63. سالم مولى أبي حذيفة
سالم مولى أبي حذيفة
"لو كان سالم حيا لوليته الأمر من بعدي"
[عمر بن الخطاب]
أعتقت "ثبيتة بنت يعار" غلامها سالما وهو يومئذ فتى يافع (١) يقترب من الحلم (٢)، وقد دعاها إلى تحريره ما كانت ترى فيه من رقة الشمائل (٣)، ونبالة الخصائل (٤)، وآيات النجابة …
وما تلمح في سلوكه من أمارات (٥) الخير والبر.
فشق على زوجها الشاب "أبي حذيفة بن عتبة" أحد سراة (٦) بني "عبد شمس" أن يسرح سالم في هذه السن المبكرة، وأن يوكل أمره إلى نفسه، فأخذه بيده ومضى به إلى الحرم، وانتصب قائما في جموع قريش المنتثرة حول الكعبة وقال:
اشهدوا يا معشر قريش أني قد تبنيت (٧) سالما هذا؛ بعد أن أعتقته زوجتي "ثبيته" …
وأنه غدا مني بمنزلة الابن من أبيه، فقالت قريش:
نعم ما صنعت يا بن عتبة.
ومنذ ذلك اليوم أصبح الفتى يدعى: سالم بن أبي حذيفة.
* * *
وما هو إلا قليل حتى انبثق (٨) من بطحاء مكة قبس (٩) من النور الإلهي، وبعث الله نبيه بدين الهدى والحق، فكان أبو حذيفة وابنه سالم من أوائل من أشرقت نفوسهم بهذا الضياء القدسي (١٠).
واستنارت قلوبهم بنوره.
فمضى الأب وابنه إلى رسول الله، وأعلنا إسلامهما بين يديه …
وشهدا معا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده وخاتم رسله.
* * *
لم يمض غير قليل على دخول أبي حذيفة وابنه سالم في دين الله حتى أبطل الإسلام طريقة التبني …
وأمر الناس برد الأبناء إلى آبائهم حفظا للأنساب، وإقلاعا عن مسلك من مسالك الجاهلية … ونزل قول الله ﷿ في شأن المتبنين:
﴿ادعوهم لآبائهم﴾ (١١).
فاستجاب المسلمون إلى أمر ربهم … وهبوا يبحثون عن أنساب من تبنوهم، ويتعرفون على آبائهم، ويردونهم إليهم.
لكن أبا حذيفة لم يهتد إلى والد سالم على الرغم من كثرة البحث والتنقيب، ذلك لأن سالما سبي (١٢) صغيرا، وجلب إلى مكة، وبيع في سوق النخاسين (١٣) وهو في سن لا تمكنه من أن يعرف لنفسه أبا أو أما.
فأطلق عليه الناس اسم "سالم مولى أبي حذيفة".
وظل يعرف بذلك ما امتدت به الحياة.
* * *
غير أن العلاقة بين أبي حذيفة وسالم لم تكن علاقة مولى (١٤) بمولاه …
وإنما هي علاقة أخ بأخيه بعد أن وحد الإسلام بين قلبيهما، وآخى الإيمان بين نفسيهما …
وغمر فؤاديهما (١٥) حب الله ورسوله.
وقد أراد أبو حذيفة أن يزيد صلته بسالم رسوخا (١٦) وعمقا، وأن يقضي على كل أثر من آثار العصبيات (١٧) الجاهلية التي وأدها الإسلام …
فزوج سالما من ابنة أخيه القرشية "العبشمية" (١٨) ذات الحسب والنسب …
فأصبح أخا له في الله، وواحدا من ذوي قرباه …
* * *
لم يمض على ذلك طويل وقت حتى فرقت بين الأخوين الأحداث الجسام التي كابد (١٩) منها المسلمون الأولون ما كابدوا، وعانوا من قسوتها ما عانوا …
فمضى أبو حذيفة إلى "الحبشة" مهاجرا إلى الله بدينه وإيمانه، فارا بعقيدته من أذى قريش …
أما سالم فقد آثر (٢٠) أن يبقى في مكة مع رسول الله صلوات الله وسلامه
عليه، وأن يكب (٢١) على كتاب الله جل وعز؛ ليأخذه غضا طريا كلما أنزل على النبي، فطفق يتلو آياته البينات في خشوع …
ويستظهر سوره المنزلة في فهم وتدبر، حتى غدا واحدا من كبار حملة القرآن على عهد النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وأصبح رابع أربعة أوصى الرسول الكريم ﷺ بأن يؤخذ عنهم القرآن فقال:
(استقرئوا (٢٢) القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود (٢٣) … وسالم مولى أبي حذيفة … وأبي بن كعب … ومعاذ بن جبل (٢٤).
.
).
* * *
وقد عرف الصحابة الكرام لسالم فضله عليهم في حفظه لكتاب الله وإتقانه له، وتدبره لمعانيه، وإدراكه لمراميه.
فلما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة …
دعوا سالما ليؤمهم في الصلاة.
فما زال يصلي بهم حتى قدم الرسول مع أنه كان فيهم عمر بن الخطاب، وطائفة كبيرة من جلة الصحابة (٢٥).
* * *
ثم شاء الله أن يجمع بين سالم وأخيه في الله أبي حذيفة بعد الهجرة …
وأن يمضيا إلى "بدر" جنبا إلى جنب، مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
وفيما كان المسلمون يستعدون ليزال المشركين قال سالم لأخيه أبي حذيفة:
انظر يا أبا حذيفة، هذا أبوك عتبة بن ربيعة يتقدم الصفوف، ويتأهب للقضاء على الإسلام والمسلمين.
فقال أبو حذيفة: نعم، لقد رأيته … وهذان عدوا الله عمي شيبة بن ربيعة، وأخي الوليد بن عتبة؛ يحيطان به …
ولو أذن لي رسول الله ؛ لبارزتهم واحدا بعد آخر وأوردتهم موارد الردى (٢٦)، أو أمضي إلى جوار ربي راضيا مرضيا.
* * *
ولما انتهت المعركة وقف سالم وأبو حذيفة ينظران إلى القتلى، فإذا عتبة والد أبي حذيفة، وشيبة عمه، والوليد أخوه …
قد لقوا مصارعهم (٢٧)، فقال أبو حذيفة:
الحمد لله الذي أقر عين نبيه بمقتلهم جميعا.
* * *
ثم ما فتئ الأخوان في الله يجاهدان تحت راية الرسول الأعظم ﷺ معا في كل غزوة غزاها في حياته، ويؤديان حق الله ورسوله عليهما إلى أن كان يوم "اليمامة" في عهد الصديق.
.
ففي ذلك اليوم العظيم من أيام الله هب أبو بكر رضوان الله عليه لقتال مسيلمة الكذاب …
واستنفر (٢٨) المسلمين في كل مكان للقضاء على فتنته العمياء التي أوشكت أن تودي (٢٩) بالإسلام، وتدمر أهله.
فبادر سالم وأبو حذيفة للذود عن دين الله، ونفرا لقتال مسيلمة عدو الله.
* * *
التقى الجمعان على أرض اليمامة ودارت بينهما معركتان طاحنتان قلما شهد تاريخ الحروب لهما نظيرا.
فقد أبدى فيها المسلمون بقيادة عكرمة بن أبي جهل (٣٠) وخالد بن الوليد ﵄، من ضروب الشجاعة ما يعجز عن وصفه الواصفون.
.
كما أبدى فيها المرتدون بقيادة مسيلمة ما لا يقل عن ذلك شجاعة وإقداما وبذلا.
لكن النصر في هاتين المعركتين كان حليف (٣١) مسيلمة الكذاب …
حتى إن رجاله اقتحموا فسطاط (٣٢) خالد بن الوليد، وكادوا أن يسبوا (٣٣) زوجته لولا أن أجارها رجل منهم.
* * *
عند ذلك دبت الحمية في صدور المسلمين، وبرز بينهم أبطال غر ميامين (٣٤) …
باعوا لله نفوسا تموت اليوم أو غدا، بنفوس لا تموت أبدا …
وأعاد خالد بن الوليد تعبئة (٣٥) جيشه، فأسلم لواء (٣٦) المهاجرين لسالم مولى أبي حذيفة …
وأسلم لواء الأنصار لثابت بن قيس (٣٧).
ووقف زيد بن الخطاب يحرض المسلمين على القتال فقال:
أيها الناس، عضوا على أضراسكم (٣٨)، واضربوا في عدوكم، وامضوا قدما …
أيها الناس، والله لا أتكلم بعد هذه الكلمة أبدا حتى يهزم الله مسيلمة الكذاب ومن معه أو أقتل؛ فألقى الله بحجتي.
ثم انطلق يشق الصفوف، وظل يقاتل حتى قتل.
ثم تلاه أبو حذيفة وهو ينادي:
يا أهل القرآن زينوا القرآن بفعالكم …
ثم هب يجاهد حتى استشهد مقبلا غير مدبر.
وأما سالم مولى أبي حذيفة فتوجه إلى المهاجرين وقال:
بئس حامل القرآن أنا إن أتي المسلمون من قبلي (٣٩) …
ثم اندفع يجالد عن راية بني قومه حتى قطعت يمينه …
فأخذ الراية بشماله، وناضل عنها حتى قطعت شماله فأخذ الراية بعضديه …
وثبت بها حتى أثخنته (٤٠) الجراح، وسقط على الأرض مضرجا بدمائه.
* * *
ولما وضعت المعركة أوزارها (٤١) وقف خالد بن الوليد على سالم مولى أبي حذيفة، وكان ما يزال به رمق (٤٢)؛ فقال له سالم:
ما صنع المسلمون يا خالد؟.
فقال: كتب الله لهم النصر … وقتل لهم مسيلمة الكذاب … وهزم لهم جنده، وأتباعه.
فقال: وما فعل أخي أبو حذيفة؟.
فقال: مضى إلى ربه مقبلا غير مدبر، وقتل شهيدا …
فقال: أضجعوني إلى جانبه …
فقال: ها هو ذا موسد عند قدميك.
فأغمض عينيه وهو يقول:
معا هنا يا أبا حذيفة، ومعا هناك إن شاء الله …
ولفظ آخر أنفاسه (*).
_________
(١) اليافع: الذي قارب البلوغ.
(٢) الحلم: بلوغ سن الشباب.
(٣) رقة الشمائل: رقة طباعه.
(٤) الخصائل: الخلال والصفات.
(٥) أمارات: علامات.
(٦) سراة بفتح السين: الأشراف.
(٧) التبني: نسبة الولد الغريب إلى الإنسان.
(٨) انبثق: انفجر وفاض.
(٩) قبس: شعلة النار تؤخذ من معظم النار.
(١٠) القدسي: الطاهر المبارك.
(١١) سورة الأحزاب: آية ٥.
(١٢) سبي: أسر واسترق.
(١٣) النخاسون: بائعو العبيد، والمفرد نخاس.
(١٤) علاقة مولى بمولاه: علاقة العبد بسيده.
(١٥) غمر فؤاديهما: ملأ فؤاديهما.
(١٦) رسوخا: ثباتا.
(١٧) العصبيات: شدة ارتباط المرء بجماعته وانحيازه لها.
(١٨) العبشمية: المنسوبة إلى عبد شمس.
(١٩) كابد: عانى وذاق الآلام.
(٢٠) آثر: فضل.
(٢١) أكب على الأمر: عكف عليه وانقطع له.
(٢٢) استقرئوا القرآن: اطلبوا قراءة القرآن.
(٢٣) عبد الله بن مسعود: انظره ص ٩٧.
(٢٤) معاذ بن جبل: انظره ص ٤٩٣.
(٢٥) من جلة الصحابة: سادة الصحابة وعظمائهم.
(٢٦) موارد الردى: موارد الموت والهلاك.
(٢٧) مصارعهم: حتفهم.
(٢٨) استنفر المسلمين: استحثهم على الجهاد.
(٢٩) أوشكت أن تودي: كادت أن تهلك.
(٣٠) عكرمة بن أبي جهل: انظره ص ١١٥.
(٣١) حليف مسيلمة: الحليف الذي بينه وبين غيره عهد على النصرة.
(٣٢) فسطاط خالد: خيمة خالد.
(٣٣) يسبوا زوجته: يأسرونها.
(٣٤) غر ميامين: ذوو النجدة والمروءة.
(٣٥) تعبئة جيشه: تجميع جيشه وترتيبه.
(٣٦) لواء المهاجرين: راية المهاجرين.
(٣٧) ثابت بن قيس: انظره ص ٤٥٩.
(٣٨) عضوا على أضراسكم: تمسكوا بما أنتم فيه.
(٣٩) من قبلي: من ناحيتي.
(٤٠) أثخنته الجراح: كثرت عليه وأضعفته.
(٤١) وضعت المعركة أوزارها: توقفت وانتهت.
(٤٢) رمق: بقية الحياة.
مختارات