فقه الفكر والاعتبار في الخلق والأمر (٢)
إن الله عزَّ وجلَّ العليم بما خلق، يخاطب الفطرة البشرية بآيات الله الكونية المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون، والتي يعلم سبحانه أن بينها وبين فطرة الكائن البشري لغة مفهومة، وإيحاءات مسموعة، تؤدي إلى الإيمان بالله، وهذه من أقوى الأدلة المقنعة للقلب والعقل جميعاً.
أما الجدل فإنه لا يصل إلى القلب، ولا يتجاوز منطقة الذهن الباردة، التي لا تدفع إلى حركة، ولا تؤدي إلى بناء حياة.
ولا تزال دلالة وجود الكون ذاته، ثم حركته المنتظمة، تحاصر الهاربين من الله هنا وهناك، وتردهم إليه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠)} [الذاريات: ٤٧ - ٥٠].
والفطرة البشرية بجملتها قلباً وعقلاً، وحساً ووجداناً، تواجه هذه الدلالة، وتستجيب لها، وتتأثر بها، وتدرك أن خالق هذا الكون هو الحق، وأن ما شرعه هو الحق، وأن وعده هو الحق.
إن بين الفطرة البشرية، وبين هذا الكون الذي نعيش فيه لغة خفية غنية، تسمع لهذا الكون وتعقل عنه.
إن النظر إلى ما في السموات والأرض يمد القلب والعقل بزاد من المشاعر والتأملات.
وزاد من الاستجابات والتأثرات.
وزاد من سعة الشعور بالوجود.
وزاد من التعاطف مع هذا الوجود.
وذلك كله يملأ القلب بالإيمان، ويوحي إليه بوجود الله، وبجلال الله، وتدبير الله، وبحكمة الله، وبعلم الله، وبرحمة الله.
فإذا كان الإنسان مهتدياً بنور الله، إلى جوار هذه المعارف العلمية عن هذا الكون، زادته هذه المعارف من الزاد الذي يحصل من التأمل في هذا الكون والأنس به، والاشتراك معه في تسبيحه بحمد الله، ولا يفقه تسبيح كل شيء بحمد الله إلا الموصول قلبه بالله.
وأما إن كانت هذه المعارف العلمية غير موصولة بالله، وغير مصحوبة ببشاشة الإيمان ونوره، فإنها تقود الأشقياء إلى مزيد من الشقوة، والبعد عن الله، والحرمان من بشاشة الإيمان، وفقد الأنس بالله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠١)} [يونس: ١٠١].
وماذا تجدي الآيات والنذر إذا استغلقت القلوب، وتجمدت العقول، وتعطلت أجهزة الاستقبال والتلقي في الفطرة، واحتجب الإنسان بجملته عن هذا الوجود، فلم يسمع ولم يرَ ولم يتدبر؟.
إن كتاب الله تبارك وتعالى مملوء بالتعريف بعظمة الرب سبحانه.
فقد جعل الله هذا الكون العظيم معرضاً جميلاً واسعاً.
تتجلى فيه عظمة الخالق.
وعظمه أسمائه وصفاته.
وعظمه أفعاله.
وعظمة مخلوقاته.
في معرض كوني كبير.
مفتوح طول الحياة لعموم البشرية.
يتجولون فيه فيزيد إيمانهم.
وتقوى عباداتهم.
فلا يحرم من نظر إلى ذلك وتأمله من الإيمان إلا محروم: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠)} [الأنبياء: ٣٠].
مختارات

