ثالثاً: تأثير القرآن في غير العرب:
كما أثّر القرآن الكريم تأثيراً بليغاً في نفوس العرب كفّاراً ومسلمين، وأثّر في نفوس المسلمين من غير العرب، المؤمّلين به الخاشعين عند تلاوته، كذلك أثّر في نفوس غير العرب من الذين لا يعرفون من اللغة العربية شيئاً، وسأقف على بعض الشواهد لتأثير القرآن الكريم في بعض غير العرب الذين لا يعرفون شيئاً منها.
تأثير القرآن الكريم في الفتاة الأمريكية شارون:
لقد سجّلت الفتاة الأمريكية شارون قصّتها مع القرآن الكريم على الإنترنت ونقلتها مجلّة الفرقان الصادرة عن جمعية المحافظة على القرآن الكريم في الأردن:
تحدّثت الفتاة الأمريكية شارون عن بداية حياتها مع أهلها، ومع الكنيسة والأناجيل والقساوسة وأنها كانت فتاة مشاكسة متمرّدة على الجميع، وحتى تحصل على الهدوء والطمأنينة طلبت من الله أن يرزقها رجلاً مسيحياً متديّناً تتزوجه، فساق الله لها رجلاً فسلطينياً مسلماً قادها في النهاية إلى الإسلام، بعد أن حاربت الإسلام وقرآنه أولاً، لكنّها تأثّرت بالقرآن بعد ذلك ودخلت في الإسلام.
قالت في رسالتها: (كان أول رجل طلبني للزواج فلسطينيّاً، وكان به عيبان لم أردهما في الرجل الذي سيتزوجني، كان عربيّاً وكان مسلماً، لكنه على الرغم من ذلك كان يختلف عن أي رجل قابلته في حياتي، فلم يكن يشرب الخمر وكان مستقيماً.
تزوّجنا ولكن زواجنا كان سيئاً للغاية، وقلت له بأن لا يناقش دينه معي أبداً فلم يفعل ذلك، وجعلت حياته بؤساً في البداية. وفي إحدى الليالي أحضر لي معه قرآناً أعطاه لي قائلاً: هذا هو كتابنا المقدّس وإنني أستطيع أن أقرأ فيه إن أردت !
فرددت عليه قائلة: ضعه هناك فأنا لا أريد أن أقرأ فيه.
وانتظرته حتى غط في نوم عميق ثم دعوت الله قائلة: يا إلهي أرني إن كان هذا القرآن هو الحقيقة أم لا؟ فإن كان هو الحقيقة فسوف أقبله ! ولكن أرني ذلك.
وفتحت القرآن عشوائياً وإذا بي أفتح على سورة العلق فقرأت قوله تعالى: { اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربّك الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم }[107] فشعرت بعاطفة من نوع جديد تسري في عروقي.
ثم فتحت القرآن عشوائياً على صفة أخرى فإذا بي أقرأ قوله تعالى في سورة سبأ: { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربّك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد }[108].
وفجأة وللمرّة الأولى كنت مدركة تماماً أنني أحمل بين يدي كلام الله، وعندئذ عرفت بأن الله لم يكرهني عندما أرسل إليّ زوجاً مسلماً عربيّاً بل كان ذلك رحمة منه لكي أجد هذه المعجزة، وهذه الحقيقة التي طالما بحثت عنها.
أحسست بسعادة تغمرني حيث وجدت الكنز أخيراً، وعرفت بأن الله منحني الرحمة لأنه قادني لأجد الحقيقة.
وفي تلك اللحظة شعرت بالخجل الشديد من نفسي لأني كنت في غاية السخرية تجاه خالقي وإلهي الرحيم وجلست متسمّرة في مكاني لبعض الوقت، مبتهجة بكنزي الجديد وكانت الساعة تشير إلى الرابعة صباحاً لكن هذا لم يهمّني فقد وجدت المعجزة.
وركضت إلى زوجي لأوقظه قائلة: استيقظ أريد أن أقول لك شيئاً استيقظ، وقال: عن أي شيء تتحدثين؟ قلت له: القرآن ذلك الكتاب الذي أعطيتني إيّاه، إنه معجزة من الله ! لماذا لا تصرخون بأعلى صوتكم أيها المسلمون لتعملوا الناس كتاب الله؟ ابتسم زوجي قائلاً: القرآن الكريم كلام الله، وكل آية في القرآن معجزة ! فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله)[109]
تأثير القرآن الكريم في الدكتور لويس أميليو بلسوني البرازيلي:
الدكتور لويس طبيب أسنان برازيلي، ترجع قصة تعرّفه على الإسلام إلى فترة دراسته في الجامعة في أوائل الثمانينات، وعلى الرغم من أنه نشأ في عائلة مسيحية كاثوليكية حرصت منذ البدء على تربيته على مبادئ الديانة المسيحية من خلال النشاطات في الحي ومن خلال التحاقه بمدرسة ابتدائية كنسيّة فإن ذلك لم يكن عائقاً أمام النور الربّانيّ الّذي تسلّل إلى قلبه.
لقد هاله عندما درس في الجامعة مادة الفنون الجميلة مقدار انتقال كثير من الفنون الإسلامية في المعمار والهندسة إلى الثقافة الغربيّة ثم عرف أن الثقافة الغربيّة قد نهلت كثيراً من المسلمين في مجالات أخرى متعدّدة تعرف عليها بعد أن أخذ حبّ القراءة في هذا الباب بشدّة يوماً بعد يوم، لقد أدرك منذ البداية أن القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم هو سبب ذلك التغيير العميق في الحضارة الإنسانية على امتداد العصور.
فبعد دراسة متعمّقة ومتواصلة بعد تخرّجه من الجامعة امتدّت لعشر سنوات أراد أن يسلك طريقاً أكثر قرباً من الإسلام فبحث عن مركز إسلامي في ضاحيته، وقرّر أن يدرس اللغة العربيّة ويعرف المزيد عن القرآن الكريم بلغة القرآن مباشرة، ولم تطل الفترة، ففي خلال ثلاثة أشهر فقط أعلن الدكتور لويس إسلامه واختار أن يكون اسمه مركّب من اسم النبي صلى الله عليه وسلم فكان اسمه (محمد أمين) إنه لا يستطيع أن ينسى ذلك الشعور الّذي هزّه عندما سمع الشيخ يقرأ القرآن قبل دخوله في الإسلام على الرغم أنه لم يكن يفهم اللّغة العربيّة حينئذ إلا أنّ القرآن الكريم كان يمسّ جزءاً ما في روحه... لقد أعلنها بسهولة: (لا إله إلّا الله محمداً رسول الله) وأصبح يحسّ ويرى ويسمع ويشعر بكلّ ذرّة في كيانه بمعنى وحقيقة قوله تعالى: { إنّي تبت إليك وإنّي من المسلمين } ومنذ ذلك التاريخ بدأ يُعنى بتعليم نفسه وأسرته الإسلام ويحاول أن يحفظ القرآن الكريم ويتعلّم اللّغة العربيّة، والتحق بحلقة النّدوة العالميّة للشّباب الإسلامي لتعليم القرآن الكريم في (ساوباولو) ودرس التجويد [110]
ما أعظم هذا الدين لو وُجد له رجال يحملونه وينشرونه ويهدون به الضّال ويرشدون به الحائر وما أشدّ حاجة الناس إليه، فهل من مشمّر؟
رابعاً: أثر القرآن الكريم على المنافقين:
لقد ترك القرآن الكريم أثره في نفوس المنافقين فصاروا يعيشون في خوف وحذر دائمين منه، لأنّه يكشف عن خبيئة قلوبهم وينشر على المؤمنين ما أسرّه المنافقون وأبطنوه في طوايا نفوسهم يقول الله تعالى: { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إنّ اللّه مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعفُ عن طائفة منكم نعذّب طائفة بأنهم كانوا مجرمين }[111] إلى هذا الحدّ بلغ تأثير القرآن الكريم من نفوس المنافقين فهم يحذرونه حتى قبل أن ينزل، لأنّهم أخفوا في قلوبهم أموراً، والقرآن سيكشفها بصدق لا مراء فيه.
وقد كان لهذه الآيات الكاشفة الفاضحة لطوايا نفوس المنافقين الخبثاء، والّتي جعلته قتادة يسمّي سورة براءة التي ذكرت فيها فيها باسم (الفاضحة) [112] من شدّة تأثيرها على بعضهم وتفاعل مع ما بقي من هشاشة الإيمان في قلوبهم، فأقلعوا عن النّفاق.
وجاء في تفسير ابن كثير: (كان رجل ممّن شاء الله أن يعفو عنه يقول: (اللّهم إنّي أسمع آية أنا أعنى بها، تقشعرّ منها الجلود، توجل منها القلوب، اللّهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك لا يقول أحد، أنا غسّلت، أنا كفّنت، أنا دفنت، قال فأصيب يوم اليمامة فما من أحد من المسلمين إلا قد وجد غيره) [113]
لقد تسآل المنافقون هذا السؤال العجيب الذي يتبيّن منه خوفهم الدائم على ما تخفيه قلوبهم أن يظهره القرآن ويكشفه يقول الله تعالى مصوّراً حالهم: { وإذا ما نزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأمّا الذين آمنوا فزادتهمإيماناً وهم يستبشرون وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون }[114].
سؤال غريب عجيب لا يقوله إلّا الذين لم يستشعروا وقع السورة المنزلة في قلبه وإلا لتحدّث عن آثارها في نفسه بدل التساؤل عن غيره وهو في الوقت ذاته يحمل رائحة التهوين من شأن السورة النازلة والتشكيك من أثرها في القلوب.
لذلك يجيء الجواب الحاسم ممن لا رادّ لما يقول { فأما الّذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون }.
فأما الذين آمنوا فقد أضيفت إلى دلائل الإيمان عندهم دلالة فزادتهم إيماناً وقد خفقت قلوبهم بذكر ربّهم خفقة فزادتهم إيماناً وقد استشعروا عناية ربهم بهم في إنزال آياته عليهم فزادتهم إيماناً وأمّا الّذين في قلوبهم مرض الذي في قلوبهم رجس من النفاق فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون، وهو نبأ من الله صادق وقضاء منه سبحانه محقّق[115].
فأثر القرآن ومظاهر هذا التّأثير واضحة في الفريقين: في المؤمن: زيادة في الإيمان واستبشار في الوجود، وفي المنافقين: زيادة في الرجس والشّرّ والدّنس، وخاتمة سيّئة، وهو موت على الكفر.
فأثر القرآن مختلف في الفريقين حسب نوع المتلقّي وما لديه من استعدادات لاستقبال المؤثّرات القرآنية أو موانع في أمراض القلوب المتنوّعة، ومنها بالنّسبة للتّأثّر بالقرآن كما يقول ابن كثير: (فأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم، أي زادتهم شكّاً إلى شكّهم وريباً إلى ريبهم كما قال تعالى: {وننزّل من القرآن ما هو شفاء}[116]وقوله: { قل هو للّذين آمنوا هدىً وشفاء والّذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد }[117] وهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سبباً لضلالهم ودمارهم كما أن سيئ المزاج لو غذي بما غذي به لا يزيده إلّا خبالاً ونقصاً[118].
خامساً: أثر القرآن الكريم على الجماد:
القرآن له أثر عظيم لأنه كلام الله تعالى وهناك آيات تخبر عن أثر القرآن الكريم على الجبال لو خاطبها الله به وآيات تبيّن أثر القرآن على القلوب المؤمنة التي تحمله.
أمّا أثر القرآن الكريم على الجبال والجوامد فيما لو خاطبها الهل به ففي قوله تعالى: { ولو أن قرآناً سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض، أو كلّم به الموتى، بل لله الأمر جميعاً، أفلم ييأس الّذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحلّ قريباً من دارهم، حتى يأتي وعد الله، إن الله لا يخلف الميعاد }[119]
يقول سيّد قطب وهذا القرآن العميق التأثير، حتى لا تكاد تسير به الجبال وتقطع به الأرض ويكلّم به الموتى لما فيه من سلطان وقوّة ودفعة وحيويّة.
ولو أنّ الله أراد أن يكون القرآن هكذا، وأن يكون أثره على الجوامد لفعل، ولو أراد الله تسيير الجبال بالقرآن لفعل، ولو أراد الله تقطيع الأرض بالقرآن لفعل، ولو أراد تكليم الموتى بالقرآن لفعل [120].
فهذا هو أثر القرآن على الجبال والأرض والموتى فيما لو خاطبها الله به وكلّفها به وأمرها بتنفيذ ما فيه ولكنّ الله الحكيم سبحانه ما أراد ذلك (لقد شاء أن يكون القرآن خطاباً للبشر الأحياء ذوي القلوب والنفوس والمشاعر والأحاسيس فلماذا لا يتفاعلون معه؟ ولماذا لا يسعدون معه؟[121]
وأخبرنا الله تعالى عن أثر القرآن الكريم على الجبل – فيما لو خاطبه به – فقال تعالى: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلّهم يتفكّرون }[122]
فإنّ هذا القرآن لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله لكمال تأثيره في القلوب، فإن مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الإطلاق، وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها [123].
الجبل الجامد يتأثّر بالقرآن لو أنزله الله عليه، سيتصدّع هذا الجبل من تأثير القرآن ويخشع هذا الجبل من خشية الله، ولكن الله تعالى ما شاء ذلك، إنما شاء إنزال القرآن على بشر وليس على جبل، فأنزله على قلب سيّد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وتأثّر بالقرآن وتفاعل معه.
وهذا القرآن خطاب للإنسان، فلماذا لا يتأثّر كيانه بهذا القرآن، ولماذا لا يخشع قلبه من خشية الله منزّل هذا القرآن؟
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمل له منبر – وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع المنبر أول ما وضع، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب، فجاوز الجذع إلى المنبر، فعند ذلك حنّ الجذع، وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يُسكّت، لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده، وهكذا هذه الآية. إذا كانت الجبال الصّمّ لو سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدّعت من خشيته، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم [124].
ويصوّر سيّد قطب تأثير القرآن في الجماد أبلغ تأثير فيقول: ثم يجيء الإيقاع الذي يتخلل القلب ويهزّه، وهو يعرض أثر القرآن في الصخر الجامد لو تنزّل عليه: { لو أنزلنا هذا القرآن..... }
وهي صورة تمثل حقيقة فإن لهذا القرآن لثقلاً وسلطاناً وأثراً مزلزلاً، لا يثبت له شيء يلتقّاه بحقيقته، ولقد وجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سمع قارئاً يقرأ من سورة الطور: { والطّور وكتاب مسطور في رقّ منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إن عذاب ربّك لواقع ما له من دافع } فارتكن إلى الجدار، ثم عاد إلى بيته يعوده الناس شعراً مما ألمّ به.
واللحظات الّتي يكون فيها الكيان الإنساني متفتّحاًَ لتلقّي شيئاً من حقيقة القرآن يهتزّ فيها اهتزازاً ويرتجف ارتجافاً، ويقع فيه من التغيّرات والتحوّلات ما يمثّله في عالم المادّة فعل المغناطيس والكهرباء بالأجسام أو أشد، والله خالق الجبال، ومنزل القرآن، والّذين أحسّوا شيئاً من حسّ القرآن في كيانهم يتذوّقون هذه الحقيقة تذوّقاّ لا يعبّر عنه إلّا النّصّ القرآنيّ المشعّ الموحي [125].
الإعجاز النفسيّ في القرآن العظيم أو تأثير القرآن وفاعليّته في الأفئدة:
إنّ تأثير القرآن في القلوب قد بلغ مبلغاً عظيماً لم يعرف قبله ولا بعده كلام قط، إذ تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم روعة وخشية وتعتريهم هيبة وتهيمن عليهم عظمة، ترى آثاره على الجاحدين أبلغ وأظهر، إذ يقرعهم ضلالهم ويقيم عليهم حججاً لا معقّب لها فيستغلّون سماعه ويتولّون عنه بنفور مدبرين. قال تعالى: { وإذا ذكرت ربّك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفوراً }[126]
وقد شعر بعض زعماء الشرك أن القرآن قد تملّك قلوبهم، وأحسّوا في أعماقهم هزّة روعته فكانوا يستخفون من الناس ويسترقون السمع إليه ليلاً، ورأوا آثاره في أتباعهم الذين تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم بين عشية وضحاها من تأثير الآية والآيتين والسورة والسورتين، يتلوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد أصحابه فتناقد إليه نفوس كانت متعصّبة للأوثان فتهجرها وتتلى بهدي القرآن علماً وعملاً، أدباً وخلقاً، فأدرك زعماء الشرك شدّة أثر وخطر القرآن على سلطانهم ونفوذهم، فأوصوا أتباعهم أن يحولوا بينه وبين أنفسهم. قال تعالى: { وقال الّذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلّكم تغلبون }[127]
ونذكر شدّة تأثّر عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة بالقرآن وكيف احتال الوليد لصرف الناس عنه فقال: { إن هذا إلّا سحر يؤثر }.
وما قصّة إسلام زعيمي الأوس أسيد بن حضير وسعد بن معاذ إلّا شاهد على ذلك.
وقد ورد في الصحيح عن جبير بن مطعم قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب سورة الطّور فلما بلغ الآية { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يؤمنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون }[128] كاد قلبي أن يطير للإسلام[129] وفي راوية أخرى وذلك أوّل ما وقر الإيمان في قلبي [130].
إن تأثير القرآن ونفاذه يستحيل أن تتحصّن دونه القلوب، فإنّه لو أنزل على قمم الجبال لغلقها وشققها بما يودعه فيها من هيبة الله وجلاله ألا ترى أنّه يعتري من لا يفهم معانيه ولا يعلم تفاسيره من العوام من الخشوع والسكينة وزيادة الإيمان ما لا يخفى، وذلك كلّه من دلائل معجزاته وعظيم آياته الدالّة على نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا الفضيل بن عياض، مسلم لكنّه كان قاطع طريق، يسلب المال ويسفك الدماء، استمع ذات ليلة إلى قارئ يتلو: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقّ ولا يكونوا كالّذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}[131] [132]
فتاب وحسنت توبته حتى أصبح من كبار الصالحين المقتدى بهم، فهل كلام يحدث جميع هذه الآثار يدعو به رجل أمّيّ لا دولة له ولا سلطان، هل يكون إلا كلام رب العالمين.
أثر القرآن في الجنّ:
كما كان للقرآن أثر بالغ وواضح على الإنس مؤمنهم وكافرهم كان له ذلك التأثير على الجنّ وهذا ما سجّله القرآن الكريم حيث قال في سورة الأحقاف: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا: أنصتوا، فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرين }[133]
يقول سيّد قطب: (ويرسم النّصّ مشهد هذا النفر وهم يستمعون إلى هذا القرآن ويصوّر لنا ما وقع في حسّهم منه، من الرّوعة والتّأثر والرّهبة والخشوع، {فلمّا حضروه قالوا أنصتوا } وتلقي هذه الكلمة ظلال الموقف كلّه طوال مدّة الاستماع.
{ فلما قُضي ولّوا إلى قومهم منذرين } وهذه كتلك تصوّر الأثر الّذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن، فقد استمعوا صامتين منبهتين حتى النهاية، فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم، وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا يطيق السّكوت عليه، أو التّلكؤ في إبلاغه والإنذار به، وهي حالة من امتلأ حسّه بشيء جديد، وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلّاب، يدفعه دفعاً إلى الحركة به والاحتفال بشأنه، وإبلاغه للآخرين في جدّ واهتمام)[134]
ووقع الحق والهدى في هذا القرآن هائل ضخم، لا يقف قلب غير مطموس، ولا تصمد روح غير معاندة ولا مستكبرة ولا مشدودة بالهوى الجامع اللئيم، ومن ثمّ لمس هذه القلوب لأوّل وهلة.
وقال سبحانه وتعالى: { قل أوحي إليّ أنه استمع نفرٌ من الجنّ فقالوا إنّا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحداً }[135].
هذه الآيات تنبئ عن وهلة المفاجأة بهذا القرآن للجنّ، مفاجأة أطارت تماسكهم وزلزلت قلوبهم وهزّت مشاعرهم، وأطلقت في كيانهم دفعة عنيفة من التأثّر امتلأ بها كيانهم كلّه وفاض، فانطلقوا إلى قومهم بنفوس محتشدة مملوءة فائضة بما لا تملك له دفعاً، ولا تملك له صبراً، قبل أن تفيضه على الآخرين في هذا الأسلوب من يفاجأ لأوّل مرّة بدفعة قويّة ترج كيانه، وتخلخل تماسكه، وتدفعه إلى نقل ما يحسّه إلى نفوس الآخرين.
وأوّل ما بدا لهم منه أنّه عجب غير مألوف، وأنّه يثير الدّهش في القلوب، وهذه صفة القرآن عند من يتلقّاه بحسّ واعٍ وقلب مفتوح ومشاعر مرهفة، وذوق ذوّاق، ذو سلطان متسلّط، وذو جاذبيّة غلّابة وذو إيقاع يلمس المشاعر ويهزّ أوتار القلوب. فآمنا به: وهي الاستجابة الطبيعية المستقيمة لسماع القرآن وإدراك طبيعته والتأثّر بحقيقته، يعرضها الوحي على المشركين الذين كانوا يسمعون هذا القرآن ثم لا يؤمنون، وفي الوقت ذاته ينسبونه إلى الجنّ، فيقولون: كاهن أو شاعر أو مجنون، وكلّها صفات للجنّ فيها تأثير، وهؤلاء هم الجنّ مبهورين بالقرآن مسحورين متأثّرين أشدّ التأثّر منفعلين أشدّ الانفعال، لا يهلكون أنفسهم من الهزّة الّتي ترجّ كيانهم رجّاً، ثم يعرضون الحقّ فيستجيبون له مذعنين معلنين هذا الإذعان، فآمنا به: غير منكرين لما مسّ نفوسهم منه ولا معاندين كما كان المشركين يفعلون.
سر تأثير القرآن في النفوس:
تميّز القرآن الكريم بتأثيره الخاص على النفوس، وهذا التأثير الأخّاذ البليغ يدلّ على أنّ القرآن كلام الله.
وللقرآن سلطان خاصّ على الفطرة، متى خُلّي بينها وبينه لحظة، وحتى الذين راتب على قلوبهم الحجب، وثقل فوقها الركام، تنتفض قلوبهم أحياناً وتتململ تحت وطأة هذا السلطان وهم يستمعون إلى هذا القرآن.
إن الذين يقولون كثير – وقد يقولون كلاماً يحتوي مبادئ ومذاهب وأفكاراً واتجاهات، ولكن هذا القرآن ينفرد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم فيما يقول: إنه قاهر غلّاب بذلك السلطان الغلّاب !
من الذي يتأثّر بالقرآن أكثر من غيره؟ إنه المؤمن الّذي يفتح للقرآن قلبه وعقله، وكيانه كله، الذي أشرق قلبه، وشفت روحه وصفت نفسه: إن كل آية وكل سورة تنبض بالعنصر المستكن العجيب المعجز في هذا القرآن، تنشئ بالقوة الخفيّة المودعة في هذا الكلام، وإن الكيان الإنساني ليهتزّ ويرتجف ويتزايد ولا يملك التماسك أمام هذا القرآن، كلما تفتح القلب وصفا الحس وارتفع الإدراك، وارتفعت حساسيّة التلقّي والاستجابة.
وإن هذه الظّاهرة لتزداد وضوحاً كلّما استعت ثقافة الإنسان، ومعرفته بهذا الكون وما فيه ومن فيه، فليست هي مجرد وهلة تأثيرية وجدانيّة غامضة، فهي منخفضة حين يخاطب القلب المجرّب والعقل المثقّف والذهن الحافل بالعلم والمعلومات [136].
وقد وقف كثير من علماء البلاغة والتفسير في القديم والحديث أمام أسلوب القرآن، ولاحظوا تأثيره البليغ الأخّاذ على القلوب والنفوس والأرواح واعتبروا هذا التأثير دليلاً على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى.
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات والصلاة والسلام على أشرف البريات، وعلى آله وصحبه أهل التلاوات وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم نشر الحسنات والسيئات وبعد...
فهذا ما يسّر الله تعالى – فله الحمد والمنّة - في هذا البحث راجياً أن أكون قد وفّيته من جودة في العرض ويسر في الأسلوب.
إن إعجاز القرآن الكريم لا يمكن حصره، ولا يستطيع أحد جمع أركانه كما في الأثر (لا تشبع منه العلماء ولا يخلف عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه)[137].
ولعلّ أهم النتائج التي توصّلت إليها ما يلي:
1- تعدد وجوه إعجاز القرآن الكريم وتجدّدها مع مرور الأيام على الدوام.
2- إنّ كثيراً من أوجه الإعجاز في القرآن تحتاج إلى مزيد من تفكّر وبحث وجد في استخراجها.
3- إعجاز القرآن الكريم فيه مجال خصب للدعوة إلى الله تعالى – وخاصّة في زماننا هذا وما يليه من أزمنة حيث يعجّ العالم كلّه بالعلم والتطوّر في الاكتشافات العلمية الحقّة فلذلك أدعى لأن يعرفوا أن الدين الذي لا يتعارض مع العلم تنزيل من رب العلم والخلق جميعاً فيذعنوا له ويأتوا إليه مسلمين.
4- والقرآن الكريم رسالة الله الخالدة التي لن تزول ولن تتغيّر، ومن ثم فهو في حاجة إلى الجهود البشريّة المستثمرة لاستخراج درره ومن ثمّ تبليغه للنّاس جميعاً في كل عصر،وحصر وقد اختار الله أمّة الإسلام لتكون حاملة لرسالة القرآن ومبلّغة له.
5- وكلّ جهد يبذل في تلاوة القرآن أو حفظه أو تعلّمه أو العمل به تدبّره أو الدعوة إليه عبادة ينال فاعلها من الله الثّواب الجزيل.
6- للبحث مع كتاب الله مذاق جميل، لا يطعمه إلّا من اقترب من حياضه، وعاش بين أجزائه وسوره وآياته، ومنّ الله عليه بتوفيقه، وأحاطه بعنايته ورعايته، ولم يحرمه التوفيق فيما يبحث فيه، والوصول إلى المبتغى الّذي نريده، والبحث في وجوه إعجاز القرآن، وبخاصّة (الإعجاز التّأثيري) أمر له صعوبته وخطورته.
أما صعوبته: فلأنّه لم يكتب فيه علماؤنا الأجلّاء بصورة مستقلّة عن سواه من وجوه الإعجاز الأخرى، وأما خطورته فلأني أخشى القول بما لا أعلم والوصول إلا ما لا أرجو، والأمر لا يتعلّق بشيء هيّن، إنما يتعلّق بأعظم كتاب على وجه البسيطة وهو القرآن العظيم.
وفي الختام أقول: إن عملي هذا جهد بشريّ لا يخلو من الخلل والقصور، ولا شكّ أن الباحث أمام القرآن العظيم صغير مهما عظم، قليل مهما كثر، فما كان فيه صحّة وصواب فمن فسي ومن الله وحده، وما كان من زلل أو خطأ فمتى نفي من الشيطان أعاذنا الله منه، وأستغفر الله من ذلك
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
مختارات