29. عمير بن سعد
عمير بن سعد
"في كبره"
"لكم وددت أن لي رجالا مثل عمير بن سعد لأستعين بهم في أعمال المسلمين"
[عمر بن الخطاب]
وقفنا آنفا (١) على صورة فذة (٢) وضيئة من حياة الصحابي الجليل عمير بن سعد في صغره، فتعالوا نقف الآن على صورة رائعة مشرقة من حياته في كبره، وستجدون أن الصورة الثانية لن تقل عن الأولى جلالا وبهاء.
* * *
كان أهل "حمص" (٣) شديدي التذمر من ولاتهم، كثيري الشكوى منهم، فما جاءهم من وال إلا وجدوا فيه عيوبا، وأحصوا له ذنوبا، ورفعوا أمره إلى خليفة المسلمين، وتمنوا عليه أن يبدلهم من هو خير منه.
فعزم الفاروق رضوان الله عليه أن يبعث إليهم بوال لا يجدون فيه مطعنا ولا يرون في سيرته مغمزا (٤).
فنثر كنانة (٥) رجاله بين يديه، وعجم (٦) عيدانها عودا عودا، فلم يجد خيرا من عمير بن سعد.
وعلى الرغم من أن عميرا كان إذ ذاك يضرب (٧) في أرض الجزيرة من
بلاد الشام على رأس جيشه الغازي في سبيل الله، فيحرر المدن ويدل المعاقل (٨)، ويخضع القبائل، ويقيم المساجد في كل أرض وطئتها قدماه …
على الرغم من ذلك فقد دعاه أمير المؤمنين، وعهد إليه بولاية "حمص" وأمره بالتوجه إليها، فأذعن للأمر على كره منه لأنه كان لا يؤثر (٩) شيئا على الجهاد في سبيل الله.
* * *
بلغ عمير "حمص" فدعا الناس إلى صلاة جامعة.
ولما قضيت الصلاة خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه محمد ﷺ ثم قال:
"أيها الناس، إن الإسلام حصن منيع، وباب وثيق (١٠)، وحصن الإسلام العدل وبابه الحق …
فإذا دك الحصن وحطم الباب استبيح حمى هذا الدين …
وإن الإسلام ما يزال منيعا ما اشتد السلطان …
وليست شدة السلطان ضربا بالسوط (١١) ولا قتلا بالسيف، ولكن قضاء بالعدل وأخذا بالحق".
ثم انصرف إلى عمله لينفذ ما اختطه لهم من دستور في خطبته القصيرة.
* * *
قضى عمير بن سعد حولا (١٢) كاملا في "حمص" لم يكتب خلاله لأمير المؤمنين كتابا، ولم يبعث إلى بيت مال المسلمين من الفيء (١٣) درهما
ولا دينارا، فأخذت الشكوك تساور (١٤) عمر إذ كان شديد الخشية على ولاته من فتنة الإمارة، فلا معصوم عنده غير رسول الله ﷺ.
فقال لكاتبه: اكتب إلى عمير بن سعد وقل له: إذا جاءك كتاب أمير المؤمنين فدع "حمص" وأقبل عليه، واحمل معك ما جبيت من فيء المسلمين.
* * *
تلقى عمير بن سعد كتاب عمر ﵁ وعن عمير؛ فأخذ جراب زاده (١٥) وحمل على عاتقه (١٦) قصعته (١٧) ووعاء وضوئه، وأمسك بيده حربته، وخلف "حمص" وإمارتها وراءه، وانطلق يحث الخطا - مشيا على قدميه - إلى المدينة.
فما كاد يبلغ عمير المدينة حتى كان قد شحب لونه، وهزل جسمه وطال شعره، وظهرت عليه وعثاء (١٨) السفر.
* * *
دخل عمير على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فدهش الفاروق من حالته وقال: ما بك يا عمير؟!.
فقال: ما بي من شيء - يا أمير المؤمنين - فأنا صحيح معافى - بحمد الله - أحمل معي الدنيا كلها وأجرها من قرنيها.
فقال: وما معك من الدنيا؟ [وهو يظن أنه يحمل مالا لبيت مال المسلمين].
فقال: معي جرابي وقد وضعت فيه زادي …
ومعي قصعتي آكل فيها وأغسل عليها رأسي وثيابي.
ومعي قربة لوضوئي وشرابي …
ثم إن الدنيا كلها - يا أمير المؤمنين - تبع لمتاعي هذا، وفضلة لا حاجة لي ولا لأحد غيري فيها.
فقال عمر: وهل جئت ماشيا؟!.
قال: نعم يا أمير المؤمنين.
فقال عمر: أما أعطيت من الإمارة دابة تركبها؟!.
فقال: هم لم يعطوني، وأنا لم أطلب منهم.
فقال عمر: وأين ما أتيت به لبيت المال؟.
فقال: لم آت بشيء.
فقال عمر: ولم؟!.
فقال: لما وصلت إلى "حمص"؛ جمعت صلحاء أهلها، ووليتهم جمع فيئهم، فكانوا كلما جمعوا شيئا منه؛ استشرتهم في أمره ووضعته في مواضعه، وأنفقته على المستحقين منهم.
فقال عمر لكاتبه: جدد عهدا لعمير على ولاية "حمص".
فقال عمير: هيهات (١٩) … فإن ذلك شيء لا أريده، ولن أعمل لك ولا لأحد بعدك يا أمير المؤمنين.
ثم استأذنه بالذهاب إلى قرية في ضواحي المدينة يقيم بها أهله، فأذن له.
* * *
لم يمض على ذهاب عمير إلى قريته وقت طويل حتى أراد عمر أن يختبر صاحبه، وأن يستوثق من أمره؛ فقال لواحد من ثقاته يدعى الحارث:
انطلق يا حارث إلى عمير بن سعد، وانزل به كأنك ضيف، فإن رأيت عليه آثار نعمة؛ فعد كما أتيت.
وإن وجدت حالا شديدة فأعطه هذه الدنانير …
وناوله صرة فيها مائة دينار.
* * *
انطلق الحارث حتى بلغ قرية عمير بن سعد، فسأل عنه فدل عليه.
فلما لقيه قال: السلام عليك ورحمة الله.
فقال عمير: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، من أين قدمت؟.
فقال: من المدينة.
فقال عمير: كيف تركت المسلمين؟.
فقال: بخير.
فقال عمير: كيف أمير المؤمنين؟.
فقال: صحيح صالح.
فقال عمير: أليس يقيم الحدود؟!.
قال: بلى، ولقد ضرب ابنا له لفاحشة أتاها.
فقال عمير: اللهم أعن عمر، فإني لا أعلمه إلا شديد الحب لك.
* * *
أقام الحارث في ضيافة عمير بن سعد ثلاث ليال، فكان يخرج له في كل ليلة قرصا من الشعير.
فلما كان اليوم الثالث؛ قال للحارث رجل من القوم:
لقد أجهدت (٢٠) عميرا وأهله؛ فليس لهم إلا هذا القرص الذي يؤثرونك (٢١) به على أنفسهم، وقد أضر بهم الجوع والجهد، فإن رأيت أن تتحول عنهم إلي فافعل …
* * *
عند ذلك أخرج الحارث الدنانير، ودفعها إلى عمير.
فقال عمير: ما هذه؟!!.
فقال الحارث: بعث بها إليك أمير المؤمنين.
فقال: ردها إليه، واقرأ عليه السلام، وقل له: لا حاجة لعمير بها.
فصاحت امرأته - وكانت تسمع ما يدور بين زوجها وضيفه - وقالت:
خذها - يا عمير - فإن احتجت إليها أنفقتها، وإلا وضعتها في مواضعها (٢٢)، فالمحتاجون هنا كثير.
فلما سمع الحارث قولها؛ ألقى الدنانير بين يدي عمير وانصرف، فأخذها عمير وجعلها في صرر صغيرة ولم يبت ليلته تلك إلا بعد أن وزعها بين ذوي الحاجات، وخص منهم أبناء الشهداء.
* * *
عاد الحارث إلى المدينة، فقال له عمر: ما رأيت يا حارث؟.
فقال: حالا شديدة يا أمير المؤمنين.
فقال عمر: أدفعت إليه الدنانير؟.
فقال: نعم، يا أمير المؤمنين.
فقال عمر: وما صنع بها؟!
فقال: لا أدري، وما أظنه يبقي لنفسه منها درهما واحدا.
فكتب الفاروق إلى عمير يقول: إذا جاءك كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تقبل علي.
* * *
توجه عمير بن سعد إلى المدينة، ودخل على أمير المؤمنين، فحياه عمر ورحب به وأدنى مجلسه (٢٣) ثم قال له: ما صنعت بالدنانير يا عمير؟!.
فقال: وما عليك منها يا عمر بعد أن خرجت لي عنها؟!!!.
فقال: عزمت عليك أن تخبرني بما صنعت بها.
فقال: ادخرتها لنفسي لأنتفع بها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون …
فدمعت عينا عمر، وقال: أشهد أنك من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة (٢٤) … ثم أمر له بوسق (٢٥) من طعام وثوبين.
فقال عمير: أما الطعام فلا حاجة لنا به يا أمير المؤمنين، فقد تركت عند أهلي صاعين من شعير، وإلى أن نأكلهما يكون الله ﷿ قد جاءنا بالرزق …
وأما الثوبان فآخذهما لأم فلان [يعني زوجته]، فقد بلي ثوبها وكادت تعرى.
* * *
لم يمض طويل وقت على ذلك اللقاء بين الفاروق وصاحبه حتى أذن الله لعمير بن سعد بأن يلحق بنبيه وقرة عينه محمد بن عبد الله ﷺ بعد أن طالت أشواقه إلى لقائه.
فمضى عمير في طريق الآخرة وادع النفس، واثق الخطو، لا يثقل كاهله شيء من أحمال الدنيا، ولا يؤود (٢٦) ظهره عبء من أثقالها …
مضى ليس معه إلا نوره وهداه، وورعه وتقاه …
فلما بلغ الفاروق نعيه، وشح الحزن وجهه، واعتصر الأسى فؤاده وقال:
"وددت أن لي رجالا مثل عمير بن سعد أستعين بهم في أعمال المسلمين".
* * *
رضي الله عن عمير بن سعد وأرضاه …
فقد كان نمطا فريدا بين الرجال …
وتلميذا متفوقا في مدرسة محمد بن عبد الله … (*).
_________
(١) آنفا: قريبا.
(٢) فذا: فريدا.
(٣) حمص: مدينة في سورية بين دمشق وحلب، فيها قبر خالد بن الوليد ﵁.
(٤) مغمزا: عيبا.
(٥) الكنانة: الجعبة التي توضع فيها السهام.
(٦) عجم عيدانها: اختبرها، وفي الكلام تشبيه للرجال بالسهام.
(٧) يضرب: يسير غازيا.
(٨) المعاقل: الحصون.
(٩) لا يؤثر: لا يفضل.
(١٠) وثيق: متين.
(١١) السوط: جلد مضفور يضرب به.
(١٢) حولا: عاما.
(١٣) الفيء: الخراج.
(١٤) تساور عمر: تدور في نفس عمر.
(١٥) جراب زاده كيس طعامه.
(١٦) العاتق: الكتف.
(١٧) القصعة: وعاء يؤكل فيه.
(١٨) وغثاء السفر: آثار مشقة السفر.
(١٩) هيهات: كلمة تقال عند استبعاد أمر ما.
(٢٠) أجهدت عميرا: عنيته، وألحقت به الضرر.
(٢١) يؤثرونك: يفضلونك.
(٢٢) وضعتها في مواضعها: أنفقتها في طريقها.
(٢٣) أدنى مجلسه: قربه إليه دلالة على الإكرام.
(٢٤) الخصاصة: الحاجة.
(٢٥) الوسق: ستون صاعا، وهي تقدر بحمل بعير.
(٢٦) يؤود ظهره: يثقل ظهره ويتعبه.
مختارات