دواء الملول
دواء الملول :
وذلك أن النفس بطبيعتها ملولة لا تستطيع الإقامة على دواء واحد دون تغير ، لذا كان من رحمة الله بنا أن يسَّر لنا ألوانا من العبادات تتقلَّب بينها النفس المؤمنة ، فلا يفتر عزمها ، ولا يكلُّ سعيها ، كما أدرك ذلك ابن عطاء فأرشدنا إليه في قوله :
" لما علم الحق منك وجود الملل ؛ لوَّن لك الطاعات " .
والنفوس ليست نسخا متشابهة ، وكما تختلف البصمات تختلف أيضا الملكات والميول والرغبات ، ولنتعلم من الإمام مالك الذي كتب إليه عبد الله القمري العابد الزاهد يحضه على الانفراد والتفرُّغ للعبادة فكتب إليه الإمام بحنكة الخبير وتجارب الحكيم قائلا :
" إن الله قسم الأعمال كما قسم لأرزاق ، فرُبَّ رجل فُتِح له في الصلاة ، ولم يُفتح له في الصوم ، وآخر فُتِح له في الصدقة ، ولم يُفتَح له في الصوم ، وآخر فُتِح له في الجهاد ، فنشر العلم أفضل أعمال البر ، وقد رضيتُ بما فُتِح لي فيه ، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه ، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر " .
واسمع إلى فقه محمد بن المنكدر وسلوكه طريق التنويع واسلكه كما سلكه ثم أخبرك بما وجده في النهاية قائلا :
" بات أخي عمر يصلي ، وبِتُّ أغمِّز قدم أمي ، وما أحب أن ليلتي بليلته " .
وليس التنويع مطلوبا في ميدان الأعمال فحسب بل يتعدَّاه إلى ميدان العلوم كذلك ، وصدق الشاعر إذ يقول :
احرص على كل علم تبلغ الأملا ولا تواصل لعلم واحد كسلا
النحل لما رعت من كل فاكهة أبدت لنا الجوهرين : الشمع والعسلا
الشمع بالليل نور يُستضاء به والشهد يُبري بإذن البارئ العللا
ودواء الملول إما أن يكون تناول دواء آخر وعدم التركيز على دواء واحد فحسب ، وإما بالترفيه عن النفس بشيء من المباح مستصحبا معه نية صالحة ، فأما الدواء الأول فلابد أن يكون لديك دوما خطة إنقاذ بديلة تلجأ إليها عند استخدامك لدواء وتكرارك له مع فشلك في الانتفاع به ، وعندها يكون اللجوء إلى دواء ثاني وثالث هو الحل السريع.
وأما الدواء الثاني فهو من قبيل ما ورد عن كعب بن عجرة قال : مرَّ على النبي رجلٌ ، فرأى أصحاب النبي من جلَدَه ونشاطه ما أعجبهم ، فقالوا : يا رسول الله .. لو كان هذا في سبيل الله ، فقال رسول الله : « إن كان خرج يسْعى على وَلَده صغارا فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على نفسه يُعِفُّها فهو في سبيل لله ، وإن كان خرج يسعى رياءً ومُفاخَرَةً فهو في سبيل الشيطان » .
التفاعل مع سنة الفترات
الفتور : انكسار وضعف ، إشارة إلى أن هذا الضعف قد سُبق بقوة ، وذلك الانكسار تقدمته صلابة ، ولهذا قال علماء اللغة : " فتر : أي سكن بعد حِدّة ، ولان بعد شِدّة " .
ولعل من حكمة وقوع الفتور لك أن تعلم قدر النعمة التي سُلِبت منك ، فإذا ما رجعت يوما إليك احتضنتها بقوة عالما قدرها غير مفرِّط فيها أو مضيِّع. قال ابن عطاء :
" رُبَّما وَرَدَت الظُّلم عليك ، ليُعرِّفك قدر ما مَنَّ به عليك " .
والآن .. خذوا هذه الكلمات من الإمام ابن القيم وهو يمارس فن الوعظ ، ويصوغ الهداية على شكل عبارة ، فيدهش العقول ويطمئن القلوب بقوله :
" تخلل الفترات للسالكين أمر لازم لا بد منه ، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ، ولم تخرِجه من فرض ، ولم تُدخِله في محرَّم رُجِي له أن يعود خيرا مما كان " .
لكن غيوم الفتور أنواع وهي ليست على درجة واحدة ، بل تختلف على حسب درجة الإيمان ؛ " منها ما يكون سريع الحصول سريع الزوال ، ومنها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال ، ومنها ما يكون بطيء الحصول سريع الزوال ، ومنها ما يكون بطيء الحصول بطيء الزوال "