103. معاذ بن عمرو بن الجموح وأخوه معوذ
معاذ بن عمرو بن الجموح وأخوه معوذ
"ما سرني أنني كنت واقفا بين رجلين غيرهما كائنا من كانا؛ غير الرسول " [عبد الرحمن بن عوف]
بينما كان الفتى معاذ بن عمرو بن الجموح في جماعة من أترابه (١) يسرحون ويمرحون بين الماء والظلال والخضرة؛ طلع عليهم الداعية المكي الشاب مصعب بن عمير (٢) رضوان الله عليه؛ فحياهم في رقة وأنس، وخاطبهم في حب ووداد وقال:
ألا تجلسون إلي ساعة؛ فأحدثكم بما عندي …
فإن سركم ما تسمعون؛ أتممت …
وإن أضجركم؛ أمسكت.
فنظر الفتية الأيفاع (٣) بعضهم إلى بعض نظرات فيها كثير من الرضى والاطمئنان، وقالوا: بلى.
ثم انتظموا حوله كما تنتظم حبات العقد الأنيق حول الجيد الأبلج (٤).
فاتجه مصعب إليهم بوجهه الطلق (٥) المأنوس …
وخاطبهم ببيانه العذب المشرق.
وطفق يحدثهم عن مزايا الإسلام …
ويزين في قلوبهم حلاوة الإيمان …
ويكره إليهم الكفر وعبادة الأوثان.
فما كاد يتم كلامه؛ حتى تألق وجه معاذ بن عمرو بن الجموح بنور الإيمان … ثم نظر إليه وقال:
كيف أصنع إذا أردت الدخول في هذا الدين؟.
فقال: تقوم إلى هذه البئر؛ فتتطهر بمائها.
ثم تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه.
ثم توجه وجهك للذي فطر (٦) السموات والأرض، وتصلي ركعتين …
فقال معاذ: كأن أول هذا الدين طهارة للبدن بالوضوء …
ونهايته طهارة للروح بالصلاة.
فتبسم مصعب بن عمير إعجابا به وقال:
ما أسرع ما فقهت (٧) يا معاذ.
ثم قام معاذ إلى الماء فتطهر، وشهد الشهادتين، وصلى ركعتين …
فما إن رآه أخواه معوذ وخلاد حتى أسلما بإسلامه، وفعلا فعله، ودخلا في دين الله معه.
* * *
كان والد معاذ عمرو بن الجموح (٨) - إذ ذاك - شيخا كبيرا طاعنا (٩) في السن.
وكان له صنم يدعى "مناة" اتخذه من نفيس الخشب، وأسبغ عليه كثيرا من الرواء والبهاء (١٠).
ونافس فيه أمثاله من الأشراف.
ونذر نفسه لسدانته (١١) …
فكان يغدو عليه إذا أصبح، ويروح إليه إذا أمسى.
وكان لا يفتأ يضمخه (١٢) بأطيب الطيوب.
ويقرب له أعز القرابين (١٣).
فوجد معاذ أنه لا سبيل إلى إسلام أبيه ما لم ينتزع هذا الصنم من حياته.
وكان يعلم أن أباه الشيخ لا يطيق أن يسمع كلمة في صنمه تسوءه، وأنه من المحال أن يتخلى عنه؛ بعد هذه الصحبة الطويلة؛ للوم اللائمين …
أو حجاج المحاجين.
فعزم على أن يسلك لغايته طريقا آخر غير طريق الإقناع؛ مستعينا بإخوته وأترابه.
* * *
ففي ذات ليلة؛ عمد هو وأخواه معوذ وخلاد وأتراب لهم من غلمان بني سلمة إلى "مناة"؛ فانترعوه من مكانه في هدوء.
ومضوا به إلى حفرة خلف البيوت؛ ترمى فيها الأقذار.
وطرحوه في أعماقها أرضا، وعادوا أدراجهم (١٤).
ثم ناموا مع النائمين؛ وكأن شيئا لم يقع …
فلما أصبح الشيخ مضى - على عادته - إلى صنمه؛ فلم يجده.
فاستشاط غضبا (١٥)، وطفق يبحث عنه في كل مكان إلى أن وجده؛ مكبا على وجهه في الحفرة …
فاستخرجه منها وغسله بالماء الطهور، وطيبه بأغلى الطيب، وبوأه (١٦) مكانه الذي كان فيه.
* * *
وكرر معاذ وصحبه صنيعهم بالصنم مثنى وثلاث، ودأب الشيخ على إخراجه من الحفرة في كل مرة وغسله وتطييبه.
فلما كانت الليلة الرابعة أدركه الملل؛ فراح إلى الصنم قبل منامه، وأخذ سيفا مسنونا وعلقه برقبته، وقال له:
يا "مناة"؛ إن كنت إلها حقا؛ فادفع عن نفسك أولئك الذين يبغون (١٧)
عليك، ويسيئون إليك.
وهذا السيف معك؛ فافعل به ما تشاء.
فلما أصبح؛ وجد صنمه في الحفرة نفسها، وقد قرن إلى كلب ميت.
فلم يخرجه هذه المرة من مكانه.
وإنما تركه حيث هو، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله …
* * *
طاب معاذ وأخواه بإسلام أبيهم نفسا، وقروا (١٨) بإيمانه عينا …
فقد تحول البيت المؤمن إلى معقل من معاقل (١٩) الإسلام في يثرب؛ بعد أن دان كل من فيه بدين الإسلام.
واستضاء جميع سكانه بنبوة محمد رسول الله ﷺ.
* * *
ولم يمض غير قليل على إسلام معاذ بن عمرو؛ حتى قدم الرسول صلوات الله وسلامه عليه المدينة مهاجرا.
فأقبل عليه معاذ وإخوته إقبال الظامئ على الماء البرود.
وتعلقوا به تعلق الأم بوحيدها.
ولازموه ملازمة المحب لحبيبه.
فكانوا يغدون معه إذا غدا …
ويروحون معه إذا راح …
ويصلون خلفه إذا حضرت الصلاة.
ويشهدون موعظته وهديه إذا جلس يعظ أصحابه، ويفقههم بدين الله …
حتى غدا معاذ وإخوته؛ ريحانة من رياحين فتيان يثرب.
وقرة عين الإسلام وأهله.
* * *
ثم مرت الأيام على الفتية الصغار الأبرار سراعا خفافا …
ووقعت غزوة بدر العظمى …
فكان لمعاذ وأخيه معوذ فيها موقف مشهود مشهور؛ دونه تاريخ الإسلام في أنصع صفحاته بأحرف من نور.
فلنلق السمع إلى الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف (٢٠) رضوان الله عليه.
ولنستمع إلى طرف من أخباره عنهما …
فلقد رأى منهما ما أثار دهشته وإعجابه …
* * *
قال عبد الرحمن بن عوف:
بينا كنت واقفا يوم بدر بالصف؛ نظرت حولي … فإذا عن يميني وشمالي؛ غلامان صغيرا السن من غلمان الأنصار.
فغمزني أحدهما …
فدنوت منه وقلت: أتغمزني أنا يا بني؟.
قال: نعم.
قلت: وما تريد؟.
فقال: أتعرف أبا جهل (٢١) يا عم؟.
فقلت: نعم.
فقال: دلني عليه.
فقلت: وما حاجتك به يا ابن أخي؟!.
فقال: أخبرت أنه يسب الرسول، ويأتمر بقتله …
والذي نفسي بيده لئن رأيته لأهاجمنه، ثم لا أكف عنه حتى يموت الأسبق منا أجلا …
فنظرت إليه مبتسما متعجبا، وقلت: من أنت؟!.
فقال: معاذ بن عمرو بن الجموح.
ثم اعتدلت في الصف؛ فدنا مني الآخر وغمزني.
فملت إليه؛ فقال لي نحوا من مقالة صاحبه.
فقلت له: من أنت؟!.
فقال: معوذ بن عمرو.
فقلت: ومن هذا الواقف عن يميني؟.
فقال: هو أخي معاذ.
فما سرني أنني كنت واقفا بين رجلين غيرهما كائنا من كانا؛ غير الرسول.
* * *
وما هو إلا قليل؛ حتى رأيت أبا جهل يجول في قريش.
فالتفت إليهما وقلت: يا ابني أخي …
ألا تريان هذا الذي يجول في الناس؟.
قالا: بلى.
قلت: هذا صاحبكما الذي تسألان عنه.
* * *
قال معاذ:
فما إن عرفت أبا جهل، وتثبت منه؛ حتى قصدت جهته.
وكان المشركون يلتفون حوله؛ كأنه في غابة من الرجال …
فقال لي رجل من المسلمين كان يرمقني (٢٢):
إياك وأبا جهل يا غلام …
فإن الوصول إليه مطلب عسير عليك …
فوالله ما زادتني مقالته إلا إصرارا وعزما.
ثم اندفعت نحوه؛ فلما تمكنت منه … وثبت عليه وضربته بالسيف ضربة أهوت بساقه على الأرض.
وكان أخي معوذ يتبعني.
فلما غدا فوق أبي جهل؛ أكب عليه بسيفه، وطفق يعمله فيه.
ورماح المشركين تدفعه عنه، وتنوشه من كل جانب حتى أثخنته (٢٣) الجراح؛ فسقط شهيدا إلى جانبه.
أما أنا؛ فقد أهوى ابنه عكرمة بن أبي جهل (٢٤) على كتفي بسيفه؛ فطرح يدي اليسرى عن عاتقي …
لكنها بقيت معلقة بجلدة في جنبي.
فمضيت أقاتل سحابة النهار كله، وأنا أجرها خلفي جرا.
فلما آذتني، وصارت تعوقني عن القتال …
جعلت كفها على الأرض، ووضعت قدمي عليه، ثم ما زلت أتمطى حتى فصلتها عن جسدي … وطرحتها أرضا.
* * *
ولما وضعت (٢٥) المعركة أوزارها؛ جاء المبشر يبشر الرسول بمصرع أبي جهل … فقال للمبشر:
(آلله الذي لا إله غيره تم ذلك)؟.
فقال: نعم يا رسول الله؛ لقد لقي حتفه …
فقال: (الله أكبر … الله أكبر …
الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده).
* * *
وبعد …
فلقد ظل معاذ بن عمرو بن الجموح يناضل عن حياض الإسلام بيد واحدة زمن الرسول صلوات الله وسلامه عليه …
وزمن صاحبيه أبي بكر، وعمر ﵄ …
وفي خلافة ذي النورين عثمان بن عفان (٢٦)؛ لبى معاذ نداء ربه …
وقد مضت يمناه معه …
أما يده الأخرى …
فكان يرجو أن تسبقه إلى جنات النعيم (*).
_________
(١) الأتراب: مفردها ترب، وتربك: صديقك أو من ولد معك أو كان في سنك.
(٢) مصعب بن عمير: انظره ص ٣٨٩.
(٣) اليفاعة: أوائل الصبا.
(٤) الأبلج: المشرق الوضاء.
(٥) الطلق: المشرق المستبشر.
(٦) فطر: خلق وأنشأ.
(٧) الفقه: الفهم والوعي بما يلقى عليك.
(٨) عمرو بن الجموح: انظره في الكتاب الأول من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٩) طاعنا في السن: متقدما في السن.
(١٠) الرواء والبهاء: الجمال والحسن.
(١١) سدانة: خدمة.
(١٢) يضمخه: يدهنه.
(١٣) القرابين: جمع قربان؛ وهي كل ما يتقرب به إلى الله.
(١٤) عادوا أدراجهم: رجعوا من حيث أتوا.
(١٥) فاستشاط غضبا: اشتعل غضبا.
(١٦) بوأه: أحله.
(١٧) يبغون عليك: يعتدون عليك.
(١٨) قروا به عينا: أي فرحوا واستبشروا.
(١٩) المعاقل: الحصون.
(٢٠) عبد الرحمن بن عوف: انظره في الكتاب الرابع من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٢١) أبو جهل: انظر مصرعه في كتاب "حدث في رمضان" للمؤلف؛ الناشر دار الأدب الإسلامي.
(٢٢) يرمقني: ينظر إلي.
(٢٣) أثخنته الجراح: أضعفته وأوهنت قواه.
(٢٤) عكرمة بن أبي جهل: انظره في الكتاب الثاني من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٢٥) وضعت المعركة أوزارها: توقفت وهدأت.
(٢٦) عثمان بن عفان: انظره في الكتاب الثامن من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
مختارات