مات وهو يُصلي لله ..
عاش بطل قصتنا هذه في كنف اليتم، منذ أن لامست نسمات الهواء الرقيقة تلك الوجنتين، وداعبت يد والدته تلك الشفتين، كان قَدَر هذا الرجل أن ينشأ نشأة نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم يتيماً، وهكذا هي حكايات وروايات الناجحين في الدنيا والآخرة نحسبه كذلك، فلا تسأل عن بره بوالدته رحمها الله تعالى، كيف له أن يجازي تلك المرأة التي منحته كل شيء، فما كان من فرع الشجرة الطيبة إلا العوْدة إلى أصولها ومقابلة الإحسان بأحسن منه..
تزوج أبا عادل فكانت يده الحانية تمسح على رؤوس أبناءه مسحة الحنان والمحبة، وتبعد عنهم تعب الحياة ومشقة الأيام، فلم يضرب ولم يعنِّف، فقد كانت الكلمة الحسنة والنصيحة الحانية عبارة شفتيه وعطف يديه، وليس أدل من ذلك إلا أبناءه الذين إذا نظرت إليهم يملئونك بدفق مشاعر الحب والعفوية، أبو عادل كان صاحب دماثة خلق وابتسامة عالية يقابل بها كل من يصادفه في زمن عقْد الحاجبين وتقطيب الجبين، أما جيرانه فهم يتحدثون بلسان الفاقد المودع: رحل أبو عادل وقد ترك هذا الفراغ في الحي فماذا نتحدث لكم !؟
هل نتحدث عن سلامة قلبه واجتماعيته مع الناس، فالناظر للوهلة الأولى إلى بيته يظنه قصر في بستان الحب والصفاء، لا تسمع ضجيج ولا صخب، وإنما كل ما تسمعه هو منادي الحب وطيور السلام، رحل ولم يشتكي منه أحد من جيرانه، رحل وقد أخذ معه القلب الذي كم تمنينا أن يكون معنا مثله، لكن عزائنا الوحيد أنه انتقل إلى جوار حبيبه وهو أرحم وأكرم به منا..
ومن مناقب هذا الرجل أنه كان محباً للصدقة فطالما أنه كان يحث أبناءه على الصدقة ويذكر لهم الأحاديث في فضائل الصدقات، ولا تتعجبوا فهذه هي قلوب بعض الأيتام قلوب الرحمة والعطف..
كان رحمه الله تعالى يعاني من مرض القلب فنصحه الأطباء بعدم الصيام، لكن هيهات هيهات.. ! إنها قلوب المحبين فأغلى أمانيها سجدة بتأمل، وركعة بتدبر، ودعوة بتبتل، لم يجد راحته إلا في الصيام، فحُبب إليه صيام الاثنين والخميس فكانت أولوية لا يسبق إليها أي شيء، ولم يكتفي بذلك بل كان يلحق معها الأيام البيض..
وكان يوّجه أسرته بصيام يوم عاشوراء وقد تكون أعظم خصلة اتصف بها أنه كان سليم الصدر، يحدث أبناءه عن سلامة الصدر عندما يريدون الخلود للنوم، فهذه هي والله صفات الصالحين..
أما إسدال الستار عن آخر فصل من فصول هذه الحياة الناجحة فهي الخاتمة التي نالها هذا الرجل، يتحدث زوج ابنته: لقد تأثرت بهذه الخاتمة، كان صائماً يوم الأربعاء والذي وافق أن يكون أول أيام البيض، ولم يستطع الصلاة في المسجد لظروفه الصحية حيث صلى في بيته بعد أن أفطر وناجى ربه، وقام واقفاً بين يدي ربه ولسان حاله: (وعجلت إليك ربي لترضى)..
كبّر تكبيرة الإحرام وسرعان ما سقط على وجهه، وفاضت روحه إلى مولاه، والأعجب من ذلك أنه أوصى بدفن جثته في البقيع رغم بعدها عن مسكنه حوالي 700 كم، ورغم أن النظام في مقابر البقيع لا يسمح بالدفن من غير أهل المدينة، إلا أن الله تعالى يسّر لهذا الجسد أن يدفن بجوار خيار الأمة..
ومازال يتحدث زوج ابنته: لقد رأيته يبتسم وهو ميت، كل شيء يشعرك بالفرحة لهذه الخاتمة، نظرات الرضى والرائحة الطيبة وليونة الجسم كلها تدل نهاية مميزة لا تكون إلإ للصالحين، نسأل الله من فضله..
أغلق أبو عادل شارة النهاية على حياته ولكن بطريقة الذين يريدون ما عند الله تعالى سبحانه وتعالى، وهو بذلك يرسل رسالة لي ولك بلسان الحال وهي: كل لذة دون الجنة فانية و وكل بلاء دون النار عافية.
إشراقة:
كان أبو عادل يكثر من هذا الدعاء " اللهم أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق وألحقني بالصالحين " حتى أنه وُجد مكتوباً في ورقة في جيبه عند وفاته وكذلك وجد غرفته.. رحمه الله وغفر له.
مختارات