تابع اسم الله الرحمن الرحيم
ثالثًا : ليس كمثله شيء في رحمته :
وذلك من عدة أوجه :
أولاً : رحمة الخلق مخلوقة فتوجد بوجودهم وتفنى بفنائهم ، أما رحمة اللَّه عز وجل فإنها صفة ذاتية له لا تفنى ولا تبيد ، قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } [ الرحمن : 26، 27 ] .
ثانيًا : رحمة الخلق قليلة محدودة ، أما رحمة اللَّه فقد وسعت كل شيء ، فكلٌ يرحم بقدر قدرته ، فالناس يرحمون في حالٍ دون آخر ، فيرحمون القريب دون الغريب ، ويرحمون الحبيب دون العدو ، أما رحمة اللَّه عز وجل فقد عمَّت الخلق جميعًا ، قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف : 156 ].
ثالثًا : رحمة الناس تختلط باللهفة والضعف لمن يرحم ، فالأم إذا مرض ولدُها تحزن ، وإذا غاب عنها تقلق وإذا مات هلعت ، وذلك من حبها له ورحمتها عليه ، وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم ، وحزن عليه ، وذلك من رحمته به صلى الله عليه وسلم .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهو يجود بنفسه ، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله ؟ فقال : (( يا ابن عوف ، إنها رحمة )) . ثم أتبعها بأخرى ، فقال : (( إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ))([1]) .
ولكن اللَّه جل جلاله لا يحزن ولا يتألم ولا يبكي ولا يقلق ، ولا يتلهف، وهكذا ما لهذه الصفات من نقص وضعف لا يخفى على كل عاقل أن هذا لا يليق باللَّه سبحانه وبحمده . إنما يرحم من قوة ، ويعفو من قدرة ، ويغفر في عزَّة ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون .
رابعًا : لا تقنطوا من رحمة اللَّه :
قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] . قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لو يعلم المؤمن ما عند اللَّه من العقوبة ما طمع بجنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند اللَّه من الرحمة ما قنط من جنته أحد ))([2]) .
ولذا فإن القنوط من رحمة اللَّه من علامات الكفر والضلال ، وما يقنط من رحمة اللَّه عز وجل إلا رجلٌ من اثنين : ضال ، أو كافر ، قال تعالى : { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ } [ الحجرات : 56 ] .
وقد نصح يعقوب عليه السلام بنيه بألا ييأسوا من روح اللَّه أبدًا ، وذلك في قوله تعالى : { وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] .
عن جندب أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : (( أن رجلاً قال : واللَّه لا يغفر اللَّهُ لفلان ، وإن اللَّه تعالى قال : من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان ، فإني قد غفرتُ لفلان وأحبطتُ عملك ))([3]) .
وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه وقد قال لضمضم بن جوس اليمامي : يا يمامي لا تقولنَّ لرجل : واللَّه لا يغفر اللَّه لك ، أو لا يدخلك الله الجنة أبدًا . فقال له : يا أبا هريرة ، إن هذه الكلمة ، يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه ، إذا غضب ، قال أبو هريرة : فلا تقلها ، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( كان في بني إسرائيل رجلان ؛ كان أحدهما مجتهدًا في العبادة ، وكان الآخر مسرفًا على نفسه ، فكانا متآخين ، فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب ، فيقول : يا هذا أقصر ، فيقول : خلَّني وربي ، أبعثت عليَّ رقيبًا ؟ قال : إلى أن رآه يومًا على ذنب استعظمه ، فقال له : ويحك أقصر ، قال : خلَّني وربِّي ابعثت عليَّ رقيبًا ؟ قال : فقال : واللَّه لا يغفر اللَّهُ لك ، أو لا يدخلك اللَّه الجنة أبدًا ، قال أحدهما : قال : فبعث اللَّه إليهما مَلَكًا فقبض أرواحهما واجتمعا عنده ، فقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : أكنت بي عالمًا ؟ أكنت على ما في يدي خازنًا ؟ اذهبوا به إلى النار . قال : فوالذي نفس أبي القاسم بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته ))([4]) .
خامسًا : من أسباب الحرمان من رحمة اللَّه تبارك وتعالى :
فبالرغم من سعة رحمة اللَّه وعظمتها ، إلاَّ أن هناك من الناس من حرموا أنفسهم منها بذنوبهم ، وسنذكر فيما يلي جانبًا منهم :
أولاً : من لا يَرحم لا يُرحم :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قبَّلَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الحسن بن عليٍّ وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا ، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا . فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : (( من لا يَرْحَمُ ، لا يُرْحَم ))([5]) ، ولِمَ يرحم اللَّه من لم يرحم عباده الذين خلقهم بيده ونفخ فيهم من روحه ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يرحم اللَّه من لا يرحم الناس ))([6]) .
ثانيًا : تعذيب الناس :
فعن ابن مسعود البدري رضي الله عنه قال : كنت أضرب غلامًا لي بالسوط ، فسمعت صوتًا من خلفِي : (( اعْلَمْ أبا مسعود أن اللَّهَ أقدرُ عليك منك على هذا الغلام )) . فقلت : لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا . وفي رواية : فقلت : يا رسول اللَّه ، هو حرٌ لوجه اللَّه ، فقال : (( أما لو لَمْ تَفْعَل لَلَفَحَتْكَ النارُ أو لَمَسَّتْكَ النارُ ))([7]) .
وعن هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنهما قال : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن اللَّه يُعذِّب الذين يُعذّبون الناس في الدنيا )) ([8]).
ثالثًا : تعذيب الحيوانات :
فقد حرَّم اللَّه تعذيب الحيوان والحشرات ، ويعاقب من فعل ذلك ؛ فعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( عُذِّبت امرأةٌ في هِرَّة : حبستها حتى ماتَتْ فدخَلَتْ فيها النار ، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خَشَاشِ الأرض ))([9]) .
رابعًا : الاختلاف والفرقة :
وكفى بنزع الرحمة عن المختلفين ثلاثة أمور كل منها أشد من الأخرى .
الأولى : حرمان المغفرة :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( تُفْتَح أبوابُ الجنةِ يوم الاثنين ويوم الخميس فيُغفَرُ لكلِ عبدٍ لا يُشرك باللَّه شيئًا إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء ، فيقال : أنظِرُوا هَذَيْنِ حتى يصطلحا ، أنظروا هذين حتى يصطلحا ))([10]) .
الثانية : ضياع الهُدى :
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما حُضِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمرُ بن الخطاب ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( هَلمَّ أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده )) . فقال عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسْبُنَا كتابُ اللَّه . فاختلف أهل البيت فاختصموا . منهم من يقول : قرِّبُوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا لن تضلوا بعده . ومنهم من يقول ما قال عمر . فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قوموا عنِّى )) . وكان ابن عباس يقول : إن الرَّزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم([11]) .
الثالثة : إخفاء ليلة القدر عن المسلمين :
عن عبادة بن الصامت قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر ، فتلاحى رجلان من المسلمين ، فقال : (( خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان ، فَرُفعِت ... ))([12]) .
سادسًا : من أسباب رحمة اللَّه لخلقه :
1- طاعة اللَّه ورسوله :
فكلما كان العبدُ أكثر طاعة لله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كلما كان أكثر استحقاقًا لرحمة اللَّه عز وجل . قال تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ آل عمران : 132 ] . وقال عز وجل : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأنعام : 155 ] .
2- الإحسان :
قال اللَّه تبارك وتعالى : { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [ الأعراف : 56 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن اللَّه كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ... ))([13]) .
3- تقوى اللَّه تبارك وتعالى :
فإن كانت رحمة اللَّه قد وسعتْ كل شيء وشملت البر والفاجر ، والمسلم والكافر ، فما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة اللَّه آناء الليل وأطراف النهار وهذا في الدنيا وتلك هي الرحمة العامة ، أما الرحمة الخاصة بدخول الجنة في الآخرة فهي للمؤمنين والمتقين وحدهم . قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 156 ] .
4- صلة الرحم :
عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( قال اللَّه : أنا اللَّه ، وأنا الرحمن ، خلقتُ الرَّحِمَ وشققتُ لها اسمًا من اسمي ، فَمَنْ وصلها وَصلتُه ، ومن قطعها بتَتُّه ))([14]) . وبَتَتُّه : أي قطعتُه .
فانظر أخي الكريم إلى هذه الشكوى المرة من الرحم المقطوعة إلى اللَّه ، وانظر أتحب أن تكون من الواصلين للرحم أم من القاطعين .
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الرحم مشْجَنَةٌ من الرحمن ، تقول : يا ربِّ ، إني قُطِعْتُ ، يا ربِّ إني ظُلمتُ ، يا ربِّ إني أُسئَ إليَّ ، يا ربِّ ، يا ربِّ ، فيُجِيبُها ربُّها عز وجل ، فيقولُ : (( أما تَرْضَيْنَ أن أصِل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ ))([15]) . وفي رواية : (( ألا ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى يا رب ، قال : فذاك )). قال أبو هريرة : اقرؤا إن شئتم : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ]([16]) .
5- التماس مرضاة اللَّه :
عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن العبد ليلتمسُ مرضاةَ اللَّه ، ولا يزالُ بذلك ، فيقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ لجبريل : إن فلانًا عبدي يلتمس أن يرضيني ، ألا وإن رحمتي عليه ، فيقول جبريل : رحمة اللَّه على فلان ، ويقولها حملة العرش ، ويقولها من حولهم حتى يقولها أهل السماواتِ السبعِ ، ثم تَهبِطُ له إلى الأرض ))([17]) .
6- الصبر على الابتلاء :
قال تعالى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 155- 157 ] .
قال ابن كثير : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } أي : ثناءً عليهم ، وقال سعيد بن جبير : أي أمَنَة من العذاب([18]) .
ومن رحمة اللَّه بمن استرجع عند المصيبة أنه يخلف له خيرًا منها . عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( ما من عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتني واخلف لي خيرًا منها ، إلا أجره اللَّه في مصيبته وأخلف له خيرًا منها )) . قالت : فلما تُوفِّيَ أبو سلمة قلتُ كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخلف اللَّهُ لي خيرًا منه ، رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم([19]) . فيا لسعادة أم سلمة ، فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بصبرها .
7- رحمة الناس :
فعن عبد اللَّه بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على المنبر : (( ارحموا تُرْحَمُوا ، واغفروا يَغْفِر اللَّهُ لكم ))([20]) .
من أسامة بن زيد رضي الله عنها أن صبيًا قد رُفع في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ونفسه تقعقع ففاضت عينا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له سعد : ما هذا يا رسول اللَّه ؟ قال : (( هذه رحمةٌ وضعها اللَّهُ في قلوب من شاء من عباده ولا يرحم اللَّه من عباده إلا الرحماء )) .
وفي رواية : (( إنما يرحمُ اللَّه من عباده الرحماء ))([21]) .
(( من رحم رُحم ومن تجاوز تجاوز اللَّهُ عنه )) والجزاء من جنس العمل .
فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( حُوسِب رجلٌ ممن كان قبلكم ، فلم يوجد له من الخير شيءٌ إلا أنه كان يخالطُ الناس ، وكان موسرًا ، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر ، قال : قال اللَّه عز وجل : نحن أحق بذلك منه ، تجاوزوا عنه ))([22]) .
قد يعجب المرءُ من رحمة اللَّه بعبدٍ تجاوز عن فقير فيكافؤه بالنجاة من النار والخلود في الجنة ، ولكنه يكون أكثر عجبًا حين يرحم اللَّهُ امرأة من البغايا ويغفر لها من أجل شربة ماء سقتها لكلب ، فما أرحم اللَّه ، وما أكرمه ، وما أعظمه .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( بينما كلب يُطَيِّفُ بَركِيَّةٍ قد كاد يقتله العطشُ إذ رأته بَغِيُّ من بغايا بني إسرائيل ، فنزعت موقها فاستقت له به فسقته ، فَغُفِر لها به ))([23]) .
8- من جوائز الرحمن لمن رحم إخوانَه :
فمن رحم الناس رحمه الله ، ومن قضى حاجة إخوانه ، قضى اللَّه حاجته، ومن أحسن إلى الناس ، أحسن اللَّه إليه ، والجزاء من جنس العمل .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أحب الناس إلى اللَّه تعالى أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى اللَّه عزَّ وجلَّ سرور يدخله على المسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه دينًا أو يطرد عنه جوعًا ، ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إليَّ من أن اعتكف في هذا المسجد شهرًا ، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ، ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تُهيأ له أثبت اللَّه قدمه يوم تزول الأقدام ، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل ))([24]) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه ، من كان في حاجة أخيه كان اللَّه في حاجته ، ومن فَرَّج عن مسلم كربة ، فرَّجَ اللَّه عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلمًا ستره اللَّه يوم القيامة ))([25]) .
9- الجماعة رحمة :
قال تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } . قيل في هذه الآية المرحومون لا يختلفون .
وقد جاء في بعض الحديث : (( الجماعة رحمة والفرقة عذاب )) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( يد الله مع الجماعة )) . ويقصد بالجماعة : أي جماعة المسلمين والرفقة الصالحة فإن لزومهم كله خير ، فإنهم يذكرونك إن غفلت ، ويعلمونك إن جَهلْتَ ، ويُواسُونَكَ إن أُصِبْتَ . فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم فإنهم زينة في الرخاء ، وعُدَّةٌ في البلاء ، ولا تصاحب إلا الأمين ولا أمين إلا من خشي الله عز وجل ، ولا تصاحب الفاجر فتتعلم من فجوره .
سابعًا : دعاء اللَّه باسميه (( الرحمن ، الرحيم )) :
1- دعاء الثناء والحمد :
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : قال اللَّه تعالى : (( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال اللَّه تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم . قال اللَّه : أثنى عليَّ عبدى ... ))([26]) .
2- ومن ذلك أيضًا دعاء المسألة والطلب :
قال ابن كثير : قال ابن المبارك : الرحمن إذا سُئِل أعطى ، والرحيم إذا لم يُسأل يغضب ، وهذا كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من لم يسأل اللَّهَ يغضب عليه ))([27]) . وقال بعض الشعراء :
لا تسألنَّ بنيَّ آدم حاجة |
| وسل الذي أبوابه لا تحجب |
اللَّه يغضب إن تركت سؤاله |
| وبنيَّ آدم حين يسأل يغضب |
فمن عرف رحمة اللَّه تبارك وتعالى وسَعَتَها ازداد فيها طمعًا واشتد فيما عند اللَّه طلبًا وعزم في سؤال حاجته .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يقولن أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، ليعزم في المسألة ، فإنه لا مُسْتَكْرهِ له )) . وفي رواية : (( وليعزم مسألته إنه يفعل ما يشاء لا مُكْرِه له ))([28]) .
وعن أنس بن مالك قال : قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة : (( ما يمنعك أن تَسمعي ما أُوصيك به ! أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت : يا حيُّ يا قيومُ برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني كلَّه ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ))([29]) .
ومن دعاء المؤمنين ما جاء في قوله تعالى : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ آل عمران : 8 ] . وكان من دعاء أصحاب الكهف لمَّا هجروا قومهم خوفًا منهم وهربًا من طغيانهم وظلمهم فلم يجدوا ملاذًا إلا رحمة اللَّه تعالى ، قال اللَّه عز وجل : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } [ الكهف : 10 ] .
{ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } .
([1]) رواه البخاري ، وروى بعضه مسلم .
([2]) رواه مسلم (4/2755) عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة .
([3]) صحيح أخرجه مسلم (4/137) ، البر والصلة .
([4]) حسن . أخرجه أحمد (ج16/8275) .
([5]) أخرجه البخاي (5997) .
([6]) أخرجه البخاري (13/358) الحديث رقم (7376) .
([7]) رواه مسلم .
([8]) رواه مسلم .
([9]) متفق عليه ، وخشاش الأرض : هوامها ، وحشراتها .
([10]) رواه مسلم ، والشحناء : هي العداوة ، وانْظِروا ، أي : أخِّرُوا .
([11]) رواه البخاري (5669) - كتاب المرض ، وكتاب العلم .
([12]) رواه البخاري .
([13]) رواه مسلم .
([14]) صحيح . أخرجه الترمذي ( ج 4 /1907) ، وأحمد ( ج 3/1686) ، وأبو داود ( ج 2/1694) ، والحميدي ( ج 1 /65) .
([15]) صحيح . أخرجه أحمد (ج19/9871) ، والبخاري في الأدب المفرد (ص 36/35) ، والحاكم (ج4 ص162) ، وابن حبان .
([16]) صحيح . أخرجه البخاري ( ج 8 / 4830) ، ومسلم ( ج 4- البر والصلة - 16) وغيرهما .
([17]) صحيح . أخرجه أحمد (5/279) .
([18]) تفسير ابن كثير (1/188) .
([19]) أخرجه مسلم (918) .
([20]) أخرجه أحمد (2/165، 219) ، والبخاري في الأدب المفرد (380) ، وانظر الصحيحة (480).
([21]) أخرجه البخاري (1284، 5655، 6602) (6655، 7377، 7448) ، ومسلم (923) ، وتقعقع : أي في سكرات الموت .
([22]) صحيح . أخرجه مسلم (ج 3 - المساقاة - 30) ، والبخاري في الأدب المفرد (293) ، والترمذي (ج 3/1307) ، وأحمد ( ج 4 /118) .
([23]) متفق عليه ، يطيف : يدور حول (( رَكِيَّه )) وهي البئر .
([24]) صحيح . السلسلة الصحيحة رقم (906) .
([25]) متفق عليه .
([26]) صحيح أخرجه مسلم ( ج 1 - الصلاة - 38) ، وأحمد ( ج 13/7289) .
([27]) رواه الترمذي ، وابن ماجه من حديث أبي صالح الخوزي .
([28]) أخرجه البخاري (6339، 7447) .
([29]) إسناده حسن ، أخرجه النسائي في (( عمل اليوم والليلة )) (570) ، وابن السني في (( عمل اليوم والليلة )) (48) ، والبزار (3107) (( زوائد )) ، والحاكم (1/545) ، والبيهقي في (( الأسماء )) (ص112) من طرق عن زيد بن الحباب حدثني عثمان بن موهب الهاشمي قال : سمعت أنس بن مالك يقول فذكره . قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي .