28. عمير بن سعد
عمير بن سعد
"في صغره"
"عمير بن سعد نسيج وحده"
[عمر بن الخطاب]
تجرع الغلام عمير بن سعد الأنصاري كأس اليتم والفاقة (١) منذ نعومة أظفاره …
فقد مضى أبوه إلى ربه دون أن يترك له مالا أو معيلا.
لكن أمه ما لبثت أن تزوجت من ثري من أثرياء "الأوس" (٢)، يدعى "الجلاس بن سويد"، فكفل ابنها عميرا، وضمه إليه.
وقد لقي عمير من بر الجلاس وحسن رعايته وجميل عطفه ما جعله ينسى أنه يتيم.
فأحب عمير الجلاس حب الابن لأبيه، كما أولع الجلاس بعمير ولع الوالد بولده.
وكان كلما نما عمير وشب، يزداد الجلاس له حبا، وبه إعجابا؛ لما كان يرى فيه من أمارات الفطنة (٣) والنجابة التي تبدو في كل عمل من أعماله، وشمائل (٤) الأمانة والصدق التي تظهر في كل تصرف من تصرفاته.
* * *
وقد أسلم الفتى عمير بن سعد، وهو صغير لم يجاوز العاشرة من عمره
إلا قليلا، فوجد الإيمان في قلبه الغض مكانا خاليا فتمكن منه، وألفى (٥) الإسلام في نفسه الصافية الشفافة تربة خصبة فتغلغل في ثناياها؛ فكان على حداثة سنه لا يتأخر عن صلاة خلف رسول الله ﷺ، وكانت أمه تغمرها الفرحة كلما رأته ذاهبا إلى المسجد أو آيبا منه، تارة مع زوجها وتارة وحده.
* * *
وسارت حياة الغلام عمير بن سعد على هذا النحو: هانئة وادعة لا يعكر صفوها معكر، ولا يكدر هناءتها مكدر، حتى شاء الله أن يعرض الغلام اليافع (٦) لتجربة من أشد التجارب عنفا وأقساها قسوة، وأن يمتحنه امتحانا قلما مر بمثله فتى في سنه.
ففي السنة التاسعة للهجرة أعلن الرسول صلوات الله وسلامه عليه عزمه على غزو الروم في "تبوك" (٧) وأمر المسلمين بأن يستعدوا ويتجهزوا لذلك.
وكان إذا أراد أن يغزو غزوة لم يصرح بها، وأوهم أنه يريد جهة غير الجهة التي يقصد إليها، إلا في غزوة "تبوك"، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة (٨)، وعظم المشقة، وقوة العدو؛ ليكون الناس على بينة من أمرهم، فيأخذوا للأمر أهبته (٩) ويعدوا له عدته.
وعلى الرغم من أن الصيف كان قد دخل، والحر قد اشتد، والثمار قد أينعت، والظلال قد طابت، والنفوس قد ركنت إلى التراخي والتكاسل؛ على الرغم من ذلك كله فقد لبى المسلمون دعوة نبيهم وأخذوا يتجهزون ويستعدون.
غير أن طائفة من المنافقين (١٠) أخذوا يثبطون (١١) العزائم، ويوهنون (١٢) الهمم، ويثيرون الشكوك، ويغمزون (١٣) الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ويطلقون في مجالسهم الخاصة من الكلمات ما يدمغهم بالكفر دمغا (١٤).
* * *
وفي يوم من هذه الأيام التي سبقت رحيل الجيش، عاد الغلام عمير بن سعد إلى بيته بعد أداء الصلاة في المسجد وقد امتلأت نفسه بطائفة مشرقة من صور بذل المسلمين وتضحيتهم رآها بعينيه، وسمعها بأذنيه.
فقد رأى نساء المهاجرين والأنصار يقبلن على رسول الله ﷺ وينزعن حليهن ويلقينه بين يديه ليجهز بثمنه الجيش الغازي في سبيل الله.
وأبصر بعيني رأسه عثمان بن عفان (١٥) يأتي بجراب فيه ألف دينار ذهبا، ويقدمه للنبي.
وشهد عبد الرحمن بن عوف (١٦) يحمل على عاتقه مائتي أوقية من الذهب ويلقيها بين يدي النبي الكريم ﷺ.
بل إنه رأى رجلا يعرض فراشه للبيع؛ ليشتري بثمنه سيفا يقاتل به في سبيل الله.
فأخذ عمير يستعيد هذه الصور الفذة (١٧) الرائعة، ويعجب من تباطؤ الجلاس عن الاستعداد للرحيل مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه، والتأخر عن البذل على الرغم من قدرته ويساره (١٨).
وكأنما أراد عمير أن يستثير همة الجلاس ويبعث الحمية (١٩) في نفسه؛ فأخذ يقص عليه أخبار ما سمع ورأى، وخاصة خبر أولئك النفر من المؤمنين الذين قدموا على رسول الله ﷺ، وسألوه في لوعة أن يضمهم إلى الجيش الغازي في سبيل الله؛ فردهم النبي لأنه لم يجد عنده من الركائب ما يحملهم عليه، فتولوا (٢٠) وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما يبلغهم أمنيتهم في الجهاد، ويحقق لهم أشواقهم إلى الاستشهاد.
لكن الجلاس ما كاد يسمع من عمير ما سمع حتى انطلقت من فمه كلمة أطارت صواب (٢١) الفتى المؤمن …
إذ سمعه يقول:
"إن كان محمد صادقا فيما يدعيه من النبوة فنحن شر من الحمير".
* * *
لقد شده (٢٢) عمير مما سمع؛ فما كان يظن أن رجلا له عقل الجلاس وسنه، تند (٢٣) من فمه مثل هذه الكلمة التي تخرج صاحبها من الإيمان دفعة واحدة، وتدخله في الكفر من أوسع أبوابه.
وكما تنطلق الآلات الحاسبة الدقيقة في حساب ما يلقى إليها من المسائل، انطلق عقل الفتى عمير بن سعد يفكر فيما يجب عليه أن يصنعه:
لقد رأى أن في السكوت عن الجلاس والتستر عليه خيانة لله ورسوله، وإضرارا بالإسلام الذي يكيد له المنافقون ويأتمرون به (٢٤).
وأن في إذاعة ما سمعه عقوقا بالرجل الذي ينزل من نفسه منزلة الوالد، ومجازاة لإحسانه إليه بالإساءة …
فهو الذي آواه من يتم وأغناه من فقر وعوضه عن فقد أبيه.
وكان على الفتى أن يختار بين أمرين أحلاهما مر.
وسرعان ما اختار …
فالتفت إلى الجلاس وقال: والله يا جلاس ما كان على ظهر الأرض أحد بعد محمد بن عبد الله أحب إلي منك …
فأنت آثر (٢٥) الناس عندي، وأجلهم يدا (٢٦) علي، ولقد قلت مقالة إن ذكرتها فضحتك، وإن أخفيتها خنت أمانتي وأهلكت نفسي وديني، وقد عزمت على أن أمضي إلى رسول الله ﷺ، وأخبره بما قلت، فكن على بينة من أمرك.
* * *
مضى الفتى عمير بن سعد إلى المسجد، وأخبر النبي بما سمع من الجلاس بن سويد.
فاستبقاه الرسول صلوات الله عليه عنده، وأرسل أحد أصحابه ليدعو له الجلاس.
وما هو إلا قليل حتى جاء الجلاس فحيا رسول الله ﷺ، وجلس بين يديه، فقال له النبي:
(ما مقالة سمعها منك عمير بن سعد؟!) … وذكر له ما قاله.
فقال الجلاس: كذب علي يا رسول الله وافترى، فما تفوهت بشيء من ذلك.
وأخذ الصحابة ينقلون أبصارهم بين الجلاس وفتاه عمير بن سعد كأنهم يريدون أن يقرؤوا على صفحتي وجهيهما (٢٧) ما يكنه (٢٨) صدراهما.
وجعلوا يتهامسون … فقال واحد من الذين في قلوبهم مرض (٢٩): فتى عاق أبى إلا أن يسيء لمن أحسن إليه.
وقال آخر: بل إنه غلام نشأ في طاعة الله، وإن قسمات (٣٠) وجهه لتنطق بصدقه.
والتفت الرسول صلوات الله عليه إلى عمير فرأى وجهه قد احتقن (٣١) بالدم، والدموع تتحدر مدرارا من عينيه؛ فتتساقط على خديه وصدره وهو يقول:
اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمت به …
اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمت به …
فانبرى (٣٢) الجلاس وقال: إن ما ذكرته لك يا رسول الله هو الحق، وإن شئت تحالفنا (٣٣) بين يديك.
وإني أحلف بالله أني ما قلت شيئا مما نقله لك عمير.
فما إن انتهى من حلفه وأخذت عيون الناس تنتقل عنه إلى عمير بن سعد حتى غشيت (٣٤) رسول الله صلوات الله عليه السكينة، فعرف الصحابة أنه
الوحي، فلزموا أماكنهم، وسكنت جوارحهم، ولاذوا بالصمت (٣٥) وتعلقت أبصارهم بالنبي.
وهنا ظهر الخوف والوجل على الجلاس …
وبدا التلهف والتشوف (٣٦) على عمير …
وظل الجميع كذلك حتى سري (٣٧) عن رسول الله ﷺ، فتلا قوله جل وعز:
﴿يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك (٣٨) خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير (٧٤)﴾ (٣٩).
فارتعد الجلاس من هول ما سمع، وكاد ينعقد لسانه من الجزع، ثم التفت إلى رسول الله ﷺ وقال:
بل أتوب يا رسول الله …
بل أتوب …
صدق عمير - يا رسول الله - وكنت من الكاذبين.
اسأل الله أن يقبل توبتي، جعلت فداك يا رسول الله.
وهنا توجه الرسول صلوات الله عليه إلى الفتى عمير بن سعد، فإذا دموع الفرح تبلل وجهه المشرق بنور الإيمان.
فمد الرسول يده الشريفة إلى أذنه وأمسكها برفق وقال:
(وفت أذنك - يا غلام - ما سمعت، وصدقك ربك).
* * *
عاد الجلاس إلى حظيرة الإسلام وحسن إسلامه.
وقد عرف الصحابة صلاح حاله مما كان يغدقه (٤٠) على عمير من بر.
وقد كان يقول كلما ذكر عمير:
جزاه الله عني خيرا، فقد أنقذني من الكفر، وأعتق رقبتي من النار.
وبعد … فليست هذه أوضأ (٤١) صورة في حياة الغلام الصحابي عمير بن سعد، ولا أشدها تألقا.
وإنما في حياته من الصور ما هو أزهى وأجمل.
فإلى لقاء آخر مع عمير بن سعد في كبره.
_________
(١) الفاقة: الفقر.
(٢) الأوس: قبيلة عظيمة من الأزد كانت تسكن المدينة، وقد عاهدت الرسول صلوات الله عليه على حمايته.
(٣) أمارات الفطنة: علامات الذكاء.
(٤) الشمائل: الخصال والصفات.
(٥) ألفى: وجد.
(٦) اليافع: الغلام الذي قارب البلوغ.
(٧) تبوك: موضع على حدود الشام وقعت فيه المعركة المعروفة بين المسلمين والروم.
(٨) لبعد الشقة: لبعد المسافة.
(٩) يأخذوا للأمر أهبته: يستعدوا للأمر.
(١٠) المنافقون: الذي يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام.
(١١) يثبطون العزائم: يضعفون العزائم.
(١٢) يوهنون الهمم: يضعفون الهمم.
(١٣) يغمزون الرسول: يذكرونه بسوء.
(١٤) يدمغهم بالكفر دمعا: يسمهم بالكفر وسما.
(١٥) عثمان بن عفان: انظره ص ٥٣٥.
(١٦) عبد الرحمن بن عوف: انظره ص ٢٤٩.
(١٧) الصور الفذة: الصور الرائعة الفريدة.
(١٨) اليسار: الغنى.
(١٩) الحمية: النخوة والمروءة …
(٢٠) فتولوا: فرجعوا.
(٢١) أطارت صواب الفتى: أذهلته وأطارت عقله.
(٢٢) شده: دهش وتحير.
(٢٣) تند: تشرد.
(٢٤) يأتمرون به: يحدث بعضهم بعضا بإيذائه.
(٢٥) آثر الناس عندي: أحب الناس وأقربهم إلي.
(٢٦) أجلهم يدا: أعظمهم نعمة علي.
(٢٧) صفحة الوجه: ما يبدو منه للناظر.
(٢٨) يكنه صدراهما: يخفيه صدراهما.
(٢٩) في قلوبهم مرض: في قلوبهم شبهة نفاق.
(٣٠) قسمات وجهه: ملامح وجهه.
(٣١) احتقن بالدم: تجمع الدم فيه.
(٣٢) انبرى: برز واندفع.
(٣٣) تحالفنا: حلف كل منا على صحة كلامه.
(٣٤) غشيته السكينة: نزلت عليه وغطته.
(٣٥) لاذوا بالصمت: التزموا الصمت وانقطعوا عن الكلام.
(٣٦) التشوف: التطلع.
(٣٧) سري عن الرسول: زال عنه أثر الوحي.
(٣٨) يك: أصلها يكن، حذفت نونها تخفيفا.
(٣٩) سورة التوبة: آية ٧٤.
(٤٠) يغدقه: يعطيه بسخاء.
(٤١) أوضأ: أكثر وضاءة وإشراقا.
مختارات