40. حكيم بن حزام
حكيم بن حزام
"إن بمكة لأربعة نفر أربأ بهم عن الشرك
وأرغب لهم في الإسلام … أحدهم حكيم بن حزام"
[محمد رسول الله]
هل أتاك نبأ هذا الصحابي؟!.
لقد سجل التاريخ أنه المولود الوحيد الذي ولد داخل الكعبة المعظمة …
أما قصة ولادته هذه، فخلاصتها أن أمه دخلت مع طائفة من أترابها (١) إلى جوف الكعبة للتفرج عليها …
وكانت يومئذ مفتوحة لمناسبة من المناسبات.
وكانت والدته آنذاك حاملا به، ففجأها المخاض (٢) وهي في داخل الكعبة؛ فلم تستطع مغادرتها …
فجيء لها بنطع (٣) فوضعت مولودها عليه …
وكان ذلك المولود حكيم بن حزام بن خويلد …
وهو ابن أخي أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد ﵂ وأرضاها.
* * *
نشأ حكيم بن حزام في أسرة عريقة النسب (٤)، عريضة الجاه، واسعة الثراء.
وكان إلى ذلك عاقلا سريا (٥) فاضلا؛ فسوده قومه (٦)، وأناطوا به (٧) منصب الرفادة (٨).
فكان يخرج من ماله الخاص ما يرفد به المنقطعين من حجاج بيت الله الحرام في الجاهلية …
وقد كان حكيم صديقا حميما (٩) لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه قبل أن يبعث.
هو وإن كان أكبر من النبي الكريم ﷺ بخمس سنوات؛ إلا أنه كان يألفه، ويأنس به، ويرتاح إلى صحبته ومجالسته.
وكان الرسول ﷺ يبادله ودا بود، وصداقة بصداقة.
ثم جاءت آصرة القربى (١٠) فوثقت (١١) ما بينهما من علاقة، وذلك حين تزوج النبي ﷺ من عمته خديجة بنت خويلد ﵂.
* * *
وقد تعجب بعد كل الذي بسطناه لك من علاقة حكيم بالرسول إذا علمت أن حكيما لم يسلم إلا يوم الفتح (١٢)، حيث كان قد مضى على بعثة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ما يزيد على عشرين عاما!!.
فقد كان المظنون برجل مثل حكيم بن حزام حباه الله (١٣) ذلك العقل الراجح، ويسر له تلك القربى القريبة من النبي صلوات الله عليه، أن يكون أول المؤمنين به، المصدقين لدعوته، المهتدين بهديه.
ولكنها مشيئة الله …
وما شاء الله كان …
* * *
وكما نعجب نحن من تأخر إسلام حكيم بن حزام، فقد كان يعجب هو نفسه من ذلك.
فهو ما كاد يدخل الإسلام ويتذوق حلاوة الإيمان، حتى جعل يعض بنان الندم (١٤) على كل لحظة قضاها من عمره وهو مشرك بالله مكذب لنبيه.
فلقد رآه ابنه بعد إسلامه يبكي، فقال: ما يبكيك يا أبناه؟!.
قال: أمور كثيرة كلها أبكاني يا بني:
أولها بطء إسلامي مما جعلني أسبق إلى مواطن (١٥) كثيرة صالحة حتى لو أنني أنفقت ملء الأرض ذهبا لما بلغت شيئا منها.
ثم إن الله أنجاني يوم "بدر" و "أحد" فقلت يومئذ في نفسي:
لا أنصر بعد ذلك قريشا على رسول الله ﷺ ولا أخرج من مكة، فما لبثت أن جررت إلى نصرة "قريش" جرا.
ثم إنني كنت كلما هممت بالإسلام، نظرت إلى بقايا من رجالات
قريش لهم أسنان (١٦) وأقدار متمسكين بما هم عليه من أمر الجاهلية، فأقتدي بهم وأجاريهم …
ويا ليت أني لم أفعل …
فما أهلكنا إلا الاقتداء بآبائنا وكبرائنا …
فلم لا أبكي يا بني؟!!.
* * *
وكما عجبنا نحن من تأخر إسلام حكيم بن حزام، وكما كان يعجب هو نفسه من ذلك أيضا، فإن النبي صلوات الله وسلامه عليه كان يعجب من رجل له مثل حلم (١٧) حكيم بن حزام وفهمه، كيف يخفى عليه الإسلام وكان يتمنى له وللنفر (١٨) الذين هم على شاكلته (١٩) أن يبادروا إلى الدخول في دين الله.
ففي الليلة التي سبقت فتح مكة قال لأصحابه:
(إن بمكة لأربعة نفر أربأ (٢٠) بهم عن الشرك، وأرغب لهم في الإسلام)
قيل: ومن هم يا رسول الله؟.
قال: (عتاب بن أسيد، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو (٢١).
ومن فضل الله عليهم أنهم أسلموا جميعا …
* * *
وحين دخل الرسول صلوات الله وسلامه عليه مكة فاتحا؛ أتى إلا أن يكرم حكيم بن حزام فأمر مناديه أن ينادي:
من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله فهو آمن …
ومن جلس عند الكعبة فوضع سلاحه فهو آمن.
ومن أغلق عليه بابه فهو آمن …
ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن …
ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن …
وكانت دار حكيم بن حزام في أسفل مكة، ودار أبي سفيان في أعلاها.
* * *
أسلم حكيم بن حزام إسلاما ملك عليه لبه، وآمن إيمانا خالط دمه ومازج قلبه …
والى (٢٢) على نفسه أن يكفر عن كل موقف وقفه في الجاهلية، أو نفقة أنفقها في عداوة الرسول ﷺ بأمثال أمثالها.
وقد بر بقسمه …
من ذلك أنه آلت إليه (٢٣) دار الندوة وهي دار عريقة ذات تاريخ …
ففيها كانت تعقد قريش مؤتمراتها في الجاهلية، وفيها اجتمع سادتهم وكبراؤهم ليأتمروا برسول الله (٢٤) ﷺ.
فأراد حكيم بن حزام أن يتخلص منها - وكأنه كان يريد أن يسدل ستارا من النسيان على ذلك الماضي البغيض - فباعها بمائة ألف درهم، فقال له قائل من فتيان قريش:
لقد بعت مكرمة (٢٥) قريش يا عم.
فقال له حكيم: هيهات (٢٦) يا بني، ذهبت المكارم كلها ولم يبق إلا التقوى، وإني ما بعتها إلا لأشتري بثمنها بيتا في الجنة …
وإني أشهدكم أنني جعلت ثمنها في سبيل الله ﷿.
* * *
وحج حكيم بن حزام بعد إسلامه، فساق أمامه مائة ناقة مجللة بالأثواب الزاهية ثم نحرها جميعها تقربا إلى الله …
وفي حجة أخرى وقف في عرفات، ومعه مائة من عبيده وقد جعل في عنق كل واحد منهم طوقا من الفضة، نقش عليه:
عتقاء لله ﷿ عن حكيم بن حزام.
ثم أعتقهم جميعا …
وفي حجة ثالثة ساق أمامه ألف شاة - نعم ألف شاة - وأراق دمها كلها في "منى"، وأطعم بلحومها فقراء المسلمين تقربا لله ﷿.
* * *
وبعد غزوة "حنين" سأل حكيم بن حزام رسول الله ﷺ من الغنائم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، حتى بلغ ما أخذه مائة بعير - وكان يومئذ حديث
إسلام - فقال له الرسول صلوات الله وسلامه عليه:
يا حكيم:
(إن هذا المال حلوة خضرة (٢٧) …
فمن أخذه بسخاوة نفس (٢٨) بورك له فيه …
ومن أخذه بإشراف نفس (٢٩) لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع …
واليد العليا خير من اليد السفلى).
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك من الرسول قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أسأل أحدا بعدك شيئا …
ولا أخذ من أحد شيئا حتى أفارق الدنيا …
وبر حكيم بقسمه أصدق البر.
ففي عهد أبي بكر دعاه الصديق أكثر من مرة لأخذ عطائه (٣٠) من بيت مال المسلمين فأبى أن يأخذه …
ولما آلت الخلافة إلى الفاروق دعاه إلى أخذ عطائه فأبى أن يأخذ منه شيئا أيضا …
فقام عمر في الناس وقال:
أشهدكم يا معشر المسلمين أني أدعو حكيما إلى أخذ عطائه فيأبي.
وظل حكيم كذلك لم يأخذ من أحد شيئا حتى فارق الحياة (*) …
_________
(١) أترابها: لداتها وصويحباتها.
(٢) فجأها المخاض: أتاها الطلق فجأة.
(٣) النطع: قطعة من الجلد.
(٤) عريقة النسب: كريمة الآباء والأجداد.
(٥) السري: الشريف.
(٦) سوده قومه: جعلوا له السيادة عليهم.
(٧) أناطوا به: أسندوا إليه.
(٨) الرفادة: أحد مناصب قريش في الجاهلية، ويقوم صاحبه بمعونة المحتاجين والمنقطعين من الحجاج.
(٩) صديقا حميما: صديقا متين الصداقة.
(١٠) آصرة القربي: علاقة القربى.
(١١) وثقت: قوت ومتنت.
(١٢) يوم الفتح: يوم فتح مكة.
(١٣) حباه الله: أعطاه الله.
(١٤) يعض بنان الندم: كناية عن شدة الندم.
(١٥) مواطن كثيرة: مواقف كثيرة.
(١٦) لهم أسنان: متقدمون في السن.
(١٧) الحلم: العقل.
(١٨) النفر: الجماعة.
(١٩) على شاكلته: على طريقته.
(٢٠) أربأ بهم عن الشرك: لا أرضاه لهم ولا أجدهم أهلا له.
(٢١) سهيل بن عمرو: انظره ص ٥١١.
(٢٢) آلى على نفسه: قطع عهدا على نفسه.
(٢٣) آلت إليه: أصبحت في ملكه.
(٢٤) ليأتمروا برسول الله: ليتآمروا على قتله.
(٢٥) مكرمة قريش: يريد الدار التي بقيت من آثار قريش.
(٢٦) هيهات: لقد بعدت عن الصواب
(٢٧) حلوة خضرة: حلو محبب للنفس.
(٢٨) بسخاوة نفس: بقناعة.
(٢٩) بإشراف نفس: بطمع.
(٣٠) لأخذ عطائه: لأخذ حقه من بيت المال.
مختارات